سلاسل بشرية بمدينة مأرب تضامنا مع الشعب الفلسطيني ودعما لقطاع غزة - صور وزير الخارجية يستقبل الرحالة اليمني منير الدهمي بالرياض الضالع.. القوات المشتركة تدمر مرابض قناصه المليشيا وتحرز تقدما ميدانيا تفاصيل لقاء وزير الدفاع ومحافظ حضرموت باللجنة الأمنية بالمحافظة محكمة الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وتكشف عن أسبابها المنطقية عاجل: وزير الدفاع الأمريكي: سنعمل على انتزاع قدرات الحوثيين في اليمن مليشيا الحوثي تحول محافظة إب لقادتها ومشرفيها القادمين من صعدة وعمران عاجل:حريق هائل يلتهم هايبر شملان العاصمة صنعاء نقابة المعلمين اليمنيين تدين الاعتداء السافر على المعلمين في شبوة وتطالب بتحقيق عاجل ''أكد أنه لا أحد فوق القانون''.. أول مسئول كبير يحيله رئيس الحكومة للتحقيق بسبب قضايا فساد ومخالفات
بعد أيام عدتُ إلى صنعاء. أخبرتني الشركة الكندية أنها ستلحقني بمعهد يالي لتعلم اللغة الإنجليزية بصورة مكثّفة. أما والدي فقال إنه بريء من أي علاقة تربطني به بعد أن وصله أني كفّرتُ شيخ القرية. سألتني عمّتي على الهاتف هل صحيح أنك كفّرت الشيخ فقلتُ لها إن ذلك حدث قبل سنوات عندما كنتُ في الإعدادية، كنتُ لا أزال سلفياً. أما الآن فأنا إصلاحي، قلتُ لها. "وما الفرق" سألتني. قلتُ لها إنه كبير، فلم تعد تهمني عقيدة الشخص بل ميوله الانتخابية. قالت لي إنها لم تفهم كلامي فضربتُ لها مثالاً جعل الأمور أكثر صعوبة.
فقبل امتحانات الثانوية العامة بشهر واحد تقريباً أجريت الانتخابات البرلمانية الشهيرة 1997. كنت على علاقة متينة بالإصلاحيين في المدرسة ولم أكن قد التحقت بالحزب. جاءني شاب إصلاحي صباح يوم الانتخابات وسألني: هل اقترعت. قلتُ له إني سأغادر قبل الظهيرة إلى وادي الضباب وسأدلي بصوتي لصالح الشيخ صادق الضباب. "ولكنه مؤتمري" قال مستغرباً. قلتُ له: لقريتنا حساباتها الخاصة. "ونحن؟" سألني. "ليس لديكم مرشّح في دائرتنا" أجبته. قال: تعالَ معي.
خلال دقائق وجدتُ نفسي في شقّة ضيقة في شارع فرعي موازٍ لشارع جمال في تعِز. كانت الغرفة على شكل معمل مكتظ بالشباب. يعود الشاب من لجنة الاقتراع بالحبر على إبهامه فيضعونها في محلول هادئ وسرعان ما يختفي كل شيء. يمنح بطاقة جديدة ويغادر. سألت رفيقي "ما الذي يجري هُنا"؟ فقال: خذ هذه. على ظهر البطاقة قرأت اسماً طويلاً بدا كأنه جمع عن طريق الحظ "محمد علي طاهر غالب". عدت قبل العصر من وادي الضباب، في جيبي بطاقتان، الأولى باسمي والثانية باسم محمد علي طاهر غالب. في ذلك الشارع الصغير استقبلني مقوّت من الجعاشن بعد عودتي من الوادي ووضع يدي في علبة الحبر، ودعا لي بالتوفيق. اتّجهتُ إلى واحد من مراكز الاقتراع في وسط مدينة تعز، دائرة الشيخ قحطان. وعندما سألني الموظف عن اسمي ترددت لثانيتين تقريباً ثم قلتُ له ببطء شديد: اسمي محمد .. علي .. طاهر .. غالب. فأعطاني القلم وقال: تفضّل.
في معهد يالي كان كل شيء مختلفاً. في الكورس الأول كانت المعلمة شابة تقع في منتصف العشرينات. تلبس عباءة سوداء تشبه مسوح الرهبان، ذات أكمام واسعة. وعندما تكتب على السبورة كانت العباءة تنزلق حتى الساعد. كانت عذبة وناعمة وفي كل مرّة تبدو كأنها خرجت للتو من جلسة اعتراف كنَسي. سمعتها لمرة واحدة تتحدث باللهجة الصنعانية فانهارت أكثر من ثلاثين قرية بداخلي. وفي مرّة رأتني أجلس لوحدي في الكلاس، أثناء البريك، فاقتربت مني وكلمتني بلهجتها الصافية. في تلك اللحظات نسيت كل العلم وحفظت ابتسامتها، كانت نوراً وكنتُ غابة موحشة. سحبت كرسياً واقتربت مني. "سمعتُ أنك من أوائل الجمهورية" سألتني. "أيوه" قلتُ لها بخجل فقالت ما شاء الله. أبدت إعجابها بذكائي وقالت إنها توقعت ذلك عندما لاحظت بنك المفردات الضخم من الكلمات الإنجليزية الذي أحفظه فقلتُ لها إني قرأت عدداً كبيراً من الروايات باللغة الإنجليزية وكذلك مختصرات مسرحيات شكسبير. حاولت اختباري فاكتشفت إني قرأت أيضاً بعض أعمال برناردشو، قالت لي مثل ماذا، فقلتُ لها آرمس آند ذا مان، على سبيل المثال، فابتهجت. سألتني ما إذا كان الأمر عائداً للأسرة فقلت لها في بعض الأحيان لكني عملتُ في مدرسة أهلية في تعز خلال الأشهر الفائتة وسرقتُ بعض الكتب من المكتبة كما حصلتُ على ترخيص لحضور محاضرات قسم الأدب الإنجليزي بجامعة تعز وسرقتُ بعض الملازم. اندهشت لاعترافي، وانفجرت ضاحكة. "هل تسرق الكتب دائماً أم أنها مزحة" سألتني، فقلتُ لها لا يوجد ما هو أكثر طهراً من سرقة كتب أناس لا يقرأون. لكني سرعان ما نقلتُ الحوار لمكان آخر فقد سألتها بشكل مباغت "في إصلاحيين هنا في المعهد الأميركي" فضحكتْ كأنها طفلة. كانت تضحك وتضع يدها على فمها، وكانت العباءة تنزلق إلى كوعها وكنتُ أسترق النظر إلى ساعدها. تمنّت لي التوفيق بعد ذلك وغادرت الغرفة. لمحتها من خلال الشباك تمشي في بهو يالي وكانت لا تزال مبتسمة.
أخبرني إصلاحيو تعِز أنهم أجروا لي ترتيباً مع إصلاح الأمانة. حضرت أول نشاط حزبي في شارع الرقاص. وبعد أن قدمتُ مداخلة في مسألة فكرية قال مدير الأمسية إن الأخ الذي تحدث قبل قليل بحاجة إلى مراجعة عقيدته. التفتّ إلى الرجل الذي يجلس على شمالي وسألته لماذا، فقال إنه يتفق مع مدير الأمسية. كنتُ معتّداً بنفسي كثيراً مما جعلني أمتنع عن حضور أي نشاطٍ آخر بعد تلك الإهانة، بحسب تقديري آنئذ، حتى السابع والعشرين من سبتمبر 1998. في ذلك اليوم سافرتُ إلى القاهرة ضمن مجموعة مبتعثة قوامها حوالي 33 شخصاً. صليتُ بهم إماماً في مطار صنعاء، لصلاة الفجر، وكان أبي يتأملني من خلف الزجاج. بعد سنة قال لأحد أشقائي "كان عندنا مروان، كان ممكن يكون شيء كبير، لكنه للأسف راح علينا وضيّع نفسه مع الإصلاح" ولم ينس ذلك الصباح عندما صليتُ بالطلبة إماماً في صالة المغادرة.
بعد أقل من شهر من وصولي إلى القاهرة كان شباب الإصلاح يزورن شقتنا، وكنا أربعة. لم يكن أحد يعلم بحقيقة انتمائي لحزب الإصلاح، حتى الإصلاحيون أنفسهم. في مرّة أغلقت باب غرفتي وقلتُ للشخص الذي كان يحاول أن يجر رجلي إلى الحزب: اسمع أنا في حزب الإصلاح، ولم أحضر معي رسالة من اليمن بهذا الشأن، فلا تتعب حالك معي. كان سعيداً، ونقل لمسؤوليه الخبر. لكن أحدَهم حذّره. قال له قد يكون الشاب ماكراً، فلم نلمح في كلامه أو مواقفه حتى الآن ما يدل على إنه إصلاحي. "كما أن أحد الإخوة أخبرني أنه كان يقرأ على أصدقائه صفحات من الإنجيل ويجري مقارنة بينها وبين القرآن". أضاف "هناك أيضاً قصة أخلاقية عنه، للأسف". عاد الشاب الإصلاحي ونقل لي تلك الملاحظات فأحسستُ بالخوف. كنتُ أناقش بعض نصوص العهد الجديد مع شخصين، أما مشواري مع زينب في ليلة العيد فلم يعلم به سوى شخص واحد. "مافيش حاجة تستخبّى هنا" مازحني باللهجة المصرية، لكني عشتُ مذعوراً بعد ذلك. بعد فترة قصيرة أخبروني أنهم حصلوا على تأكيد من صنعاء يدعم ما قلته وأنهم بصدد ترتيب وضعي التنظيمي. وعندما هاتفتني زينب على تلفون المنزل بعد ذلك طلبتُ منها أن تبتعد عني"فأنا مراقب" قلتُ لها، وكانت تصرخ على الجانب الآخر "متراقب؟ يا لهوي! مقلتليش ليه م الأول إنك متراقب" كانت تتداعى في خوفها وهلعها لكني أغلقت السماعة إلى الأبد.
كان الإصلاح في مصر مختلفاً كلّياً. فهو يتكون من مجموعة كبيرة، متناسقة، متميّزة على نحو لا يصدق. كنتُ أتنقل بين الأسر التنظيمية وفي كل مرة يكون رفاقي من أوائل الجمهورية، أوائل المحافظات، أوائل الجامعات، وأعضاء هيئات التدريس في الجامعات. كان خليطاً موزاييكاً مذهلاً يمتد من الرياضيات البحتة حتى جراحة العظام، ومن أصول الفقه حتى الكيمياء الحيوية. مع الأيام اكتشفتُ خللاً مروّعاً، فقد كانت الأمور، كل الأمور، بالنسبة لذلك الحشد الرائع من التقنيين منتهية. لم يكن هناك المزيد من الأسئلة، فقد كانت الإجابات متوفّرة، ونهائية. في "المبيت التنظيمي" كنا نغرق في حالة قوطية من النحيب والابتهال والتعبّد، نستنزف وجدانياً على نحو درامي كثيف. كنا نستمع إلى شيوخ السلفية الوعظيين وهم يستدرون الدموع، ويجهشون بالبكاء، وكنا نبكي معهم. دخلتُ في طور من "يقظة فينيغان" كما عند جيمس جويس. فقد قررت أن أضع حدّاً لهذا المسرح الحزين. فعندما يقول القرآن "خلق السماوات والأرض" فإن هذا القول يحفّز تساؤلات على مستوى الفيزياء، التساؤلات التي سأتعرف عليها فيما بعد لدى هوكنغ وزملائه على صعيد فيزياء الكم. ليس في هذا القول ما يدعو للنحيب والبكاء. فكّرتُ. لكن هذه الفكرة أيضاً ألقتني بعيداً، وعمقت اغترابي.
في أول معرض كتاب في القاهرة اشتريت عشرات الكُتب، وغصتُ فيها بجوع حصان طريد. كانوا رائعين، رفاقي الإصلاحيين، وكنتُ مغترباً. أخبروني أن علينا التحضير للسفر إلى الإسكندرية. ستكون رحلة ترفيهية يتخللها قدر من التربية الروحية. لم يحدثني أحد قط عن التربية العقلية، الروح تقود إلى الجنة، وكان هذا هو الموضوع المركزي. انفردتُ بنفسي أمام البحر فاقترب منّي شاب أنيق، يحتوي اسمه على "شرف الدين". كان إصلاحياً متيناً ومثقفاً. تبادلنا بعض الكلمات، فجأة انزلقتُ إلى التاريخ. ما إن قلتُ "كان الحسين" حتى قاطعني: عليه السلام. توقفتُ عن الكلام. "كمّل" قالَ. تأملته باستغراب، فقال لي إنه زيدي. "كمّل" ألح الشاب، فتحدثت في موضوع آخر. كنتُ أتحدث عن عشق النساء، وأردت أن أستدل بالحسين بن علي، لكن ما إن سمعت "عليه السلام" حتى داهمتني الرهبة من جليسي. فأنا قادم من أسرة تمجّد عشق النساء، حتى إن رجلاً مسنّاً من العائلة روى لنا أكثر من مائة مرّة كيف أنه مارس الحب مع امرأة فوق ظهر بعير في الطريق إلى الحج.
في ندوة مسائية في تلك الرحلة كان مقدمها يقول "فمثلاً عندنا نحن الزيود" وكان اسمه يحتوي على عنصر "زبارة". فيما بعد عرفتُ أن هناك نسختين شافعية وزيدية من حزب الإصلاح، وأنهما مؤتلفتان وتبدوان كنسخة واحدة. بدا الشاب الذي أثنى على الحسين كنزاً عملياً. اقتربت منه صباح اليوم التالي بعد الإفطار، وتبادلنا التعليقات الفكاهية حول الزملاء ا لمؤمنين. انفردتُ به وباغته بتساؤل بدا غير ذي موضوع: الحسين لم يؤلف كتباً، أعني الحسين عليه السلام؟ أجاب بالنفي. سألته ما إذا كان روى الأحاديث أو القصائد، فقال لا. "لكنه كان من أعظم رجال التاريخ" قال. كنتُ مرتبكاً كما لو أني خشيتُ أن يضبطني متلبساً بجريمة. لكني عدت وسألته: قتل في معركة ضد يزيد. صحح لي: استشهد. ثم تحدث عن لحظة الاستشهاد تلك، قال إنها أعظم لحظة في التاريخ الإسلامي. سألته ماذا لو انتصر الحسين في تلك المعركة. فقال: الحسين عليه السلام. قلت: عليه السلام. قال كان سيصبح إماماً للمسلمين. "وعندما يموت"؟ سألته، قال كان أحد أبنائه من الأئمة سيرثه. تسلقتنِ قشعريرة من قدمي حتى أرنبة أنفي. تأملني بقلق، فقلتُ له "تعال نروح نشرب شاي وندردش مع الشباب". في الطريق سألني ما رأيك بالحسين عليه السلام، فقلتُ له "بشكل عام لا أرى في الموت من أجل السلطة أي عظمة تستحق التبجيل". قال بلهجة حادة: اتقِ الله، الحسين لم يستشهد من أجل السلطة. قلتُ له "لكنك قلت إنه كان سيصبح أميراً للمؤمنين لو انتصر؟". أراد أن يعلق فأشرت عليه بأن نتوقف الآن على أن نناقش الأمر فيما بعد.
عندما وصلتُ القاهرة زارني صديق سلفي، شديد الذكاء، سيتخلى عن السلفية بعد ذلك ويصبح مواطناً طيباً. كان يضحك بهستيريا. "كيف كان شعورك وأنت تسمع كلمة عليه السلام" يسألني ثم يقهقه. بعد ذلك اعتدل في جلسته وسألني بجدّية: لكن ما الذي يدفعك إلى أحضان حزب الإصلاح وأنت مختلف عنهم كلّياً؟ فقلتُ له: في العالم الثالث يشعر المرء بالخوف، ويحتاج إلى قبيلة، والإصلاح قبيلتي. بعد سنين طويلة ستفرقنا الأيام وسألتقيه في صنعاء، وقد أصبح مواطناً وسيماً يخلط كلامه بالانجليزية والعربية ويعمل في مؤسسة مرموقة ويشير إلى بعض الصحفيين بكلمات بذيئة. سألني ما إذا كنت لا أزال أعتقد أن الإصلاج هو القبيلة الضرورية فقلت "للأسف، لا تزال هذه النظرية تعمل"..