القلم بين الفكر والكفر
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 14 سنة و 7 أشهر و 26 يوماً
الخميس 11 مارس - آذار 2010 06:45 م

وحتى لا يضعني القارئُ الكريم في خانة [التكفيريين] ويضمني إلى قائمتهم تسرعا أبدأ قولي - موضحا - إن ما أقصده بلفظة [الكفر] التي ذيلت بها العنوان هو معناها المعجمي (لا الاصطلاحي)، فمعروف أن دلالة [كفر] لغويا [غطَّى] وقد نجد لهذا الاستعمال اللغوي للفظة [الكفر] مكانا في التناول القرآني في قوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (الحديد:20) وبين الاستعمالين حقيقة ومجاز، فالزراع يغطون البذر، وكثير من الكتاب يغطون الحقائق ويزيفونها. وقد كان هذا توضيحا لا بد منه قبل الشروع في المقال حتى لا يذهب القارئ الكريم بعنوانه مذاهب أخرى ويقولني ما لم أقل أو اقصد.

وعودة على بدء فإن قيمة القلم - في التصور الإسلامي – والتداول القرآني تكمن فيما يكتب من فكر مضيء مستنير وساطع، وبما يسطره بحروف من نور، تعلم الناس وتزيل ظلام الجهل عنهم، وتكشف الزيف، فيكون ما يكتبه القلم من نصوص وما يُفهِمُه من أفكار بمثابة (الحجة/الحكمة) البالغة في قوة أثرها ووقعها على (المتلقين/القراء). وهذا لا يكون إلا عندما يقصد الكاتب بكل ما يكتب وجه الله والدار الآخرة، فيتحرى في كل ما يكتب أو يسطر بقلمه النية الخالصة والصدق والحق والعدل. عند ذلك يرقى مقاله إلى درجة عالية يستحق به كاتبه نيل أجر المجاهد (أعظم/أفضل الجهاد كلمة حق/عدل عن سلطان جائر).

فالقصد إذا إيصال الحقيقة وتجليتها للناس في أحسن صورها، هذا هو دور ومهمة ووظيفة وغاية القلم في التصور الإسلامي والمقصد القرآني؛ فهو وسيلة تعليم وتنوير وفكر وبيان؛ لهذا اقترن [القلم] في التناول القرآني، تارة بالعلم، وتارة أخرى بكلمات الله؛ قال تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) (العلق:4)، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27). وهذا الاقتران يدل على مكانة القلم العظيمة في الإسلام، فهو مقترن بالعلم تارة، وبكلمات الله تارة أخرى؛ بما يعني أن شأنه ودوره عظيم بالنهوض بالأمم، ورقيها الحضاري والمادي على السواء، إذا ما استعلم كأداة علم وفكر وبيان؛ لذلك قالوا عن الحضارة الإسلامية بأنها [حضارة نص] .

ولما كان ذلك هو شأن القلم؛ فقد أقسم الله به في قرآنه؛ ليوحي لنا بمزيد شرفه وعلو مقامه وقدره، قال تعالى: (نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم:1). ولما كان القلم عظيما ودوره بالغا ومرموقا اقتضى ذلك: أن ما يسطره ويكتبه ينبغي أن يكون كذلك حيث جاء العطف في الأسلوب القرآني لجملة (يسطرون) على القلم، وقد فهمنا وعلمنا مكانته؛ ليوحي لنا أن ما ينبغي أن يُسطِّره القلم هو من ذات القلم يكتسب العظمة، أو بمعنى أدق؛ أن القلم يكتسب معناه وعظمته تلك مما يسطره؛ فهو لا يفارق العظمة ولا تفارقه هي؛ فالعلاقة علاقة امتزاج واقتران وتكامل. 

إذا فالقلم قد اكتسب كل تلك الأهمية من معناه ومغزاه، ومن دوره المنشود، فقد اقترن بالعلم واقترن بكلمات الله كما كان محط قسم الله؛ والله لا يقسم في قرآنه إلا بعظيم. ولا شك أن المتأمل في سياقات القسم في التناول القرآني يجد أن الله قد أقسم بكل الأشياء العظيمة. ولا شك أن القلم إذا كان عظيما فإنه لا يفارق العظمة فيما يكتب ويسطر وليس هناك عظمة في أن ينل به صاحبه الدرجات العلى من الجنة؛ نتيجة ما يبينه من الحق والصدق، وفيما يكشفه من الزيف.

هكذا نفهم القلم؛ نفهمه مرتبط بالقيم؛ فالقيم جزء من معناه كما هي جزء من حروف مبناه [قلم/قيم]، فقيمته بما يكتبه وفي وظيفته ومغزاه وهذا ما ينبغي على كل كاتب أن يعيه قبل البدء بالكتابة ومخاطبة القراء؛ لا بد أن يحترم عقولهم وأفكارهم التي منحهم الله إياها؛ لذلك أقسم الله بالقلم وبما يسطره معا. (والقلم وما يسطرون).

بيد أن بعض الكتاب وخاصة من هم على منابر الصحافة، فهموا القلم ودوره على أنه وسيلة كسب؛ فباعوه بثمن بخس، وقصدوا به مآرب أخرى؛ وذلك عندما فهموه على غير مقصوده وألفوه على أنه وسيلة تزلف وتملق وتقرب إلى البشر خوفا تارة، وطمعا فيما عندهم تارة أخرى؛ فيقوموا بدور الممثل الذي ينمق الأقوال ويجيد اللحن؛ متلاعبين بأفكار الناس وساخرين من عقولهم مستخفين بهم؛ وعندها يتحول دور القلم من فكر إلى كفر ومن عمق إلى عقم .... ويتحول مبناه من قلم إلى مَلَق. ومن وسيلة كشف وبيان وتعليم، إلى وسيلة تغطية وتعمية وتضليل، حينها لا شك أن [القلم] سيفقد لفظه ومبناه بفقدان معناه ومغزاه، عندما تحول عن وظيفته النبيلة إلى وظيفة شيطانية استهوى صاحبه حب المال، وحب المناصب والمراتب العالية، وقد يكون حب الشهرة أيضا، ولعل هذه الأخيرة لا يسلم منها إلا القليل. وقد يكون الخوف من فقدان ذلك؛ فهو بين الخوف والرجاء أو قل: الطمع والجشع.

ولما كان الـ [قلم] في التداول القرآني مقترن بكل عظيم وبكل ذي قيمة، وبكل ذي نفع، ضل مبناه [قلما]، وعندما حوره البشر إلى وسيلة نفعية لا شك أن لفظه أو [مبناه] سوف يتحول تبعا لتلك المقاصد الهابطة والساقطة، يتحول من [قلم] إلى [مّلَق] كما تحول من وسيلة [فكر] تنير العقول إلى وسيلة [كفر] تخادعها وتضللها بتغطية الحقيقة وحجبها عنها وتزيفها، فقد أصبح هذا هو وضع [القلم] عندما قصد به الكتاب مآرب أخرى، بعيدة عن القيم.

فتعالوا بنا قرائنا الكرام نتناول لفظ [قلم] بالمقلوب - كما فهم بعض الكتاب دوره بالمقلوب فابتعدوا به كثير عن [القيم] التي هي من أهم أساسيات الصحافة المقروءة؛ وهذا الابتعاد عن فهم معنى القلم ودوره هو شأن كثير من الكتاب.

جاء في لسان العرب: الملق: هو الوُّد واللطف الشديد، ورجل ملِق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. والملاَّق: الذي لا يصدق وُدُّه، والمتزين بما ليس عنده. وملق الجدي أمه: إذا رضعها. إذا فهو تملق وود كذاب ارتبط برضاعة؛ ومازال الضرع يدر الحليب ويدر القذارة، فإن القلم سوف يدر الحبر ويداهن ثم يراهن ويجمل الزيف فيصير أشبه بمسْكَرة المكياج التي تلمع وتزين وتظهر الباطل بصورة الحق.

وكل هذه (معاني/مآرب/مقاصد) ينقلب فيها معنى القلم ووظيفته وتفقده قيمته ودوره ومكانته لينتكس؛ فبدلا من أن يكون أداة علم وتبصير وتنوير يتحول إلى أداة تعمية وتغطية وتظليل، وبدلا أن يكون مرتبطا بكل ما من شأنه أن يكون عظيما انحدر إلى أن أصبح وسيلة رخيصة للبيع والشراء، ووسيلة تسويق للأفكار الرخيصة، عندها يتحول من قمة سامقة ومبدأ سامي إلى [لُقمة] ساقطة؛ ورغبة جامحة، يزل من أجلها ولأجلها القلم فيتحول من منابر النور ليستقر في مزابل التأريخ ولفظة [لُقم] هي إحدى اشتقاقات [قلم] أيضا؛ فقد يبيع الإنسان [قلمه] بـ [لقمه]، فتنتكس الحضارات في مقابل لقيمات أو فتاتات.

إن القلم إذا صار إلى [ملق] لا يعدوا أن يكون أكثر من (مَسْكَرَة) مكياج، يوظف لتلميع الفاسدين، ويزين الباطل فيظهره في صورة حق؛ إنه انقلاب كلي حور المفاهيم وشوه حقائق الأشياء. وهذا هو الفرق بين كاتب أو صحفي وآخر.

فنحن أمام انقلاب الموازين والمفاهيم والتصورات وكذلك الألفاظ والمسميات. وهو بتعبير آخر انحدار القيم للتحول إلى البحث عن [لُقم] حين يفقد القلم معناه ومغزاه؛ فكل له هدف وغاية فيما يكتب؛ وهذه الغاية قد تكون رفيعة كرفعة القلم كما فهمناه، وقد تكون وضيعة كمقلوبه [ملق] الذي من معانيها أيضا المداهنة وشدة اللطف وتودد الكاتب الكاذب إنه انحدار في سلم القيم.

أتعرفون لم هو تودد كاتبٍ كاذب ؟ لأن حروف قلمه تنقطع أو يجف حبره في مدحه بانقطاع أسباب المدح أو انقطاع مدد الممدوح، وهكذا يصبح الممدوح بالأمس - عند هذه الأقلام المأجورة - مذموما في الغد؛ فهي تجارة ربح وخسارة، واستمرار مدادها مرهون باستمرار عطاء الزعامات، وباستمرار در ضروعها؛ فإذا جف الضرع وحان الفطام تجف الأقلام وتطوى الصحف.

وفي المقابل تجد الكتبة الصادقين يعلمون أن كلمات الله لا تنفذ ما دام الدم يجري في عروقهم، وإن أحبار أقلامهم لا تجف بل دائما تسطر ضياء وتكتب بحروف من نور لتنور للناس طريقهم؛ وأن كلمتهم الطيبة اكتسبت علوها وهمتها من علو مقصدها وغاية نبلها، فهم يعرفون ويعلمون - يقينا - أنهم عندما يسطرون الحق والعدل ويكشفون الزيف، بأحرف من نار ونور أنهم يعلنون الحرب الباردة، فيعلمون أنهم لا يسطرون بالمداد أو الحبر، بل إنهم يدركون أنهم يسطرون بدمائهم قبل أحبارهم؛ لأنهم قد يدفعون حياتهم رخيصة في سبيل إحقاق حق أو كشف يزيف؛ ولهذا قال الحبيب المصطفى "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" فقد يكون ثمنها غاليا النفس؛ لكن في المقابل نجد أن سلعة الله غالية هي الجنة. لهذا كانت كلمتهم (أي الكتبة الصادقون) كشجرة أصلها ثابت في الأرض وفرعها عالٍ في السماء، توتي أكلها كل حين، فلا ينقطع أكلها وثماره. أو كمشكاة فيها مصباح تضيء بنورها دروب الشعوب المظللة،فلا يخبوا نورها، وتلك هي الكلمة لا يجف مدادها ولا تطوى صحفها إلا إذا طويت الحياة وجف الدم في العروق والأنفاس في الحلوق.