خطاب اردوغان: المراوحة بين نقطتين
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 6 سنوات و أسبوع و 4 أيام
الأربعاء 24 أكتوبر-تشرين الأول 2018 07:43 م
 

خيبة أمل أصيب بها بالتأكيد كل من كان ينتظر أن يكون خطاب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم أمس قنبلة حقيقية تكشف كل الحقائق المتعلقة بقضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده. في المقابل، تنفس الصعداء كل من كان يخشى أن يكون خطاب الرئيس التركي رصاصة الرحمة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد كم اللكمات والطلقات التي وجهها له حلفاؤه في الولايات المتحدة قبل غيرهم.

ربما لا خيبة أمل الأوائل في محلها ولا أيضا تنفس الآخرين الصعداء. الأوائل تفاءلوا أكثر من اللازم فيما لن يهنأ الآخرون طويلا بارتياحهم الحالي. باختصار اردوغان لم يشف صدور من أراد أن يكون خطابه الكلمة الفصل التي تسدل الستار على كل طلاسم القضية وصولا إلى الإشارة بإصبع الاتهام إلى الأمير محمد بن سلمان، كما أن اردوغان هو نفسه من لم يرض تماما من كان يتمنى، دون سند، أن يكون خطابه إغلاقا لملف القضية وتبرئة للقيادة السياسية السعودية لحسابات أو ضغوط سياسية.

في هذه المسافة الفاصلة بين من خاب أملهم وبين من لم يرتح بشكل نهائي سيتحرك اردوغان في الفترة المقبلة، بما يجعل إما خيبة الأمل تزداد أو شعور الارتياح النسبي يضيق. سيظل يراوح بين النقطتين وستزداد أعصاب هؤلاء وأولئك شدا وتوترا إلى حين جلاء الصورة نهائيا.

أبرز ما تجلى من خطاب اردوغان أن الرواية السعودية لما جرى في القنصلية ليست مقنعة البتة للقيادة التركية، وإن لم يقلها الرئيس التركي باللفظ المباشر والصريح، وذلك عبر تأكيده أن العملية برمتها مدبرة ومخطط لها وليس بحال من الأحوال مجرد انحراف لمسعى حميد لدفع خاشقجي للعودة إلى الوطن. لم يكن واردا أن يتحول الرئيس التركي إلى أول من يشير، بالأدلة القاطعة، إلى أن القيادة السعودية هي من يقف وراء هذه الجريمة الشنعاء لكنه في المقابل لم يوصد الباب أمام نتيجة كهذه وذلك حين قال إن توجيه الاتهام إلى رجال أمن سعوديين في الجريمة «ليس مطمئنا لنا أو للمجتمع الدولي» وإن على السلطات السعودية أن تكشف عن كل المتورطين في هذه الجريمة «من أسفل السلم إلى أعلاه». وطالما أننا عرفنا من هم في أسفل السلم، وقد فضحوا، فإن علينا الآن انتظار من يقف فعلا في أعلى هذا السلم.

 

   تحول اردوغان إلى قبلة كل المهتمين بالتحقيق وأولهم الأمريكيون الذين بدأوا في التوافد عليه بين سياسيين وأمنيين

 

لقد تعمد اردوغان على الأرجح على ألا يكون قاطعا في خطابه، لا هو جزم بتورط القيادة السعودية في الجريمة، أساسا ولي العهد السعودي، ولا هو أبعد هذه التهمة التي تحوم حولها بقوة تشبه اليقين. وقد يكون اردوغان تجنب أن يكون هو من يتبنى هذا الاتهام المباشر تاركا الأمر لأصدقاء السعوديين أنفسهم من أمريكيين وأوروبيين فتصريحات هؤلاء أشد وقعا وأقوى تأثيرا خاصة أنها تأتي من أعضاء مجلس شيوخ ومسؤولين أمنيين كبار، معظمهم يعّرف نفسه بأنه كان صديقا للرياض ومن أقوى المدافعين عنها قبل جريمة القنصلية.

ليس من مصلحة اردوغان أن يكون المتصدر لمشهد الإدانة الرسمية لمحمد بن سلمان، فإذا كان ذلك سيكون التتويج النهائي لمسار التحقيق، المتوازي مع التسريبات الإعلامية المدروسة، فلماذا يتحمل هو وزر خيار كهذا سيتجلى من تلقاء نفسه وبشكل طبيعي من تطور الأحداث دون أن يتصدى هو شخصيا لهذا المشهد الذي قد يدمر علاقة بلاده بالكامل مع الدولة السعودية برمتها. لتكن بيد عمرو وليس بيده.

المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية هو أن أسلوب «القطرة قطرة» الذي اعتمدته أنقرة في التعاطي مع هذه القضية منذ بدايتها لم يأت اردوغان في خطابه ليضع حدا نهائيا له و الأرجح أنه سيواصله. وبين القطرة والقطرة بإمكان الرجل أن يستفيد من ترميم علاقات هنا أو هناك أو مد حبل وصال مع هذا أو ذاك. سيتحول الرجل، بل هو تحول أصلا، إلى قبلة كل المهتمين بالتحقيق وأولهم الأمريكيون الذين بدأوا في التوافد عليه بين سياسيين وأمنيين، ومن أرفع مستوى من مديرة المخابرات الأمريكية التي حلت ببلاده ليلة إلقاء خطابه؟!!

تحول اردوغان إلى قطب الرحى في هذه القضية التي ستستمر في التفاعل لفترة طويلة وسيصبح مسعى كسب ود هذا الرجل، للحصول على المعلومات اللازمة أو التوصل إلى مواءمات أو تخريجات سياسية محتملة، غاية السياسيين في الشرق والغرب سواء الذين يريدون إنقاذ بن سلمان أو أولئك المتلهفين لإدانته والتخلص منه.

اليوم اردوغان، شاء أم أبى، هو الرجل الذي سيحدد، مع آخرين أولهم وآخرهم الأمريكيون، ما إذا كانت المنطقة برمتها ستكون مجبرة على التعايش لعقود مقبلة مع رجل قد ينجو بفعلته الشنيعة التي ستظل لعنتها تلاحقه طوال حكمه، أو أن بشاعة ما جرى ستجعل السعودية، والمنطقة والعالم، يتخلصون مبكرا من رمز استعجل الوحشية وصولا للعرش فإذا بها تطيح به قبل الظفر به. وعلى رأي صحيفة «لومانيتي» الفرنسية التي تساءلت عما إذا كان بن سلمان «سيفقد عرشه بعد أن فقد عقله»؟