قضى كثير من الكتاب العرب معظم حياتهم، وبنوا مجدهم في التأليف على أساس الإشادة بأدوار طهران في مقارعة الإمبريالية والصهيونية، ومنازلة «الشيطان الأكبر»، خلال قرابة أربعين سنة، من بعد ثورة الراحل الخميني في إيران.
بنوا استراتيجيات الكتابة لديهم على أساس من الصراع بين قوى المقاومة والممانعة التي تقودها إيران، وبين قوى «الاستكبار العالمي» التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا شيء جيد ومعقول.
ولكن ماذا حدث؟
حدث التقارب الأمريكي الإيراني، وتم زواج «الشيطان الأكبر الأمريكي» بـ»محور الشر الإيراني». وبدلاً من أن نلحظ ارتباكاً في موقف الكتاب الذين قضوا أعمارهم يمجدون الموقف البطولي لطهران في مقارعة قوى الاستكبار، بدلاً من ذلك، يصاب المرء بالدهشة، وهو يلحظ أن هؤلاء الكتاب الذين راهنوا على صدق الدعاوى الإيرانية في مقاومة «قوى الاستكبار»، تحولوا اليوم إلى مروجين للتقارب الأمريكي الإيراني، وبدأوا يتنكرون لمئات الكتب وآلاف المقالات التي دبجوها في مديح قوة المقاومة التي تتصدرها طهران، التي إن كان خطابها الدعائي خطاب الأبطال، إلا أن فعلها السياسي هو فعل نفعي براغماتي لا علاقة له بشعاراتها الرنانة، بدءاً من شعار «الموت لأمريكا»، وانتهاء بـ»يوم القدس العالمي».
ومع ذلك، فقد كنا نتوقع أن يشعر «كتبة إيران» العرب بشيء من الحرج، بعد أن تنكرت سياسات طهران للشعارات الإيرانية، لكنهم لم يعدموا حيلة ليقولوا لنا بها إن إيران تلعب سياسة، حتى عندما كانت تجعل من «القدس» حصان طروادتها الذي عن طريقه دخلت إلى داخل أسوار مدننا العربية، ومزقتنا إلى سنة وشيعة لصالح مشروعها القومي. كان رد تلك الأقلام الإيرانية بعد أن اكتشفت أن إيران كانت خلال قرابة أربعة عقود تبيع الكلام، كان ردها، بشكل ينبئ عن ضحالة فكرية وربما أخلاقية: «حلال على الشاطر»، ناسين أن هذا الشاطر يمارس شطارته على شعوبهم التي ينتمون إليها، ونسيجهم الثقافي والاجتماعي، الذي يمثلونه.
عندما يمارس الشاطر شطارته ضد شعوب لا تربطنا بها علاقة، فمن حقنا أن نلبس لبوس المنظرين الموضوعيين، الذين ينظرون للأمور بشكل حيادي، بل يمكن أن نصفق لهذا الشاطر الذي يمارس الكذب والتضليل والتقية السياسية على شعوب ليست شعوبنا. أما أن يمارس هذا الشاطر شطارته على شعوبنا، تدخلاً وتفرقة وفتنة وبيعاً للكلام والشعارات الفارغة، ومع ذلك يكتب كاتب عربي إن هذا الشاطر يستحق لأنه ذكي، فذلك ما لا يمكن تسويغه، إلا إذا كان هذا الكاتب يدين بالولاء السياسي والثقافي والطائفي لإيران.
لا يجوز في تصوري أن يقال في مديح سياسات إسرائيل ـ على سبيل المثال – ضد شعوبنا «حلال على الشاطر»، لسبب بسيط، وهو أن هذا الشاطر يمارس أعمالاً لا أخلاقية، وخارجة عن القانون الدولي، ومع ذلك فيمكن أن نتفهم أن يكتب كاتب أمريكي أو أوروبي في مديح إسرائيل، وأن يستشهد بالعبارة «حلال على الشاطر»، لسبب بسيط، وهو أن إسرائيل امتداد للنسيج الثقافي والحضاري الغربي. لكن الكاتب العربي الذي يمتدح سياسات إسرائيل الإجرامية، ويبرر لها أعمالها بحجة أن ذلك «حلال على الشاطر»، يعد في تصوري كاتباً فقد بوصلة التفكير، ومشاعر الانتماء، والشيء ذاته يمكن أن ينطبق على من يبررون ما تقوم به إيران في بلادنا بالقول الممجوج «حلال على الشاطر».
هذا ليس مقالاً في الآيديولوجيا القومية، كما يمكن أن يفهم منه، ولكنه كاتبه أراد أن يقول ـ بكل بساطة – إنك عندما ترى خصمك «شاطراً»، في سياساته الشريرة ضد أهلك، فإن المطلوب منك أن تعمل على كشف أساليب والتواءات هذا الشاطر على الأقل للمستويات الشعبوية التي لا تزال شرائح منها تؤمن بأن علي خامنئي هو الذي سيحرر القدس، مع أن تحرير مكة والمدينة لديه أولى من تحرير القدس أو فلسطين، حسب أدبيات الخطاب الديني للنظام الطائفي الحاكم في طهران.
اعتقد أن دور طهران التخريبي اليوم في المنطقة العربية، أصبح في وضوح الشمس، وأن من لا يزال بعد كل ما فعلت طهران ببغداد وبيروت ودمشق وصنعاء، يؤمن بسياسة «حلال على الشاطر»، فإنه إنما يريد أن يقدم المبرر الأخلاقي لموقفه الداعم لعدوه على حساب أهله وذويه.
والشيء المدهش أن العرب عندما بدأوا في أخذ زمام المبادرة في ردع السياسات الإيرانية في اليمن على سبيل المثال، وعندما بدأوا يتصرفون بشكل أكثر حزماً إزاء سياسات إيران في سوريا بإمداد الثوار بشيء قليل من السلاح، عندما فعل العرب ذلك، لم يقل هؤلاء الكتاب «حلال على الشاطر»، كما قالوها عن طهران، بل ردد هؤلاء الكتاب إن دول الخليج تشن عدوانا سافرا على اليمن، الذي يدافع عن نفسه، وذهبوا يتنطعون بالقول: لماذا لم يقم تحالف عربي ضد إسرائيل؟ وهذا سؤال رغم صحة طرحه في الأساس، إلا أن الذين يطرحونه يدركون أنهم إنما يطرحونه لغرض المناكفة، لعلمهم أن العرب ليسوا في ظرف يسمح لهم بوضعهم الحالي لخوض المعركة مع إسرائيل، ولأن عاصمة المقاومة طهران نفسها لم تقم بهذه المعركة، رغم أنها ملأت العالم ضجيجاً حول القدس وفلسطين.
وبالعودة إلى مقولة كتاب الممانعة الإيرانية «حلال على الشاطر»، أشير فقط إلى أن الشاطر في قواميس اللغة العربية، هو اللص الذي يقطع الطريق، ويأخذ ممتلكات المسافرين، ويثير القلق والفتن في الطرقات والبلدان.
وإذا فارقت إيران المعنى القاموسي المذكور أعلاه لكلمة «شاطر»، فإنني مدين هنا بالاعتذار لإيران، ولكتبتها المحترمين.