قراءة منصفة لأزمة الجنوب اليمني
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 5 أيام
الإثنين 29 أكتوبر-تشرين الأول 2007 04:53 م

مأرب برس – خاص

أحسب أنّ من نافلة القول، القول بأن الجنوب اليمني، كان له الإسهام الأكبر في صناعة الوحدة اليمنية المباركة، والتي كانت أملاً عربياً وإسلامياً كبيراً، شاءت العناية الإلهية أن يرى النور والحياة، في سماء الأمتين العربية والإسلامية الملبدة بالغيوم والانكسارات .

ومن نافلة القول أيضاً أن القبائل اليمانية عموماً والجنوبية والشرقية خصوصاً من أكثر القبائل في الجزيرة العربية أصالة ونجدة وشهامة وإباءً وكرماً وحباً للوطن والدين والعروبة والقيم العربية الأصيلة .

 فإبان قيام الوحدة اليمانية، استقبل اليمانيون في شبوة وحضرموت والضالع وأبين ويافع ولحج ..إخوانهم من المحافظات الشمالية والغربية زوّاراً ومعلمين ومربين بأصوات البنادق والزغاريد - كما جرت العادة اليمنية في الترحيب بالغائب المنتظر أو الضيف الكريم- سروراً بهم وابتهاجاً بالوحدة اليمنية المباركة، التي جمعت شتات القلوب، ولمّت شعث الصفوف، ووحدت الكلمة، والتحمت فيها الأيادي اليمانية جمعاء، من أقصى اليمن إلى أقصاه.

ولعلّ ما تروج له بعض الوسائل الإعلامية غير الوطنية، أو المدسوسة أو الغريبة على مشروعنا الوطني الحضاري الكبير، من دعاوى تململ من تسميهم ب"الجنوب"، لهي دعاوى شيطانية مضللة وغير صادقة وغير منصفة .

إن الوحدة اليمنية ليست قابلة للمساومة ديناً ولا شرعاً ولا واقعاً، لا من الجنوب ولا من الشمال، لأنها دين يدان الله به، وطرح قضايا التشطير أو الفرقة بين المؤمنين، يعد كالتراجع عن الدين والملة .

إن بعض الوسائل الإعلامية المغرضة وغير المسئولة تصور مطالب بعض المحافظات الحية في اليمن على أنه تململ أو تراجع عن الوحدة اليمنية، لحاجة في نفس يعقوب، أو هكذا تتمنى بعض هذه الأقلام، فيما حقيقة التململ هذا، ليس من الوحدة اليمنية، بل هو تململ من الفساد ومن سوء الأوضاع المتردية في البلد، ليس إلا .

لكن يبقى التساؤل الذي يفرض نفسه، وهو لم هذه الانتفاضات وبالذات في المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن دون غيرها من المحافظات الأخرى؟ وما حقيقة شرعية المطالب التي تطالب بها هذه المحافظات، وما أصل الأزمة بين السلطة وهذه المحافظات؟ .

أولاً: السر في انتفاضة المحافظات الجنوبية والشرقية أكثر من غيرها، أن هذه المحافظات لا تزال قوية وأبيّة، ولم تطلها تأثيرات الجرع السعرية القاتلة، بل استطاعت المقاومة والتحدي لتأثيرات هذه الجرع السيئة السمعة، شعبياً، كما يقع في الجسم البشري عند أي جرح أو أي هجوم جرثومي فإن كريات الدم الحمراء دون غيرها تتولى دور الدفاع والصراع والمهاجمة لهذا الجرثوم الظالم الجائر، وما يقع في الجسم اليمني هو نفس هذه الصورة .

إن كثيراً من المحافظات الشمالية والغربية قضت عليها الجرع السعرية، واستطاعت هذه "الجرع" تدمير روح المقاومة والإباء في نفوس الأحرار، فما أظلم وأكفر الجوع، فكم أذل من أعناق للرجال، وهتك من كرامات للأحرار!!.

 ولعلّ ما تتداوله وسائل الإعلام عن الجرائم التي تقشعر منها الجلود وتتقطع لها نياط القلوب من انتهاكات لحقوق الإنسان في بعض المحافظات الغربية والشمالية، دون أن يتحرك لها أحد، وطواها ولفّها الزمن في سجله البائس، لدليل على ما نقول .

فوضع المحافظات الجنوبية والشرقية إقتصاديا وضع أفضل وأحسن، خصوصاً أن كثيراً من أبنائها مغتربون في أمريكا والخليج، ولهم عائدات مالية وتجارية حسنة، على ذويهم في الداخل، كما أن نسبة الأمية في هذه المحافظات متدنية جداً، وبالتالي شكّل هذان العاملان، عامل الوعي الكبير، وعامل الحيوية في اتخاذ القرار، سببان هامان في سماع صوت هذه المحافظات .

على أنّ مما تجب الإشارة إليه في هذا السياق والصدد أن هذا الفوران أو الغليان الاجتماعي والسياسي المحمود في هذه المحافظات وغيرها يجب أن يكون مضبوطا بالضوابط الشرعية والدستورية والقانونية، فلا يجوز قتل نفس أياً كانت هذه النفس، ومن قتل نفساً فكأنما قتل الشعب اليمني كله، لا بل الإنسانية كلها، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}المائدة32 .

كما لا يجوز الفساد في الأرض وتدمير الممتلكات وتضييع الحقوق، لأن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه .

ولا يجوز البغي وأعمال الحرابة والفساد، وهذه الأحكام الشرعية الربانية تشمل الجميع سواء في الجيش والأمن، مدنيين وعسكريين .

وهنا يجب على القضاء سرعة البت في جرائم القتل وجرائم انتهاك حقوق الإنسان وحرياته، وسرعة كشفها للرأي العام، إزالة للاحتقانات، وتخفيفاً من حدة التوتر، وإقامة لحدود الله، وإن عدم إقامة حدود الله على المجرمين والقتلة، يعد إسهاماً من السلطة في تأجيج الصراع وأعمال القتل والتخريب والإفساد، وعلى مجلس النواب وممثلي الأمة اليمنية والكتل البرلمانية، في هذا السياق، القيام بدورهم الرقابي في حماية الوطن والمواطن من أيدي العابثين والمستهترين، بأمن البلد واقتصاده ومقدراته . 

ثانياً: ما حقيقة الأزمة؟

الأزمة أزمة تراكمية منذ انتهاء حرب الوحدة صيف 94م، وتحول قطاع كبير من الجيش إلى التقاعد الإجباري، وعدم تسديد الدولة لفواتير رواتبهم ومستحقاتهم، رغم أن كثيراً منهم لم تكن لهم يد في قرار الانفصال، ومن كانت له يد في الانفصال بشكل أو بآخر، فقد شمله قرار العفو العام، وكان المفترض فور انتهاء حرب الانفصال أن يحسن إلى الجيش، بتحسين رواتبهم، على الأقل، وبالذات الذين قد غُرر بهم، ليشعروا بنعمة الوحدة اليمنية المباركة، وتثبيتاً لهم، وتأليفاً لقلوب من فتنته الشياطين، وإذا بالسلطة توقف رواتب قطاع كبير منهم، ودون مبرر شرعي أو قانوني أو دستوري، وبالطبع من حق الجائع أن يصرخ ويئن، وأن يعض أنامله وشفتيه، إذا ما قرصته معدته الخاوية .

ثانياً: زيادة تدهور الوضع المعيشي والاقتصادي يوما بعد يوم، حتى صارت كسرة الخبز في بعض المناطق كعملة نادرة، في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني، حيث وصل سعر قيمة عبوة كيس القمح 50كجم، إلى مبلغ 6000ريال، زاد من حجم الكارثة أنّ أغلب المناطق اليمنية جبلية، مما يضاعف من سعر القمح والمواد الأساسية، بسبب تكاليف النقل .

 صحيح أن ثمة ارتفاعاً عالمياً للأسعار، بيد أن الارتفاع العالمي ارتفاع نسبي، ويسير جداً، لا يكاد يذكر، مقارنة بارتفاع الأسعار اليمنية، سيما وأن أغلب المحافظات الجنوبية والشرقية تعتمد على الرواتب الحكومية الهزيلة، والتي كما وصفها البعض لا تكفي لحياة وعيش الفئران!! .

ثالثاً: رافق هذا الغلاء الفاحش احتقان سياسي كبير، بسبب رغبة النظام الجامحة في تمديد عمر الفساد والمفسدين، عن طريق التعديلات الدستورية الجديدة، التي اعتبرها العقلاء مجرد مغالطة مكشوفة لتمديد ولاية الرئاسة، والتهيئة للتوريث، حيث تنص التعديلات الدستورية الجديدة على منح الرئاسة دورتين انتخابيتين جديدتين، وعلى أن يكون النظام السياسي رئاسياً، فيما أمم الدنيا لا تلجأ إلى التعديلات الدستورية إلا في الأندر وللضرورة القصوى، وبعد عقود من الزمان، والذي يتم تعديله هو الحكومات والسياسات والخطط والبرامج، لكن الأمر عُكس تماماً في اليمن حيث يعدل الدستور، كلما رأى السلطان ذلك، ولا لضرورة، إلا ما ذكر آنفاً، وبات الدستور في مهب الريح .

رابعاً: غياب معايير العدالة والمساواة، وغياب سلطة القضاء، وغياب هيبة النظام والقانون، وشيوع الفوضى الإدارية والمالية، وسياسة نهب مقدرات البلاد وثرواتها، دونما رادع من قانون أو نظام، إضافةً إلى التدهور الكبير لكل البنى التحية من تعليم وصحة واقتصاد وجيش وأمن وإعلام..مما زاد من تفاقم حجم الكارثة، وزاد بالتالي من حجم الغليان الشعبي، وهذا وإن كان شائعاً في كل أرجاء اليمن، بيد أن المحافظات الجنوبية والشرقية كما سبق تعد أكثر المحافظات اليمنية إدراكاً ووعياً وثقافة، ولا تزال تحتفظ بقدر حسن من الحيوية والمقاومة، على أن هذا الوضع قد يتسع وينتشر في كل المحافظات، ما لم تعالج أسبابه سريعاً .

خامساً : أعمال القمع والانتهاكات لحقوق الإنسان وحريته وكرامته في التعبير عن آرائه، وتطلعاته، والمحاكم غصت بملفات جرائم حقوق الإنسان، دون أي مبادرة تذكر لحلها، بل تُحوّل هذه الجرائم في الغالب إلى قضايا سياسية، أو مادة صحفية للتسلية والمتعة، وحسب، بالإضافة إلى استئثار الحزب الحاكم بكل مقدرات الدولة من صحافة وإعلام وجيش وأمن، وتصفية للمؤسسات الرسمية من كوادر المعارضة، لا سيما فيما يتعلق بالترقيات والعلاوات والاستحقاقات، بلا مبرر، إلا اللهم كون هذه الكوادر يشتبه في انتمائها للمعارضة، أو لكون هذا العنصر أو الموظف ليس لديه وساطة قوية، أو مال كاف للرشوة، للحصول على هذه الحقوق والاستحقاقات .

سادساً: غياب الحكماء المؤثرون أو تواريهم عن الساحة اليمنية، لسبب أو لآخر، كوفاة الشيخ الحكيم مجاهد أبو شوارب، يرحمه الله، ومرض الشيخ عبد الله الأحمر، عافاه الله ومتّعه بالصحة والعافية، إضافة إلى محاولة تصفية الجيش اليمني من الكوادر المعتدلة والوسطية، وعشعشة الفساد المالي والإداري في أوساطه .

سابعاً : القضاء على دور العلماء والحكماء، أو تفريغ دورهم، إن وجد، ولعلّ الجميع يلحظ أن ما تسمى ب"جمعية علماء اليمن"كإحدى أهم المؤسسات الشعبية في التوجيه والإرشاد، مع كل هذه الأحداث العاصفة والهامة والكبيرة في تاريخ اليمن الحديث، غير أنه لا يسمع لها صوت، وربما ولعلها وعساها تنتظر بنود اللقاء أو الاجتماع أو البيان الختامي من دهاليز وزارة الداخلية، الذي قد يتأخر! .

صحيح أنه لا يزال للعلماء الأثر الأكبر في المجتمع اليمني والعملية السياسية برمتها، إلا أن الكارثة فيما يبدوا أكبر من العلماء والحكماء، سيما مع تضعضع جبهة العلماء، وقدرة السلطة على الاستقطاب والاختراق الفكري والأمني لها، أو بسبب غياب الجزء الأكبر منهم – أي العلماء والحكماء- عن الواقع وأحداثه ومجرياته، أو لكون البعض الآخر منهم هم جزء من الفساد نفسه .

أحسب أن هذه أسباب وجيهة للاحتقانات والانتفاضات بين الفينة والفينة في المحافظات الجنوبية والشرقية بشكل أخص، وأحسب أيضاً أنه قد يقع بين الحاكم والمحكوم مثل هذه الأحداث، بيد أن الواجب على الجميع التحلي بأخلاق الإسلام والعودة إلى منطق العقل والحكمة والحوار البنَاء، وإتاحة مساحة أكبر من الحريات، والعمل على ترسيخ حرية الصحافة والإعلام، وفق نظام الإسلام ومنهجه في حرية التعبير، والسعي الجاد والحثيث لإصلاح الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد، واعتبار حرية الإنسان اليمني وكرامته ولقمة عيشه خطاً أحمر لا يجوز المساس به، وإشراك كل القوى السياسية اليمنية الوحدوية الفاعلة في عملية إعادة البناء .

والحمد لله رب العالمين،،