من بلدة المسقاة في ناحية (مديرية) السدة، قدم صبي اسمه علي عبد المغني إلى صنعاء التي كانت بالنسبة لبلدته، مدينةَ الفرص السانحة، ذخيرته في الحياة تجلت في الاكتشاف المبكر للذات وللمعنى الحقيقي للحياة في ظل الحرية والكرامة.
وصل إلى بستان السلطان بمدينة صنعاء في يوم ما من عام 1946، كان عمره 13 عاماً، وعلى الفور ذهب إلى منزل ابن بلدته حسين الكبسي الذي كان وزيراً للخارجية، بحثاً عن فرصة للالتحاق بمدرسة الأيتام.
بعد نحو عامين قابل الرئيس(الرائد) جمال جميل عضو البعثة العسكرية العراقية التي قدمت إلى اليمن ضمن اتفاق للتعاون مع مملكة العراق آنذاك لتدريب الجيش والشرطة الإماميين.
تخلف الرئيس جمال جميل عن بقية أعضاء البعثة وقرر البقاء في صنعاء، لكأن الله استبقاه ليلقي الدرس الأهم في الوطنية على مسامع الصبي المتطلع إلى الحياة، علي عبد المغني، الذي قابله في منزل حسين الكبسي، وما أن رآه وسأله بعض الأسئلة، حتى توسم فيه الذكاء والفهم، فقرر أن يعطيه ألف ريال فضية (ماري تريزا) كان هذا المبلغ كبيراً ويعتبر ثروة حقيقية بمقاييس ذلك الزمن، فما بالك بالنسبة لصبي يتيم وفقير.
حين ذهب الرئيس الشهيد جمال جميل مع بقية زملائه الأبطال إلى ساحة شرارة لمواجهة قرار بإعدامهم على خلفية اشتراكهم في تنفيذ ثورة 1948، كان قد اطمأن تماماً بأن جيلاً سينهض بالمهمة قريباً، ولهذا قال قبيل استشهاده" لقد حبَّلناها وستلد"، لم يكن لكلامه هذا من معنى سوى أنه كان مطمئناً إلى أن علي عبد المغني بما يرمز إليه من جيل تفتحت عيناه على الحياة، واستوعب ثورة 48، ولن يرضى بأقل من أن تكون حياته حرة وكريمة.
بقي علي عبد المغني ينفق على نفسه من المبلغ الذي حصل عليه من الرئيس جمال جميل طيلة فترة الدراسة، يلبس أفخر الثياب ويأكل جيداً وينفق على زملائه أيضاً، ولم يكن يحتاج سوى للذهاب إلى ابن بلدته" عبده قاسم" الذي كان يمتلك فرناً ومنزلاً في باب السبح، لكي يحصل على ما يحتاج من المال الوفير الذي استودعه لديه.
درس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وبسبب نباهته وذكائه كان دائماً يحصل على المركز الأول، ولهذا السبب وجد نفسه يدير مدرسته الثانوية عندما توفي مديرها، وبنفس المستوى واصل تفوقه الدراسي في الكلية الحربية التي التحق بها بعد سنة واحدة من تأسيسها أي في عام 1958، وكان قد حاول قبل ذلك العام الذهاب إلى القاهرة للحصول على فرصة للدراسة في جامعة القاهرة ولكنه لم يتمكن من ذلك على الرغم من ذهابه إلى عدن لكأن الله كان يهيئه للمهمة ويستبقيه لإنجازها في اليمن، ولهذا عاد من عدن إلى صنعاء أكثرَ إصراراً على إنجاز مهمة التغيير التي ظلت تسكنه وتسيطر على مخيلته.
من الواضح أن فكرة التغيير لم تنضج ولم تأخذ بعدها العملي لدى الشهيد علي عبد المغني، ربما إلا بعد أن اتصل بالبعثة العسكرية المصرية، التي كانت تشرف على تدريب فوج البدر ومن ثم القيام بمهام التدريس في الكلية الحربية.
توسم المصريون في الملازم علي عبد المغني، الاستعداد للقيادة والذكاء والشجاعة والإصرار، حتى قبل أن يتخرج عام 1960 من الكلية الحربية دفعة" علي عبد المغني"، وهي الدفعة الثانية في تاريخ الكلية، إذ سرعان ما انتهى به الأمر ليصبح نقطة الاتصال الأساسية مع مصر.
نموذج الثورة المصرية كان حاضراً في كل الخطوات التي سلكتها ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ففي شهر ديسمبر عام 1961، تأسس تنظيم الضباط الأحرار، بقيادة الملازم علي عبد المغني.
لكن مسألة القيادة للأسف ظلت محل أخذ ورد رغم وضوحها الكبير، والسبب في تقديري يعود إلى أن الذي تولى تأسيس التنظيم، ذي رتبة صغيرة، والنموذج المصري كان قد اقتضى استدعاء أحد أصحاب الرتب الكبيرة ليقود الثورة، أما السبب الثاني فيعود إلى حماس الشهيد علي عبد المغني الذي مارس ظلماً كبيراً للذات إلى حد قبل معه بأن يكون مجرد رئيس لإحدى خلايا التنظيم الذي أسسه، رغم أن كل المؤشرات كانت تدل على أنه هو القائد.
فقد كان المنسق الأساسي مع خلايا تنظيم الضباط الأحرار التي لم تكن تعرف بعضها، لكن هذا الأمر لم يدم طويلاً فقد اضطر بعض زملائه إلى أن يحسموا الأمر، وكانوا يريدون تسمية الأشياء بأسمائها، ولكنهم مع ذلك سلكوا طريقاً محرجاً حيث اضطروا إلى عمل قرعة بين عبد المغني وعبد الله جزيلان، فانتصرت القرعة للقائد الحقيقي.
قام قائد الثورة بكل واجبات القيادة من ترتيب وتنسيق واتصال مع كل المكونات السياسية والعسكرية والفكرية والاجتماعية، وأدار عملية الإطاحة بالإمام البدر، وتولى لمدة ثمانية أيام قيادة المعركة، إلى أن قرر التوجه إلى مأرب لحسم المعركة المصيرية هناك، وسط مطالب من معظم زملائه له بعدم ترك مركز القيادة
شق الشهيد علي عبد المغني طريقه باتجاه مأرب إلى أن وصل صرواح، ومنها توجه نحو ساحة المعركة وقع في كمين محكم، جهزته وحدات عسكرية محترفة وأجهزة استخبارات دولية على ما يبدو، أرادت ضرب عقل الثورة ومدبرها. استشهد في ذلك الكمين عندما سقطت الدبابة التي كان يستقلها في حفرة مموهة فحاول الخروج منها ولكن رصاصاً انهال عليه كالمطر ففارق الحياة.
أربعة وخمسون عاماً على استشهاده، أكثر من نصف قرن والسلطات المتعاقبة في صنعاء تحاول التغطية على الشهيد وعلى ضريحه وعلى ظروف مقتله، إلى أن حدثت المعجزة هذا العام، عندما تفاجأنا جميعاً بأن للشهيد مقبرة معلومة وضريح.
والسؤال لماذا تم تجاهل هذا الضريح كل هذه السنوات، ولماذا لم تكن مراسم وضع إكليل الزهور على قبره المعلوم، عوضاً عن القبر المجهول، لماذا استهتر حكام صنعاء بوعي الأجيال وظلوا يخفون هذا الضريح؟
لماذا اضطر اليمنيون لمتابعة مشهد المخلوع صالح وهو يظهر بالزي العسكري المرصع بالنياشين مع كل ذكرى تحل للثورة المباركة ويستعرض الجيوش، وكأنه هو الذي صنع الثورة، بينما في حقيقة الأمر لا يساوي قيمة النياشين التي في صدره.
ولماذا انشغل هذا المعتوه بتصميم دوره المجهول في ثورة سبتمبر، وظل زبانيته يتحدثون عن "التبة" التي رابط فيها والمواقع التي تنقل فيما بينها دفاعاً عن الثورة، وكان الأحرى بهم أن يسلطوا الضوء على الثورة والثوار الحقيقيين وفي مقدمتهم صاحب القبر المعلوم المجهول الشهيد علي عبد المغني.