عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟ 2
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: أسبوع و 4 أيام و 21 ساعة
السبت 02 نوفمبر-تشرين الثاني 2024 06:46 م
 

وصلت جحافل الإمامة إلى حصار صنعاء؛ فكانت مدافعها تقصف المدينة من كل اتجاه؛ فقصفت المنازل ودمرت كثيراً منها، وتساقط الشهداء من المواطنين في منازلهم وفي الشوارع، وحتى تم قصف المساجد وقتلت المصلين، كما تفعل الإمامة الجديدة اليوم (الحوثية)، وقصفت الشوارع والمقرات الجمهورية والإذاعة، وبلغت الأهوال في كل شيء، وانعدمت الأغذية وحوصرت المنازل من المياه، وبعضهم استشهد باحثاً عن المياه، (كحال حصار الإمامة الجديدة الحوثية لتعز اليوم) وكانت وسائل الإعلام العربية والأجنبية من صحف وإذاعات تنقل الأهوال المتعددة وتبالغ فيها لإرهاب الناس، وبث الحرب النفسية، وأن صنعاء على وشك السقوط، خاصة إذاعتي لندن ومونتكارلو، الأوسع انتشاراً والأكثر تأثيراً في المنطقة العربية، حتى أوصلوا قناعات الناس أن العالم كله يقف مع الإمامة في تلك اللحظات!

وكان الأغرب من كل ذلك تلك الصحف المصرية التي كانت مع الثورة والجمهورية داعمة أشد أنواع الدعم الإعلامي، وتحولت تنشر الأخبار عن تفوق الإماميين على الجمهوريين وبالبنط العريض، بما يوحي بشيء من البهجة، وصل الأمر إلى درجة أن ينسحب بقية الطيارين المصريين ليقينهم أن صنعاء ستسقط لا محالة، ولم يبق مع الجمهورية إلا طيارون سوريون وبعض الطيارين الروس، كما قال الشيخ الأحمر والعميد ضيف الله، مما دفع بعض المسؤولين اليمنيين هناك الاحتجاج إلى وزير الخارجية المصري، وإيصال الاحتجاج للرئيس عبدالناصر، حتى لا يتم طمس تلك التضحيات المصرية العظيمة في سبيل نصرة الثورة اليمنية، حسب الرئيس الإرياني.

في خضم ذلك البحر الهائج من التأثير الإعلامي لم يكن مع الجمهورية سوى إذاعتي صنعاء وتعز، وبشكل أكبر إذاعة صنعاء، الواقفة بصلابة مع الثورة والجمهورية، من موقع الحدث، تعد جبهة لوحدها تصد الشائعات وتذيع أخبار الثورة والجمهورية وترفع المعنويات، وسط صمود كبير من محاولات كثيرة من القصف الإمامي بقذائف المدفعية لإسكات ذلك الصوت المتبقي للجمهورية، واستماتة المهندسين لإصلاح أعطال الإذاعة أولاً بأول.

لقد لعبت إذا عة صنعاء دوراً رئيساً في الصمود ورفع المعنويات وتفنيد الشائعات، وكانت أهم برامجها التي تهزأ بالحصار وتسخر من المهاجمين وترفع المعنويات وتؤجج حماس الجماهير هي: برنامج "صالح علي"، وبرنامج "جي ما اقلك" لمحسن الجبري، وبرنامج "ألا يانحيت" لحمود زيد عيسى، وبرنامج "جي نتجابر" يقدمه محمد الشرفي.

كانت حروب الشائعات أكثر من الواقع لبث الهزيمة المعنوية في نفوس الشعب المؤيد للجمهورية، ومن أكبر الشائعات التي قامت بها العناصر الإمامية في ذلك الوقت، تساندها الإذاعات الدولية والعربية، أن الشخصيات الجمهورية من الصفوف الأولى والثانية قد استسلمت أو انضمت لصف الثورة المضادة الإمامية، وصدق الناس تلك الشائعات حتى فعلاً أوشكت العاصمة على السقوط.

لم تكن جحافل الإمامة وحدها الزاحفة على المناطق وصولاً إلى الإطباق على صنعاء من كل اتجاه، فلو كان الأمر كذلك في ظل تماسك القبائل والمناطق لهان الأمر على الجمهورية والدولة، لكن الأشد تأثيراً هو تأييد القبائل والمناطق المحيطة بصنعاء أو في طرق صنعاء للإمامة وجحافلها، وكان حتى إذا دحر الجمهوريون الإماميين كانوا يجدون الصعوبة الشديدة في التمركز في أراضي تلك القبائل التي مثلت حاضنات شعبية للإمامة، مما صعب الأمر على الجمهوريين جيشاً ومقاومة، كما كان الحال مع سنحان وبلاد الروس مثلاً، أو الحيمة وبني مطر. 

ولندع رجلاً من تلك المرحلة يروي تلك الظروف العصيبة التي مرت بها البلاد، ولم يكن أي رجل متقول أو متحيز أو من خفيفي العقول؛ بل هو القائد الثائر عبدالغني مطهر، شاهد العيان، وأحد صانعي مجد اليمن الحديث، فيقول:

 في تلك الأثناء فر من صنعاء –للأسف الشديد- من الوزراء وعلى رأسهم وزير الحربية [وزير الدفاع، ولكم أن تتخيلوا وزير دفاع البلاد المسؤول الأول عن قيادة المعارك يهرب في أشد اللحظات احتياجاً له من البلاد]! وأصحاب الرتب الكبيرة من العسكريين من أنصار انقلاب خمسة نوفمبر والذين كانوا ولا زالوا يتشدقون بأنهم من القواد الأحرار؛ فمنهم من توجه إلى بغداد، ومنهم من فر إلى دمشق أو القاهرة أو الجزائر، تاركين وراء ظهورهم الوطن الغالي يمر بمحنة لا يعلم نهايتها إلا الله!

ولما زاد الحصار على صنعاء شدة وضراوة، وضربت الفوضى أطنابها إدارياً وسياسياً وتموينياً في العاصمة ترك القاضي عبدالرحمن الإرياني صنعاء وتوجه إلى الحديدة، حيث أبرق إلى الزعيم جمال عبدالناصر طالباً إليه أن يقبله لاجئاً سياسياً بالقاهرة، فرد عليه الزعيم جمال عبدالناصر ببرقية جاء فيها: "أصمد مع الثورة، ومت في سبيلها"، وقد حدث ذلك في الوقت الذي اختلق فيه رئيس وزراء انقلاب خمسة نوفمبر [محسن العيني] عذراً ليفر إلى روما في إيطاليا، فتولى الفريق حسن العمري رئاسة الوزراء [بعد استدعائه من القاهرة لإدارة الحرب]..إ هـ. 

لكن الإرياني هنا يبرر سفره إلى الحديدة يوم 7/12/1967م بتعرضه لوعكة صحية، نصحه الأطباء الانتقال إلى مكان منخفض، حسب ما جاء في مذكراته، وأنه عاد إلى صنعاء يوم 16 ديسمبر من نفس الشهر والعام، ولم يتطرق إلى أية مراسلات بهذا الشأن بينه وبين عبدالناصر، كما يذكر مراسلاته الأخرى وبرقياته في كل صغيرة وكبيرة، وفي مثل هذه الحالات أصلاً لا يذكر أي مسؤول ثغراته وسلبياته. 

بينما يتحدث العميد عبداللطيف ضيف الله أنه حتى يوم كسر الحصار وفتح طريق صنعاء الحديدة بتاريخ 8 فبراير لم يكن الإرياني متواجداً في العاصمة صنعاء، الذي كان من المفترض حضوره للاحتفال بذلك النصر واستقباله الفاتحين، لما له من تأثير معنوي وسياسي كبير في نفوس الشعب والجيش وإرهاب العدو، وكان مستغرباً لبرود ذلك الموقف وعدم إدراك أبعاده من قبل كل القيادات العسكرية، بمن فيهم القائد العام الفريق العمري، الذي يدرك أبعاد مثل هذه المواقف وتأثيرها في النفوس، كقائد عسكري وقائد القوات المسلحة، وهو محق بذلك كل الحق، فهذه اللحظات تكون من اللحظات المفصلية والحساسة في تاريخ الجيوش والفتوحات والانتصارات والقيادات السياسية والعسكرية، ولمثل تلك الاستقبالات ولحظات النصر وقعها الشديد على الحاضنة الشعبية سواء للعدو أو الصديق الداعم والمؤمل، تستغلها دائماً القيادة السياسية والعسكرية لصالحها في نفس اللحظة، وبدلاً من ذلك ذهب القائد العام الفريق حسن العمري إلى مقر إقامته في الحديدة!

وأياً يكن من هذا الأمر، بين رأي عبدالغني مطهر ورأي الإرياني، وكذا العميد عبداللطيف ضيف الله، أو غيره من المعاصرين للأحداث وشهود العيان فيها، فإن الموقف كان عصيباً، ولا يخلو رأي مطهر من وجاهة، خاصة والإرياني يعترف في أكثر من موضع بأن صنعاء كانت على وشك السقوط، وينتظرون سقوطها في أية لحظة، وتأكيد رئيس الوزراء محسن العيني رغبته في الاستقالة في ذلك الظرف العصيب! 

وهذا ما يوضحه أيضاً السكرتير الإعلامي للعمري محمد الشعيبي، فيقول: 

عاد الفريق العمري إلى اليمن بعد الإفراج عنه من سجون عبدالناصر عشية احتدام المعارك مع القوى الملكية، وتراجع العناصر الجمهورية الانهزامية عن الدفاع عن الوطن، حيث قام بإبعاد العقيد علي سيف الخولاني من هيئة رئاسة الأركان، وفصل الضباط الفارين إلى خارج الوطن من عملهم في الجيش، وإعادة تنظيم صفوف هذا الجيش وتطهيره من العناصر الفاسدة، بعد أن قام بتجميع الوحدات العسكرية المشتتة هنا وهناك تحت أسماء فضفافضة جوفاء، ورص وحدتها وإدارتها تحت قيادة عسكرية شابة جديدة ومناضلة، وضع على رأسها النقيب عبداليقب عبدالوهاب قائد سلاح الصاعقة وقلده رئاسة هيئة الأركان العامة، وسمح في هذا الصدد –لأول مرة في تاريخ العمل العسكري العربي- بإنشاء جهاز للمقاومة الشعبية، وانتخاب قيادتها الشعبية دون تدخل من السلطة التي أمدت هذه القيادة بالمال والسلاح، وأعدت لها ساحة التدريب... [سنجد ما يصادم هذه الفكرة مستقبلاً في حادثة السفينة الروسية التي كانت تحمل السلاح وذهب رئيس الأركان عبدالرقيب لتوزيع ذلك السلاح على المدفعية وبعض الوحدات الأخرى، باعتباره رئيس الأركان المسؤول عن تسليح الجيش، وهو ما تصدى له العمري وسنان أبو لحوم والإرياني، بعد وشايات متعددة من علي سيف الخولاني، خصم عبدالرقيب، وكانت القشة التي قصمت ظهر الجيش والسلطة، وأفضت إلى الصراع الدامي لأحداث أغسطس عام 68م، وهو تناقض في سرد أنواع الدوافع التي حملت عبدالرقيب مسؤولية الصدام!]، أعدت لها ساحة التدريب على الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ودربت عناصرها على أعمال الدفاع المدني، والرقابة على التموين الغذائي لسكان العاصمة، والحصول على السلع الاستهلاكية، ووضعها بين أيديهم بعيداً عن أطماع وشراسة التجار والاحتكاريين، الأمر الذي لو لم يكن كذلك لما تمكنت المقاومة الشعبية من القيام بمآثرها الرائعة، التي صارت حديث الناس والرأي العام في الداخل والخارج، ولما تسنى لها التواجد أصلاً في ظل خوف وتشكك الأنظمة السياسية العربية من تسليح الشعب وتنظيم صفوف أعمال المقاومة الشعبية عسكرياً..

كانت هذه التعيينات التي قام بها العمري، وإعادة ترتيب صفوف الجيش على النحو المذكور محل اعتراض من القيادة التقليدية، واتهم من قبل القوى الجمهورية السياسية المحافظة بالخروج عن الأعراف والتقاليد السياسية العربية، فوق أنه على الصعيد المحلي قد تخلى عن العرف السياسي الإمامي بخصوص التعيينات داخل المؤسسة العسكرية، حيث كان يتحتم عليه –وفقاً لذلك العرف الداخلي- تعيين القيادات العسكرية العليا في الجيش من داخل صفوف العناصر الموالية للسلطة ومن المؤسسة الإقطاعية نفسها والولاء للعشائر القبلية، والطائفية الزيدية، وهو ما لم يلتزم به الفريق العمري أيضاً عند تشكيله للوحدات العسكرية الجديدة وقيامه بتعيين قيادات لها من عناصر وطنية لا تنتمي إلى المذهب الزيدي، وتنحدر بالتالي من بعض المناطق اليمنية التي تخلصت من النظام العشائري، والتنظيم القبلي، فوق أن أغلب أولئك القادة كان قد قدم من القاهرة ودمشق وبغداد وموسكو بعد تخرجهم من كلياتها العسكرية العليا، تشك القوى الجمهورية المحافظة في ولائهم للنظام العام السائد بعد أن ترعرعوا في أحضان تلك المدارس العسكرية الأجنبية، ورضعوا من ثدي العمل الحزبي، وتشبعوا بالمفاهيم الثورية الناصرية والبعثية الحركية والشيوعية..إ هـ

وسنجد أن هذه المبررات والدوافع برزت تماماً عند افتعال الصراع الدامي في23، 24 أغسطس، وتم تعبئة الناس على أساسها، وهنا عرف السبب مقدماً للتخلص من تلك القيادات الشابة التي عينت خارج العرف المعمول به بناءً على المهنية وظرف الصراع في ذلك الوقت؛ لأن التعيينات -بناءً على التقاليد السابقة- لا يؤمن عواقبها من الولاء للجانب الإمامي الرجعي والتي تعتبر وظيفة معيشية لاستحقاق الراتب -كأية وظيفة أخرى- لا لخوض الحروب الوطنية للدفاع عن الجمهورية، وهو ما أثبتته الأحداث الأخيرة -للأسف الشديد - من بداية الانقلاب الحوثي، وكيف انسحب الجيش المناط به الدفاع عن الجمهورية، رغم تعليمات وخذلان القيادة السياسية التي منعت الجيش من التصدي للزحف الحوثي واعتبرت المواجهات صراع مليشيات، ولو كان جيشاً مبنياً على عقيدة وطنية خالصة لما سمح بالانقلاب على الجمهورية ورفض أوامر المؤسسة الرئاسية بالحياد وهو يرى الجمهورية تسقط والانقلاب يتقدم والإمامة تعود، ولما انضم للإمامة الحديثة والانقلاب على الدولة، والذي يعتبر الكرة النهائية للمجاميع الإمامية بعد حصار السبعين!

ولينتبه القارئ الكريم إلى خطورة ذلك الموقف في حصار السبعين، في الفقرة التالية..

يقول مطهر: وإزاء ذلك الموقف المؤسف من أنصار انقلاب 5 نوفمبر، طلب القاضي عبدالرحمن الإرياني من الرائد عبدالرقيب عبدالوهاب وزملائه البواسل أن يوقفوا القتال ويشرعوا في التفاوض مع أعداء الثورة والجمهورية لوضع اتفاقية سلام!

وقال القاضي الإرياني، في معرض طلبه: "إننا لا نستطيع المقاومة، وليست لدينا ذخائر كافية للاستمرار في القتال"، فرد عليه الأبطال صارخين: "إن مبدأ الاستسلام مرفوض، وإننا سنقاتل حتى آخر قطرة من دمائنا"!

وربما التبس أمر جنوح الإرياني للتفاوض مع الإماميين على عبدالغني مطهر؛ فالإرياني سرد موضوع التفاوض بعد كسر الحصار مباشرة، حتى لا يعود الاقتتال ولا الحصار والخروج بالبلاد من حالة الحرب اللامتناهية، وهذا ما أورده في الجزء الثالث من مذكراته بالقول: "وقد وجدنا أنه من الضروري وقد تحسنت أحوالنا العسكرية أن لا نجعل الحرب كل همنا، وإن كانت أكبر همومنا، فعرضت على المجلس الجمهوري أن نبدأ العمل على إصلاح أوضاع الدولة وتثبيتها"، وقد كان هو والزبيري والنعمان على رأس المنادين، وبشكل مستمر، حقن الدماء بالحوار مع الإماميين على أساس الجمهورية، لولا تعنت الإماميين، ولم يرضخوا للحوار إلا بعد هزيمتهم في حصار السبعين، ويأسهم من عودة الإمامة، واستسلموا للحوار ولكن ليبدأوا مرحلة جديدة من الحرب من داخل الصف الجمهوري نفسه. 

كانت كل التقديرات تؤكد أن الحصار سيسقط صنعاء خلال أيام فقط، ولذلك كان موقف الإرياني شبه مستسلم، بحسب عبدالغني مطهر، والذي طلب من قيادة الجيش التفاوض للصلح، فرفض الشباب عبدالرقيب ورفاقه رفضاً قاطعاً مبدأ الصلح وقالوا سنقاتل حتى آخر قطرة من دمائنا..

قد يبدو رأي مطهر متحاملاً على الإرياني، وأن الصورة لم تكن بذلك الشكل الذي صوره مطهر، غير أن رأي الشعيبي يدعمه إلى حد كبير، ولم يتسن لنا معرفة رسالته التي طلب فيها اللجوء من مصدر آخر مستقل.

.... يتبع