البداوة الفكرية
بقلم/ مأمون فندي
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و 16 يوماً
الإثنين 28 مايو 2007 08:57 م


لماذا لا تصمد الأفكار المتداولة عربيا اليوم أمام أي نوع من صرامة النقد أو التحليل؟ الإجابة تكمن فيما اسميه بداوة فكرية. وكل ما أتمناه من نقادي هو شيء من الصبر ونوع من التروي في استيعاب الفكرة الأزمة التي تحتاج منا جميعا إلى شيء من التمحيص. وبداية، يكون من قمة السخف أن يركز قارئ ما على كلمة البداوة فيتحفنا بمقولات عرب الماء وعرب الصحراء..الخ، فاستخدامي لكلمة البداوة هنا لتوضيح فكرة تهدف الى دفع النقد الحضاري إلى مقدمة أولوياتنا، لا لتوريطنا في مستنقع التعالي والعنصرية.

بداية، الأزمة تكمن في أن دولنا العربية، ولا بد أن نقر بهذا، هي كيانات أصغر جاءت نتيجة لتفكك كيانات أكبر، فهي كانت تحت عباءة الإمبراطوريات القديمة التي أفلت كالإمبراطورية الرومانية والفارسية، وكانت أيضا تحت عباءة الدولتين (الإمبراطوريتين) الإسلاميتين الكبريين الأموية والعباسية ومن بعدهما دولة الخلافة العثمانية، لتصبح بعد ذلك تحت الانتداب الأوروبي. وعندما نالت هذه الدول بكياناتها الصغيرة استقلالها لم تستطع أن تقطع حبلها السري مع الكيانات الأكبر على المستوى المتخيل، على الأقل (الامة العربية، سوريا الكبرى، الامة الاسلامية ..الخ) ويحضرني هنا بحكم نشأتي القروية تشبيه الدول العربية بمولود البقر أو الجمل الذي ينفصل عن أمه مغلفا بكيس مائي رقيق يسبح ويتخبط فيه إلى أن يسقط على الأرض فينفجر الكيس وينطلق حرا خارجه ليعيش ككائن مستقل. الدول العربية الحديثة ما زالت تتخبط داخل أكياسها منذ أن انفصلت عن الكيانات الأكبر، فهي تسبح ضمن كيسين، كيس القومية الذي يضم ليس مولودا واحدا فقط، بل العشرات، وهذا الكيس مغلف بدوره بالكيس الإسلامي الأوسع الذي يضم «ما فتح ورزق».

ليست المشكلة أن تكون الدول ضمن اتحادات تخدم مصالحها، فدول أوروبا تنطوي تحت الاتحاد الأوروبي الذي بلا شك عزز من تطور اقتصاد هذه الدول وسهل حركة البشر، لكن الإنجليزي العادي لا يقدم مصلحة ألمانيا على مصلحة بريطانيا العظمى ولا يشعر الفرنسي بأن عليه أن يذهب إلى بلجيكا للمقاومة والمجادلة في شأن بلجيكي داخلي، أي أن هذه الدول قد طورت مفهومها كدول مستقلة بحد ذاتها، وحتى في مفهوم الدفاعات المشتركة فهي اتفاقات ضمن أحلاف دولية لها قوانينها وأصولها. أما المشكلة عندنا أن دولنا غير ناضجة وبالتالي لم يتطور حس المواطنة لدى مثقفيها وأبنائها وحتى بعض قادتها، فالفلسطيني أو السوري أو الأردني يرى أن لديه كامل الحق في أن يقرر مثله مثل العراقيين ما يجب أن يكون عليه العراق، بل ويتهم العراقي (ابن البلد) بالعمالة والخيانة إذا ما أراد الأخير أن يبني بلده بعيدا عن تفجيرات وإرهاب (المقاومة).. هو بذلك لا يعترف بحدود دولته وبالتالي لا يعترف بحدود دولة الآخر، سابح في ملكوت كيسه العروبي.. وكذلك يشتم المصري حكومته لأنها لم تحرك جيشها لمحاربة الإسرائيليين في جنوب لبنان، غير عابئ بأن دولته التي ينتمي إليها قد وقعت معاهدة سلام مع دولة إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين عاما.

أما حالة «الهيصة» في الكيس الإسلامي فهي «ألعن وأدق رقبة»، فالسعودي المنعم يحمل عباءته وسلاحه إلى أفغانستان مجاهدا، والباكستاني الذي لا يعرف حتى اللغة العربية يذهب إلى العراق مجاهدا، والكل يمتلك الحق أن يقتل أو يخون.

انتماء بعض القادة إلى الأكبر العروبي أو الإسلامي أو حتى الفاطمي هو نوع من عدم الاكتفاء بالمحلي، فجمال عبد الناصر مثلا كان يرى نفسه أكبر من مصر، فحاول الاتحاد مع سورية وهلل له المرتبطون بحلم الوحدة، ثم تمدد بجيشه إلى اليمن!. وصدام حسين لم يكتف بالعراق فدخل الكويت، وصفق له القوميون المؤمنون بتوزيع الثروة على الأمة الواحدة.

الهدف هنا ليس نقد القوميين، ولكن توضيح ملامح الأزمة وآثارها على هشاشة الفكر العربي المعاصر وعدم قدرته على الصمود أمام صرامة التحليل. فالخروج إلى العروبي الأوسع أو الإسلامي الأوسع حتى بالنسبة إلى بعض النخب المثقفة، هو شعور بدونية متوهمة للمحلي، ومحاولة التخلص من ذلك الشعور بالانتماء إلى ما هو أكبر.. والأمر يسري كذلك على كثير من مثقفي بلاد الشام، فمثقفو أنطون سعادة لا يعيرون بالا إلى المحلي من أجل تصدير وتلميع سورية الكبرى، وبعض مثقفي مصر الإسلامويين يرون حضارة الفراعنة حضارة أوثان وجهالة.

البحث عن فضاءات عروبية او إسلامية أوسع من حدود الدولة، هو في الحقيقة بحث عن هيمنة إقليمية يواجه بها الهيمنة القادمة من الغرب (الأميركية والأوروبية)، ولكن في النهاية تصبح هذه الهيمنة الإقليمية أكبر وأخطر من الهيمنة الغربية.. فدعاوى العولمة وحقوق الإنسان والإصلاح وغيرها من الدعوات الغربية المطلقة التي تهدف إلى هيمنة ثقافية تتبعها هيمنة مباشرة، يواجهها مثقفونا من دعاة العروبة والإسلاموية أو أي من إيديولوجيات «ما فوق» الدولة الوطنية، بهيمنة إقليمية لا تعترف بالسيادة الوطنية، فيصبح العراق شأنا عربيا لا عراقيا، وتصبح فلسطين شاغل المواطن العربي الأول وليس مستقبله الخاص وعمله وتعليمه، إلى آخر الأمثلة الكثيرة في هذا المضمار.

ذات المثقف القومي أو الإسلاموي الذي يتماهى صباحا مع طروحات الحكومات العربية لمقاومة المشروع الغربي الذي يسعى إلى الهيمنة على مقدرات المنطقة، تراه نفسه مساء يستخدم مصطلح حقوق الإنسان (الغربي) لنقد الوضع الداخلي في الدولة الواحدة. فهو يرقص على سلم المصطلحات وفق ما يرغب، كما البهلوان لا تستطيع الإمساك به حتى بعينيك!.

تكمن الورطة عندما نحاول محاربة الهيمنة العالمية بالخصوصية المحلية، فمثلا نتذرع بالخصوصية المحلية عندما يطرح علينا الغرب قضايا مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة، ولا عيب في إصرارنا على الخصوصية إذا ما تمسكنا بها إلى آخر المطاف.. ولكن كيف تقنع العالم كمصري أو كسوري أو كسعودي بخصوصيتك المحلية، وهو يشاهدك تذوب في فضاءات واسعة إسلاموية وعروبية لا تعترف بالخصوصية المحلية للدول. ذات الداعين إلى الخصوصية المحلية المصرية أو السعودية أو السورية والتي تتأكد أصالتها في مواجهة العولمة القادمة من الغرب، نجدهم يصمتون تحت الهيمنة الإقليمية (إسلاموية وعروبية). أي أن الأفكار التي تبدو متماسكة في سياق ما، تترهل في سياق آخر. وبهذا تصبح الأفكار مجرد مناورة وتكتيكا للحركة وليست أفكارا متماسكة.

أفكارنا تتحرك في حالة من السيولة، صلبة في أطراف الخارج (الغرب، العولمة..) ومائعة في الوسط بأكمله (الدولة الوطنية) ما عدا بعض التكتلات الصلبة الصغيرة (القبيلة، الطائفة).. فإذا ما تحدثنا عن مكونات ما تحت الدولة من شبكة قبلية أو عرقية، فالقبيلة بها تماسك أكبر من الدولة، وأفكارها أحيانا مناقضة للدولة، وربما في أحيان أخرى تسبح فوقها.. ليست القصة إذن هي قصة قبائل (حاشد وبكيل في مواجهة الدولة اليمنية)، أو قصة طوائف (جماعة الحوثي في صعدة ضد الدولة اليمنية)، أو «حزب الله» والطائفة الشيعية ضد الدولة اللبنانية، ولكن هذه الطوائف والقبائل تتسرب من تحت الدولة لتلتقي بدول أخرى وفضاءات أخرى.

إذن، هو فكر القبيلة والطائفة الثابت في داخل الدولة الواحدة، ما يلبث أن يصبح فكرا بدويا متنقلا عبر الحدود، وفي سيولة رعوية باحثة عن عشب وكلأ أكثر خضرة في فضاء أرحب.

ورطة المثقف العربي اليوم، وهنا أعني الذي يكتب أو يتحدث بالعربية، هي عدم قدرته على النقد. يموت النقد عندما يلتصق الفرد التصاقا تاما بجوهر صاف غير قابل للنقد، سواء أكان هذا الجوهر هو الفضاء الديني كله، أو الفضاء القومي كله، أو الفضاء الأصغر المتمثل في الطائفة أو المذهب، أو حتى القبيلة.

الحيلة التي نمارسها جميعا هي أن ننقد الصغير (الدولة أو القبيلة) عندما نذوب في الكبير (العربي أو الإسلامي)، فمثلا ينتقد المصريون دولتهم من منظور غياب الدور المصري عربيا، وينتقد الأردنيون دولتهم من منظور عروبي أو إسلامي عندما ترفع شعار «الأردن أولا».. شعار «الأردن أولا» يتعرض للنقد الكثير ممن يسبحون في فضاء «ما فوق» الدولة الإسلاموي أو القومي.

انظر معي إلى مواقف بعض الكتاب المصريين المتشددة، وربما المتطرفة في مصريتها، عندما ظهر على السطح موضوع تعاظم الدور السعودي على حساب الدور المصري، فأسامة أنور عكاشة المعروف بتوجهه القومي، يثير زوبعة من خلال مقالاته التي انتقدت القومية العربية مؤخرا، وهذا «بلدياتي» النابه، محمود الكردوسي يكتب مقالا في جريدة «مصر اليوم» بعنوان (بلا عرب، بلا نيلة). إذن، النقد عندنا ممكن للكبير (العربي أو الإسلامي) عندما نتقوقع في كيان أصغر، وننتقد الكيان الأصغر (الدولة أو القبيلة) عندما نذوب في الكيان الأكبر. وجميع كتابنا، بلا استثناء، يتحركون مائة مرة، وربما في الحوار الواحد، بين الأصغر الضيق (مصري، سعودي، ..) والأكبر الواسع (عروبي، إسلامي). تلك هي البداوة الفكرية التي لا تسمح لك بالإمساك بتلابيب أية فكرة أو أطروحة، فأفكارنا مائعة وفي حالة سيولة دائمة، فيكون الفرد في لحظة عجميا (من قبائل العجمان)، أو من أية قبيلة اخرى مثل شمر او عنزة او عتيبة او من بني صخر او عرب الحويطات أوغيرهم، وفي لحظة ثانية طائفيا سنيا أو شيعيا، ومصريا أو سعوديا، أو حتى صعيديا، أو عروبيا أو إسلامويا في لحظة أخرى.

بداوة فكرية تعززت قدراتها بظهور الفضائيات لتجد في البرنامج الواحد مثلا، كل المقولات المحلية والإقليمية ينطق بها شخص واحد. في ظل هذه السيولة، لا يمكن لأية فكرة من أفكارنا أن تصمد أمام أي تحليل منطقي، لأنها فكرة متدحرجة عبر حدود الزمان والمكان.. أفكارنا تتسرب من بين أيدينا كالرمال.. أنها عقلية الترحال التى لا ترى التناقض.. إنها البداوة الفكرية.

* المصدر الشرق الأوسط