من الثابت تاريخياً أن ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف، شغل منصب رئيس الدولة في الاتحاد السوفييتي السابق بين عامي (1988 -1991م)، كثاني أعظم قوة في العالم حينها، والتي تأسست عام ( 26 ديسمبر 1922م). وبحسب المصادر فقد كان جورباتشوف صادق مع الناس، سليم الطوية، جم التواضع، قريب من البسطاء والفلاحين، ميالاً للديمقراطية وإشراك الناس في تقرير شئونهم لكونه ينتمي للجيل الثاني في الحزب الشيوعي الذي حمل رؤية جديدة لإعادة بناء دور الدولة ومؤسساتها بأدوات غير دموية.
وعقب توليه السلطة قدم برنامج "الجلاسونست "أي المصالحة والمكاشفة باللغة الروسية كتشخيص للوضع الموروث وما تخلله من فساد وممارسات خاطئة ومصالح ذاتية، كما طرح برنامج " البيروسترويكا" والتي تعني باللغة الروسية إعادة الهيكلة والبناء، والتي كان يتغيا من ورائها إحداث انقلاب فكري وثقافي على الأوضاع الموروثة وبأدوات ناعمة (soft). وكانت ترتكز على عدة مبادئ من أبرزها: منظومة الديمقراطية بما تشتمل عليه من حرية الرأي والتعبير والتدين، والتعدد، والاقتصاد الحر، والملكية الخاصة، والانفتاح على الغرب.
ولكن نتيجة الشخصية الرخوة لجورباتشوف انفرط عقد الدولة من يده بسهولة وسرعة مذهلة؛ لأنه كان لا يؤمن بالوحدة بوسائل القهر والإكراه برغم نبل مقاصده وتوجهاته على الأقل كما يبدو لنا، ومن ثم أسدل الستار على الاتحاد السوفيتي في (25 ديسمبر 1991م) وبدأ عهد القطب الواحد كما نعلم، وكانت جائزة "نوبل" للسلام لعام 1990م من نصيب جورباتشوف نظير ذلك!. وبعد هذه المقدمة القصيرة عن شخصية ونهج الرئيس جورباتشوف أجد أن التاريخ يعيد نفسه في اليمن، وأن هناك تشابه بين شخصية ومنهجية الرئيسين، ليس بسبب أن جنوب اليمن كان مستعمرة سوفيتية، ولا بحكم أن هادي تلقى قسطاً من تعليمه في الاتحاد السوفيتي. فمما يحسب للرئيس هادي بحكم دراسته في أكثر من دولة عربية وأجنبية وعمله خلال فترة الاستعمار الانجليزي الذي تميز بإدارة شئون الجنوب بأسلوب حديث نسبياً، أنه يمتلك رؤية أفضل لإدارة مؤسسات الدولة وموارد المجتمع، ويميل للعمل المؤسسي بدلاً من شخصنة الأمور.
علاوة على ذلك، الرئيس هادي لديه سريرة طيبة وصدق مع النفس والناس، كما لا يمتلك رغبة قوية للاستحواذ والإثراء والفساد من السلطة ونكث العهود والاتفاقيات والرغبة في الانتقام والثأر على خلفيات أو خلافات سياسية. ولكنه برغم ما يتحلى به من نظرة عصرية ومثالية للأمور يعد شخص فاقد للقدرة القيادية وللدافعية الداخلية للعمل وروح المبادرة والجرأة في اتخاذ القرار وتحمل أثاره والتصدي للمشكلات قبل وقوعها والخوف من المواجهة والنقد واللوم.
ولا شك أن إدارة الدول لا يجدي معها هذا النمط المتردد والواهن من القادة ممن هم على شاكلة جورباتشوف وهادي، فالدول تحتاج لها بحسب معيار حكام عهد بني أمية رجل لا يعرف الله ولا رسوله (أي رجل بنزعة إجرامية)، وبحسب ميكافيللي أن يكون الحاكم أسداً، وإذا اقتضى الأمر وثعلباً. ويمدنا التاريخ بأمثلة عظيمة فمثلاً الرئيس الأمريكي السادس عشر ابراهام لنكولن لم يؤثر السلامة والسلمية في التعامل مع الولايات الأمريكية الجنوبية التي قررت الانفصال عام (1861م)، ولكنه بشجاعة نادرة قرر شن الحرب ضدها وقدم آلاف الضحايا لوأد حركة التمرد والانشقاق وأعادها إلى بيت الطاعة، ولولا هذا الموقف العظيم لما كانت أمريكا اليوم متسيدة بهذه القوة والمجد على العالم.
ومن خلال متابعتي للتطورات في البلد منذ تولي هادي دفة الحكم أجد أن الدولة تنكمش في عهده تدريجيا، وتتحلل أطرافها كل يوم، بينما هو يتحدث بلغة مثالية عن معجزة البيروسترويكا اليمنية (وثيقة مخرجات الحوار الوطني). مشكلة الرئيس هادي أنه وربما بفعل ضغوط معينة وصل إلى نقطة محددة من مشواره الرئاسي، فلا هو قادر على التقدم إلى الأمام والحفاظ على الحد الأدنى من مؤسسة الدولة ومكتسباتها، ولا هو في نفس الوقت قادر على التخلي عن المنصب،
مع أنني أرى خيار التنحي عن المنصب هو الخيار الأفضل له شخصياً وللمصلحة العليا للبلد لأنه وصل إلى مستوى من عدم الكفاءة، وهو ما يعكس نظرية معروفة في الإدارة مفادها: يترقى الفرد في الهيكل التنظيمي للمؤسسة حتى يصل إلى مستوى من عدم الكفاءة. أي يصل الفرد إلى مستوى تنظيمي أو سياسي يفوق قدراته ويتطلب قدرات إضافية، وهذا هو حال الرئيس هادي، لا هو بقادر أن يدير الدولة بكفاءة ولا هو مستعد أن يعلن قرار التنحي ليتوافق أهل الحل والعقد على شخص آخر. سيدي الرئيس البلد يتآكل من أطرافه ويُنخر من جذوره ومن عقر عاصمته وتُضرب كل مقوماته ومكتسباته وتنتهك مقدساته وأنت تتفرج بعين باردة، وتتحلى بحالة قاتلة من الصبر والصمت والحكمة العمياء.
فمتى ستتحرك وتؤدي مسئولياتك الدستورية والأخلاقية لحماية المجتمع من جماعة متمردة وحاقدة؟ فكل يوم يترسخ قدمها أكثر يصبح من الصعب إزاحتها إلا بكلفة عالية. ليس كافياً ما تقوم به من ممارسات شكلية في هيئة لجان رئاسية للوساطة. وإزاء هذا الصمت والبرود في التفكير والفعل ليس لدينا سوى تفسيرين محتملين للأمر: إما أنكم سيدي الرئيس قد فقدتم حاسة الاستشعار التي يجب إن يتحلى بها كل قائد سياسي لإدراك ما يعتمل في البيئة الداخلية والدولية من تحديات ومخاطر، وإما أنكم سيدي الرئيس تبحثون عن شرعية لقرار الانسحاب، وذلك من خلال مشروع يتبلور في العقل الباطن، وهو يعتمد على إرخاء قبضة الدولة قصداً عن إقليم الشمال لتطل برأسها وتطفو إلى سطح واقعه كل الثارات الاجتماعية والنزعات العصبويات الموتورة والحاقد من أجل أن يدخل الشمال في حلبة العنف والصراع طويل المدى مما يوفر قاعدة من الشرعية للانسحاب الآمن والناعم إلى جمهورية اليمن الجنوبي بحجة أن أهل الشمال مشكلجيون ويستحيل التعايش والتوحد معهم تحت سقف دولة واحدة، فاضطرونا هم أنفسهم للعودة، ولم يكن بالإمكان أكثر مما كان ونتمنى أن تلتقي الأجيال في تجربة وحدوية قادمة.