مذكرات استاذ جامعي في بلاد الخليج.. الجزء الثالث 2-4
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنة و 7 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 11 إبريل-نيسان 2023 01:51 ص

 تحدثتُ باختصار في الحلقة الماضية عن عوامل حماية الله للخليج من السقوط والانهيار- في تقديري- ونواصل اليوم الحديث عن رحلتي عبر الرَّبْع الخالي إلى بعض دول الخليج، وحديثٌ ذو شجون عن القنبلة الطائفية، وكيف استطاعت دول الخليج تجنب الصراعات الطائفية، وتجنب الانفجار الطائفي العظيم الذي يكتنف المنطقة برمتها، فيما سقط آخرون لعقودٍ من الزمن في وحل هذه الصراعات الطائفية، وكلما قال المرء انقضت تمادت واستشرت وتستشري هذه الحروب الطائفية في جسد الأمة من شرقها إلى غربها، كما هو الحال في معظم الدول العربية، بخلاف دول الخليج التي تجاوزت إلى حدٍ كبير هذه الفتنة، رغم بروزها – فكريًا وأمنيًا- بين الحين والآخر، وحديثي ليس من فراغ بل كمراقب عاش في الخليج على مدى 15 عامًا. إنّ العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص، والحرية الاقتصادية، وتوفير الخدمات بدءًا بالتعليم وانتهاءًا بتوفير الماء والكهرباء والطريق المعبد والمستشفى التخصصي، كلها عوامل كفيلة بالقضاء على فيروس الطائفية، إضافةً بالطبع إلى يقظة السلطات في الخليج، وغيرها من العوامل، كلها عوامل أدّت إلى الاستقرار النسبي في الخليج ومياهه الدافئة، وهو ما لم يحصل في بلادنا اليمن، التي عمتها الطائفية ليس على مستوى البلد، سابقًا ولاحقًا، بل أزعم أنّ الطائفية عشعشت وفرّخت حتى على مستوى الحزب الواحد والجامعة الواحدة والمؤسسة الواحدة، وهم ما يجعل قلوبنا تقطر دمًا كلما تذكر المرء تلك الأيام، أي قبل 2014م، من التجنح الحزبي والطائفي المقيت، والإقصاء بل الاستئصال، على كل الصعد والمستويات، حتى على مستوى الجامعات الأكاديمية "الشرعية"، ومرةً قابلتُ وزيرًا وأكاديميًا يمنيًا، أواخر عام 2015م، فقال لي تصور يا محمد أنّ نظام علي عبد الله صالح وحزبه استأصل كل إصلاحي في الوزارة حتى حارس مبنى الوزارة في عدن.!. أهـ.

هذا الاستئصال داخل البلد، شمل كل شيء، حتى على مستوى التعليم العام وإدارات المدارس والمشيخات وأئمة المساجد، رغم الدين الواحد والمذهب الواحد، وأحيانًا الحزب الواحد!!!!. ظني أنّ هذه النتن الطائفي نجت منه باقتدار وامتياز دول الخليج، نتيجة ما يعيشه كل مواطن من رفاهية الخدمات، أو قلْ من توفر حد الكفاية لكل مواطن، باعتباره مواطنًا، وليس باعتباره حيوانًا خبيثًا يجب استئصاله، وهو ما أسهم في هدوء واستقرار دول الخليج، إلى حد ممتاز، وليس صحيحًا أنّ السبب في ذلك هو خلو البيوتات الخليجية من السلاح، غير صحيح، فمعظم القبائل الخليجية والبيوتات لا تخلو من السلاح، ولا يكاد يخلو بيت من السلاح، رغم عدم الحاجة إليه، سيما في بعض البلدات والمناطق القبلية الخليجية. وثمة عوامل أخرى أسهمت في استقرار الخليج وتجاوزه للمحنة الطائفية وهي الاستفادة من الخدمات الأمنية والإلكترونية، فالدولة في الخليج يمكنها معرفة سجل كل مواطن، بدءًا من شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة، بل معرفة حتى حركته اليومية، وعدد غنيماته، وحبات شعر رأسه، ومن الجدير بالذكر هنا في هذا السياق أنه في عام ٢٠٠٠م، جرت محاولة فاشلة لاغتيال أحد الأمراء في بعض مدن الخليج، وتم خلال ساعات القضاء على التمرد والقبض على المجرمين، من خلال العودة إلى كشوف الغائبين عن الدوام الوظيفي اليومي الصباحي.

وهذا واقع الحال في معظم المدن الخليجية التي باتت تتمتع بحكومات إلكترونية، فقد أمكن متابعة كل ما يدور في البلد، بكل سهولة ويسر، إضافةً إلى الضربات القاتلة التي تلقتها الفئات الطائفية في العقود الماضية، وأيضًا فإنّ عُقلاء شيعة الخليج يدركون تمامًا ما آلت إليه أمور إخوانهم وأشقائهم في البلدان المجاورة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، والسعيدُ من اتعظ بغيره، فطوابير البنزين والمجاعات والتشرد ومخيمات النازحين والبرد القارص الذي لا يرحم المهّجرين في هذه البلدان، وأنهار الدماء، وأكوام الرؤوس والجماجم، جعل ليس فقط شيعة الخليج يفهمون كارثية الفتن الطائفية بل حتى كل إنسان في العالم.

وهذا الحديث ليس بالطبع للتقليل أو التهوين من الخطر الصفوي في الخليج، ولكنه محاولة لرسم خارطة طريق سليمة وصحيحة لمواجهته. في تقديري كل هذه العوامل افتقدها حكماء اليمن، وهو ما جعل لهيب الطائفية وشررها يلتهم الأخضر واليابس، وبالمناسبة ليس شيعة اليمن وحدهم هم من انقلب على الدولة، بل المجتمع ومشيخاته وساسته وجيشه هو من انقلب على السلطة، في ظل دعم إقليمي ودولي، ولو وجدت الأحزاب السنيّة العتيقة المال والسلاح لانقلبت ربما هي الأخرى على الدولة، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، كما يقال.!.

نعود إلى رحلتنا إلى الدوحة، وصلنا منفذ سلوى ومنه إلى منفذ أبو سمرة، في الطريق إلى الدوحة، كان أمامنا العديد من المسارات الكثيرة والمتعددة، وما هي إلا أقل من دقائق حتى أنجزنا إجراءات الدخول، الضباط والأمن يتعاملون مع الناس ك"أهل" وليسو كمواطنين، ولا كحربيين، كما هو الحال لدى بعض البلدان الطائفية، لكني لحظتُ غاية في التلطف والتقدير، حيث لا حاجة للعبارات النارية أو التسلطية، إذِالكلاب البوليسية والأجهزة الإلكترونية تتولى الفحص والتحري الأمني اللازمين. وتعجب ثم تعجب كيف استطاع هذا الإنسان الذي لم يعدْ بدويًا، فيما يبدو، أن يصنع من وسط الصحراء محطات الماء العذب والكهرباء التي لا تنقطع، وخدمات الاتصالات والمواصلات والقطارات، وكيف دكّ الأرض دكًا، وحوّل الجبال الشاهقة من الرمل والصّخر، إلى واحات خضراء، وكيف استطاع إزالة جبال الكثبان الرملية، فيما عجز بكل قواه وإمكاناته اللامحدودة عن إزالة الحدود بين البلدان الخليجية، بل تلحظ أنّ الحدود المصطنعة تزداد رسوخًا ونموًا وقوةً، رغم كل المحاولات للتخفيف منها.!!.

في منفذ سلوى على الجهة اليسرى تأسرك بعض الحدائق والمنتجعات بكل جمالها وروعتها. غادرتُ وحيدًا منفذ أبو سمرة، وبدأت أقلّب ذبذبات الإذاعة وإذا بي أسمع شخصياتٍ يمنية تتحدث، فتوهمت أنّ الاذاعة يمنية، فأمعنت السماع والتفكير وزدتُ في تقليب مفتاح الإذاعة وإذا بالمذيع يعلن أنّ هذه إذاعة خليجية وليست يمنية، وحقًا كما قيل إذا أردت أن تعرف قدر اليمن فعليك مغادرة اليمن!!. في الأثناء استمعت إلى الإذاعة وإذا ببعض المتحدثين من خلال أسمائهم عرفت أنّ أصولهم يمانية مثل الخامري والسادة ومراد والمجيدي والحجوري والعديني..الخ، وحدثتُ نفسي في سريةٍ تامة تُرى ماذا لو كان هؤلاء في اليمن، كيف سيكون حالهم وشأنهم؟!. بالطبع سيكون معظمهم تحت الأرض، أو مشردًا أو يسوق عربية يد في مذبح، أو مفصولاً من سكن الجامعة، أو موظفًا بدون مرتب، أو في السجن المركزي، أو أشبه بالجمل الشارد والعبد الآبق، ومن المحال أن تسمع له صوتًا أو حسًا، وسَتَصُمُّ الإذاعة اليمنية أذنيك بالحديث عن العدالة وتكافؤ الفرص والحرية والديمقراطية والشورى والعدالة والتداول السلمي. وهلم جرا .

في الحلقة والحلقات القادمة بعون الله سأتحدث عن اليمنيين في الخليج، وعن تطور الخدمات الصحية وشبكات الطرق والمساجد والتعليم والبلد المفتوح، وتعدد الثقافات واللغات والأجناس، ووضع المرأة في الخليج وحديثٌ عن أوهام المشايخ، وأشياء أخرى.

والحمد لله رب العالمين.