العنصرية وفكرة "الأب النبوي"
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 8 سنوات و 7 أشهر و 16 يوماً
الخميس 07 إبريل-نيسان 2016 02:41 م
عرّف الأنثروبولوجي ومحاضر الطب البروفيسور آشلي مونتيغيو في 1942 العنصرية بأنها «الأسطورة الأخطر على الإنسانية». أما البروفيسور روبرت فالد زوسمان، فقد قال تحت عنوان: «أسطورة العنصر ـ وجود الفكرة غير العلمية المقلقة»: «العنصــــر بالمفهــــوم البيولوجي لا يوجد في الإنسانية، الإنسانية هي عنصر واحد وجنس واحد». وهو ذات القول الذي ردده نبي الإسلام قبل قرون: «الناس لآدم وآدم من تراب».
ويرى علماء الأنثروبولوجي أن فكرة «العنصر النقي» كانت مجرد أسطورة ابتكرتها بعض الشخصيات التاريخية، لا لشيء إلا لغرض الاستحواذ على السلطة والثروة. وتحتاج فكرة «العنصر النقي» إلى غير قليل من «الميثولوجيا» والأساطير لكي تروج بين العامة، ومن ثم يقتنع بها فريق من الناس يجندون أنفسهم لها، في حين أن من جندهم إنما يخوض بهم حروبه الشخصية للاستحواذ على السلطة والثروة اللتين من أجلهما ابتكرت فكرة «العناصر النقية، والدماء الزرقاء». يحدثنا التاريخ أن أكبر ضحايا العنصرية هم العنصريون أنفسهم، حيث يكونون وقوداً للحروب التي تخاض ظاهراً في سبيل «العنصر المقدس»، أو «الأب التوتمي»، أو «الجد النبي»، أو أحياناً «الجد الإله»، كما لدى بعض القوميات، والمجموعات الإنسانية التي تؤمن بتحدرها من سلالات الآلهة. وفي الزمن المعاصر كافحت الحضارة الغربية للقضاء على التوجهات العنصرية التي أسست لها أفكار فلسفية ذات خلفيات دينية أو قومية، كما عند نيتشه الذي لا شك أن فلسفته كانت الحاضن الأكبر للفاشية والنازية في أوروبا القرن العشرين.
تميل الحضارة الغربية اليوم إلى اعتماد فلسفة تمجد «العنصر المختلط»، بدلاً من النظريات السابقة التي سادت خلال القرن الثامن عشر وما بعده، والتي سعت إلى تمجيد خرافة «العنصر النقي». وفوق ذلك، سُنَّت قوانين لتجريم العنصرية على أساس عرقي أو ديني أو ثقافي، أو على أساس اللون أو الجندر، أو غيرها.
يحدثك الإنكليزي اليوم بفخر بأن فيه دماء هندية، وأوروبية وكاريبية، ويبتسم مفتخراً، وهو يقول لك إن أحد أجداده جاء من الغابات الأفريقية. 
ومع ذلك، لا تزال بعض الأفكار العنصرية تستشري لدى بعض الجماعات العرقية أو الدينية التي ترى أنها خلاصة البشرية، وأن هناك مجموعة من الخصائص التي تميزها عن غيرها. وهنا تمتزج المشاعر الدينية بالشعور القومي العرقي لتكوين الأفكار العنصرية عند الكثير من الناس. يرى الحاخام والفقيه اليهودي إبراهام كوك أنه «خلال تعلم الطب يجب استخدام جثث من هم غير يهود، لأن الجسم اليهودي مقدس». ويرى أن «الفرق بين الروح اليهودية وبين الروح غير اليهودية أكبر وأعمق من الفرق بين الإنسان وبين البهيمة». وهناك كتابات حاخامية كثيرة تقول إن الأغيار (غير اليهود) « ليسوا بشراً، بل حيوانات، لا توجد لهم روح مثلنا».
وهتف ـ مرة ـ المتحمسون من طلبة المدارس الدينية الأصولية في إسرائيل: «اليهودي هو روح، والعربي هو ابن زانية». أما الحاخام الأكبر السفرديمي ـ الشرقي إسحق يوسف، فقد قال إنه «لا مكان للأغيار في بلاد إسرائيل، وإن وجود أغيار (يقصد العرب هنا) في البلاد المقدسة هو تعبير عن ضعفنا»، متنبئاً بأنه «عندما تكون يد إسرائيل حازمة، فإننا سنلقي بهم «إلى الســـعودية»، باستثناء أولئك الذين نبقيهم لخدمتنا». 
وفي الواقع، فإن هذه التيارات الأصولية التلمودية لا تمثل غالبية اليهود المعاصرين، الذين يميلون إلى قيم «المجتمع المعاصر»، مثل الديمقراطية والليبرالية والتعددية الثقافية، والمساواة الاجتماعية.
على الجانب المسلم، تكونت بعض الأفكار المبنية على أساس العنصر والعرق النقي، ولكن الإسلام يختلف عن اليهودية التي ربما عُدَّتْ «ديناً وعرقاً» أو «ديناً لعرق بذاته»، بينما الإسلام إجمالاً يعد «ديناً لا عرقاً»، ولذا فإنه صعب أن تبنى على أساس الإسلام أي من الأفكار العنصرية إلا بابتداع نصوص تتنافى أصلاً مع ثوابته، أو بابتكار تأويلات عنصرية لبعض نصوصه الثابتة. 
ومع ذلك فإن بعض المسلمين حاولوا ابتكار نظرية «الأب المحمدي»، الشبيهة بقضية «الأب الإسرائيلي» لدى بعض التوجهات اليهودية. ومن هنا أسست نظرية «الحق الإلهي» لـ«ذرية النبي»، دون غيرهم من الناس، أو حتى من المسلمين، وتم التأسيس لأساطير كثيرة حول «سلالة النبي» التي اصطفاها الله على أساس «عرقي عنصري»، لا علاقة له بما يكتسبه الإنسان من مكتسبات تعود إلى سلوكه وعمله وكفاحه المستمر في الحياة.
وفي هذا السياق، يرى الإمام عبدالله بن حمزة ـ وهو من أئمة الزيدية الجارودية في اليمن ـ أن الفارق بين من ينتمي إلى سلالة النبي محمد ومن لا ينتمي إلى تلك السلالة من المسلمين أنفسهم (ناهيك عن غير المسلمين)، هذا الفارق كالفرق بين «الدُر والبَعَر» وبين «الذهب والحَجَر»، وقد أفتى أن من دعى الناس إلى مبايعته بالإمامة، وهو ليس من «سلالة الحسن والحسين»، بأن ينزع لسانه من فمه، ثم يُقتل، ويُيتم أولاده، لأنه ادعى «حق الغير»، حتى إن كان مؤمناً مصلياً صائماً قائماً بالعدل وعاملاً بما جاء من أحكام في الإسلام. ويتجاوز ابن حمزة كل ذلك، ليدعي عصمته من الخطأ على أساس عنصري واضح، كما جاء في قصيدته الشهيرة التي حددت معالم رؤيته في الاصطفاء والحق الإلهي، على أساس عنصري.
وفي التاريخ المعاصر أنشأ الشاعر أحمد شوقي قصيدته «الهمزية النبوية»، في مديح النبي، التي أورد فيها شوقي أن النبي جعل الناس سواسية، لا يوجد «سوقة وأمراء»، وأنهم جميعاً «أكفاء»، حيث يقول مخاطباً النبي الكريم:
وتركتَ بعدك للأنام حكومةً
لا سُوقةٌ فيها ولا أمراءُ
الله فوقَ الخلق فيها وحدَهُ
والناسُ تحتَ لوائها أكفاءُ
الدينُ يُسرٌ والخلافة بيعةٌ
والأمر شورى والحقوقُ قضاءُ
لكن قول شوقي إن النبي جعل الناس سواسية وأكفاء، وقوله إن الحكم شورى، أغضب العلامة مجدالدين المؤيدي (من علماء الزيدية المعاصرين)، الذي رفض أفكار شوقي، واتهمه بـ«الهذيان»، وألف قصيدة يعارضه فيها، ويؤكد أن الله اصطفى «سلالته»، وأن الناس منقسمون على أساس عنصري وليس على أساس ما كسبت أيديهم، وأن هذا هو حكم الله. يقول المؤيدي:
ﺣﻜﻢُ ﺍﻹﻟﻪِ ﻭﻧﺺُ ﺳﻨﺔِ ﺃﺣﻤﺪٍ
ﺩﻉْ ﻋﻨﻚ ﻣﺎ ﺗﻬﺬﻱ ﺑﻪ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺀُ
ﺣﻜﻤﺎً ﺑﺮﻏﻢِ ﺍﻟﺠﺎﺣﺪﻳﻦَ ﺑﺤﻜﻤﻪِ
ﺑﺎلاﺧﺘﻴﺎﺭِ ﻓﻼ ﻳُﺮﺩ ﻗﻀﺎﺀ
ﻭ«ﺍلاﺻﻄﻔﺎﺀُ» ﻭﺭﻓﻊُ ﺑﻌﻀِﻜﻢُ
ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ ﺃﺗﻰ ﻓﻠﺘﺨﺴﺄ ﺍﻷﻫﻮﺍﺀ
ﺃﺗﺮﺩ ﺣﻜﻢَ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞَّ ﺟﻼﻟُﻪُ
ﻭﺗﻘﻮﻝُ ﺟﻬﻼً إﻧﻬﻦَّ ﺳﻮﺍﺀ
ﻭﺣﺪﻳﺚ ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞَّ ﻗﺪ ﺍﺻﻄﻔﻰ
ﺫﺭﻳﺔً ﻭﺭﺩﺕْ ﺑﻬﺎ ﺍﻷﻧﺒﺎﺀ
وجاء في «الوثيقة الحوثية» التي كتبها ووقع عليها عبدالملك الحوثي، وعدد كبير من علماء «التيار الجارودي» في الزيدية، قبل بضع سنين: «أما مسألة الاصطفاء فالذي نعتقده أن الله سبحانه وتعالى يصطفي من يشاء من عباده جماعات وأفرادا»، في إشارة إلى نظرية «الاصطفاء الإلهي»، التي ترتبت عليها «نظرية الحق الإلهي»، لدى بعض التيارات الإسلامية، التي تسربت إلى الحركة الحوثية التي ابتكرت «شعار البيعة»، والذي يقول:
«اللهم إنا نتولاك، ونتولى رسولك، ونتولى الإمام علي، ونتولى من أمرتنا بتوليه، سيدي ومولاي عبدالملك بدر الدين الحوثي، اللهم إنا نعادي من يعاديك، ونعادي من يعادي رسولك، ونعادي من يعادي الإمام علي، ونعادي من يعادي من أمرتنا بتوليه، سيدي ومولاي عبدالملك بدرالدين الحوثي».
وبذا يظهر أن قمة القول بالأفكار العنصرية التي تسربت إلى اليهودية أو الإسلام، إنما جاء لأغراض السلطة والثروة، وذلك يتجسد بشكل واضح في القول بحق إسرائيل في «أرض الميعاد»، لأن الله كتبها للإسرائيليين على أساس عرقي، كما يتجلى في النص على «ولاية» عبدالملك الحوثي الذي أمر الله بتوليه، حسب نص البيعة أعلاه، على الأساس العرقي أو السلالي ذاته.