النهاية الغامضة لصديقي! .. قصة قصيرة
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: ساعتين و 54 دقيقة
الأربعاء 06 نوفمبر-تشرين الثاني 2024 06:33 م
  

قصة قصيرة 

 

حين ذهبت إلى مقيل أحد الزملاء بهرني الشاب الجالس بجواري بتحليلاته العميقة وطرحه الرصين، ظل يتحدث والجميع منصتون إليه يستفيدون مما يقول.

أذكر مما قاله: " إسرائيل هذه قاعدة عسكرية أمريكية غربية مشتركة، هي لا تستهدف أرض فلسطين ولا تسعى للتوسع من النيل إلى الفرات فحسب، هي تستهدف زعزعة أمن المنطقة كلها وإغراقها بالمشاكل والحروب والفوضى، لديهم جهات مخصصة لذلك وفرق عديدة وميزانيات كبيرة".

وأضاف:

ــ المقاومة الآن لا تواجه الكيان فحسب أنها تواجه الدول الكبرى وأدواتها في المنطقة".

ثم تحدث لمدة ساعة وأورد الكثير من الأرقام الدقيقة والإحصائيات الهامة وعلق على الأحداث.

أعجبت به وسألت نفسي:

ــ كيف لم أعرفه من قبل؟!

بعد صلاة العصر ملت على أحدهم وسألته عنه فقال:

ــ هذا واحد مجنون من البلاد؟

ــ مجنون؟!

ــ مش مجنون تماما، لكنه ملذوع.!

وأضاف: 

ــ خرج من مستشفى الأمراض العقلية قبل أيام، آثار جلسات الكهرباء ما تزال في جسمه.

أثار حديثه شكوكي واستغرابي:

ــ كيف مجنون ويتحدث بهذا العمق؟!

لم تبد عليه أي علامة للاضطراب العقلي، فلماذا يتم الزج به في المصحة وتعذيبه؟!

بعد العصر صمت تماماً رغم محاولات البعض جره للحديث والتعليق على الأحداث.

نظرت إليه، كان غارقاً في شروده كأنه في عالم آخر.!

فجأة مال علي قائلاً:

ــ سأخبرك بسر لكن أرجوك لا تحدث به أحد.

ــ سرك في بير، قل ولا تخف.

ــ أنا صدام حسين.

ــ أنت صدام حسين رئيس العراق الأسبق أو تشابه أسماء؟!

ــ أنا صدام حسين الثاني، لست البيولوجي.

ــ .........................

قلت في نفسي:

ـ قد كنت تمام يا أستاذ لماذا تغيرت؟!

لم يعجبه سكوتي فقال:

ــ أنت لم تصدق أنني صدام؟

ــ أنت صدام حسين بشحمه ولحمه.

ابتسم وتهلل وجهه وغمرته سعادة لا توصف، ثم مضى يفلسف الأمر:

ــ لست صدام حسين التكريتي الرئيس المغدور أبو عدي وقصي، أنا صدام حسين الفكرة، صدام المنهج، المسار.

قام من مجلسه، مضى حتى وسط المجلس، وبدأ يتحدث:

ــ قال عمر المختار: نحن أمة لا تموت، ننتصر أو نستشهد، نحن أمة لها خصوصية عجيبة، ننساق للقدوات ونتبع الرموز، ولذا الآن هناك حرب شعواء موازية على كل قدوة، وعلى كل مؤهل لأن يكون قدوة.

وأضاف:

ــ لدينا الآن قدوات ورموز ولكنهم شوهوها وحاربوها واتهموها بالإرهاب واختلقوا لها التهم....

ومضى يتحدث لمدة ساعة والكل منصت إليه.

ثم عاد إلى مجلسه.

بعد المغرب خرجنا سويا فدعوته للعشاء في المطعم، تعشينا وتحدث:

ــ بعد وفاة الوالد عمي كان الوصي علينا، تزوج الوالدة وحولنا إلى خدم له، باع ممتلكات الوالد من المواشي إلى الأرض، وحين كبرت البنات زوجهن واستلم الثمن.

ولأني الولد الوحيد فقد طردني من بيت الوالد فذهبت إلى عمي في قرية مجاورة فدرسني وتكفل بي حتى كبرت.

حين كبرت طالبت عمي بدفع ثمن أراضي الوالد التي باعها، فشتمني واتهمني بأني عاصي وصايع ضائع ونشر عني الشائعات المغرضة لتشويهي.

رفعت دعوى قضائية ضده، شهد معي الكثير من الناس ومن الأقارب، بعد سنوات صدر الحكم ضده وتم إلزامه بإعادة شراء الأرض التي باعها وتسليمها لي وحينها جن جنونه وتهرب من تنفيذ الحكم.

تم احتجازه لتنفيذ الحكم لكنه خرج بكفالة، وما يزال يتهرب من تنفيذ الحكم.

لم يكتف عمي بتشويهي والافتراء علي بل كان يرسل مجموعة من الأشخاص يخطفونني إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالقوة بدعوى أنني مجنون.

كانوا يعطون مبالغ مالية لإدارة المستشفى وأوراق مزورة تؤكد اضطرابي العقلي، أظل بالمستشفى عدة أيام، يخضعونني لجلسات كهرباء بالقوة حتى أفقد عقلي لكن الله حفظ لي عقلي، بعد ذلك أناقش الأطباء والمدير وأتصل بزملائي فيأتون يشهدون بأنني عاقل فيطلقون سراحي.!

بسبب ما يحدث لي صرت أشرد كثيرا، وأفكر كثيرا، وأحياناً بصوت مسموع " أكلم نفسي" فاتهموني بأني ملذوع.!

ومضى يشكو والدموع تسيل من عينيه:

ــ أنت لا تدري كم هي جلسات الكهرباء مؤلمة ؟!

ألم فظيع. كأنهم يلقون بك في أخدود من نار محرقة تتخبط فيها.

كانوا يعذبونني وهم يعلمون أنني بريء، لكنهم يعملون بالمبالغ التي يستلمونها، يجوعونني ويحرمونني من كل مقومات الحياة.!

وضعوني بين أعتى المجانين، أشخاص خطرون متوحشون، وكنت أخوض معهم صراعا لحماية نفسي.

لقد ظلموني وشنوا علي الحرب لكي أفقد عقلي، وكانت الصلاة والاستغفار ملجئي.

الأيام في المصحة كئيبة والليالي سوداء قاتمة، الساعات تمضي فيها بطيئة موحشة، لا تسمع إلا صراخ من يتعرضون للجلسات الكهربائية، أو أنين وشكاوى، هلوسات وهستيريا من البعض، إزعاج وضجيج من الآخرين.

تجويع وإزعاج وتعذيب ونظرات احتقار وشتائم وتهديد. حياة مخيفة كأنها كابوس طويل، لولا رحمة ربي لكنت قد انتهيت.

كنت قد تخيلت نفسي مكانه واجتاحني الخوف والاشمئزاز، تساقطت دموعي رغما عني وواصل حديثه: 

كان النوم الهادئ حلم بالنسبة لي، وكانت أقصى أمنية لي أن أنجو من أولئك الأشخاص الخطرون، أنام نصف نوم، كلي حذر وترقب.

حين أخرج من المستشفى أنام لأيام متواصلة، ثم أظل لأيام غير مصدق أنني خرجت من ذلك الكابوس الرهيب.

أظل عند أصدقائي لفترة ثم يعاود عمي تمويل العصابة المتخصصة في إيذائي، يترقبون خروجي ثم يهجمون علي ويخطفونني إلى المستشفى الرهيب.

قاطعته:

ــ لماذا لا تشكوهم وتبلغ الشرطة؟!

ــ شكوتهم وبلغت ضدهم أكثر من عشرين مرة.

ولكن الشرطة لن تحرسك في كل مكان تذهب إليه.

عمي أرسل أحدهم إلي قال:

ــ تتنازل عن القضية المرفوعة ضد عمك وتسامحه ويتوقف هو عن أذيتك.

 رفضت ومازالت الحرب مستمرة بيننا.

كان خائفا يترقب فأوصلته إلى منزل ذلك الزميل وعدت وقلبي يطفح بالألم لأجله، ولكن ماذا أستطيع أن أصنع له؟! 

 

حين ذهبت لذلك المقيل قبل أيام لم أجده سألته عنه فأخبروني أنهم قد اختطفوه من جديد إلى مستشفى الأمراضالعقلية، وأنهم عذبوه حتى كادوا يزهقون روحه، ولما أوشك على الموت أرسلوه للعلاج بأحد المستشفيات.

قررت زيارته.

لكنه كان في غيبوبة لم يعرفني ولم يعرف أحد.

حين خرجت من عنده ناداني الطبيب المشرف على علاجه وسألني:

ــ أنت قريبه؟

ــ صديق له.

ــ نريد أقاربه حتى يدفعوا تكاليف علاجه.

ضحكت رغم ألمي فأبدى استغرابه فقلت:

ــ أقاربه هم أمرضوه وعذبوه وأنت تريدهم يدفعون تكاليف علاجه؟!

أبد حزنه وتأسفه وضرب كفاً بكف لكنه فاجأني بقوله:

ــ نحن مضطرون لإخراجه من المستشفى، سنتصل بمن أوصلوه ليأخذوه.

ذهبت إلى المدير وتوسلت إليه أن يبقيه، وأن تتكفل المستشفى بعلاجه كمبادرة إنسانية، وسوف نشكرهم في كل وسائل الإعلام لكنه رفض.!

غادرت وقد أسودت الدنيا في عيني.

عدت إلى زملائه وطرحت عليهم قضية علاجه فوجدت حالهم يشبه حالي.

رجعت إلى منزلي وبي من الحزن ما زاد آلامي وأوجع قلبي ورفع لي السكري.

ومن يومها وأنا أدعوا له وأسأل نفسي:

ــ ترى ماذا حدث له؟ وهل ما يزال على قيد الحياة أم قد رحل إلى من لا يظلم أحدا عنده؟!

 

******