ملف الأسرى الاستراتيجي ..كيف تديره حماس؟
بقلم/ حسين الصوفي
نشر منذ: سنة و أسبوع و يوم واحد
الثلاثاء 24 أكتوبر-تشرين الأول 2023 05:59 م
 

تجاوزت معركة طوفان الأقصى ليلتها السابعة عشرة، وتحتفظ المقاومة برصيد ضخم من الإنجازات الاحترافية التي تحققها بمفاجآت على مدار الساعة، ومع مرور أكثر من أربعمائة ساعة يمكننا القيام بحصر النتائج المهمة التي حققتها المقاومة كمكاسب بعضها استراتيجية، وكثير من التكتيكات المهنية بالغة الاحتراف والخبرة والذكاء، والتي تعكس العقلية القيادية التحويلية التي تتمتع بها المقاومة كمنظومة متكاملة.

ما سبق قد يكون كلاما مرسلا وإنشائيا لا قيمة له ما لم يستند إلى حقائق ووقائع وشواهد مادية ومعنوية، فما هي الحقائق التي تثبت ذلك؟! تعالوا نقوم بمراجعة عابرة للأحداث خلال الأيام الماضية منذ السادسة والربع عند شروق شمس السابع من أكتوبر المجيد، لحظة تدشين محمد الضيف لطوفان الأقصى.

من أهداف الطوفان: وضعت قيادة القسام أهداف استراتيجية، كنت قد أشرت إليها في وقت سابق، لكن لأهمية تكثيف الأدلة على ما ذكرته أعلى هذه السطور، يمكننا تسليط الضوء على ملف (الأسرى)، وهو بالمناسبة ملف استراتيجي وذو أهمية قصوى لدى حماس والمقاومة الفلسطينية، وقد أكد عليها أبو عبيدة مرارا في رسائله المتكررة خلال أيام الطوفان. وحتى تتضح الصورة بشكل أكبر، ينبغي العودة إلى الوراء قليلا لاستعراض الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال في هذه الجبهة، جبهة الأسرى، وتتمثل في تبني العدو لسياسة كسر الإرادة العنيفة، وذلك عبر اتباع همجية أسر الفلسطينيين من كل الفئات والأعمار، أطفالا ونساءا وشيوخ، وإذلالهم ومعاملتهم بوحشية غير مسبوقة، واتخذت كل الوسائل والسبل لتحقيق ذلك، من بينها تشريع قوانين ووضع الفلسطينيين تحت إجراء ما يسمى (السجن الإداري) وهو إجراء يمنح العدو نفسه حرية إحتجاز الأسير بدون تهمة أو محاكمة وفي الظروف والمكان الذي يفرضه وللوقت الذي يريد!. ومن بين هؤلاء الأبطال، نساء يتجاوز عددهن العشرات، وأطفال تحت الخامسة عشر يتجاوز عددهم الخمسمائة طفل، وأكثر من سبعة ألف من الشباب والشيوخ بعضهم مات في السجن، وبعضهم سرق السجان عمره كله بينهم عبد الله البرغوثي الذي مضى على أسره أكثر من أربعين سنة، ومروان البرغوثي وغيرهم الكثير. هذه ساحة معركة طويلة الأمد بين طرف يمتلك أعتى قوة على وجه الأرض، مسنودة بكل القوى العظمى في العالم، وبين شعب أعزل ومقاومة محدودة الخيارات والوسائل، مكشوفة الظهر حتى من الأخ والجار، بل إن السنوات الأخيرة شهدت اصطفاف لأشقاء في صف العدو. فما الحيلة إذن؟! جرّب الفلسطينيون المفاوضات وجولات الساسة ومتاهة السياسة، ولم تحرك ساكنا، بل ضاعفت المعاناة، وعمقت الأسى والمأساة، فكان لا بد من التفكير خارج الصندوق لتحقيق تفوق يجبر العدو على الرضوخ، وينتزع الأحرار من قبضة هذه القوة المطلقة المسنودة بقوى العالم العظمى، فجاءت المفاجأة بإنجاز قيادة القسام الفذة أسر الجندي جلعاد شاليط، وانتزاع حرية أكثر من ألف أسير، من بينهم يحيى السنوار الذي صار فيما بعد رئيس حركة حماس في الداخل.

وحين نجحت هذه الخطة وحققت خطوات مهمة، واحدثت تحولا فارقا، كان لا بد من التركيز على هذا الفعل البطولي وترتيب كل ما يمكنه من تحقيق نجاحات مماثلة وبنتائج أكبر بطبيعة الحال، إذ أنشأت كتائب القسام وحدة خاصة أسمتها (وحدة الظل) وأسندت لها ملف أسرى العدو، وكان من بين قادة القسام الذين ساهموا في بناء هذه الوحدة، نائب محمد الضيف الشهيد أحمد الجعبري رحمه الله.

وفي حرب سابقة نجحت حماس في أسر جنود صهاينة، من بينهم رقيب يدعى آرول شاؤول، وثلاثة آخرين، ومنذ سنوات يجري التفاوض غير المباشر على إنجاز صفقة لتبادل الأسرى، وتشترك وساطة ألمانية وغربية مع مصرية في تلك المفاوضات الطويلة، وقبل عامين كادت الصفقة أن تنجح، ثم نكث العدو ورفض شروط المقاومة، حينها خرج يحيى السنوار وقال، كنا قد وضعنا رقم ١١١١، وهو يوم له علاقة بياسر عرفات، قال السنوار بلغة واضحة وممتلئة بالثقة: نقول للعدو أن ملف التفاوض (على الأربعة) أغلق نهائيا، وألتزم لأسرانا بإنتزاع حريتهم كلهم دفعة واحدة! قال ذلك في خطاب شهير وموثق يمكنكم العودة له على يوتيوب ومواقع الأخبار.

** أعتقد انه كان من الضرورة استدعاء تلك الخلاصة، حتى نتمكن من بناء تصور ينصف هذه القيادة الاستثنائية، والتحويلية، التي امتلكت من الخبرة والحنكة والذكاء والاحترافية والفاعلية والمصداقية الكاملة، مكنتها من خوض الصراع بعبقرية، حققت نجاحات متراكمة حتى وصلت إلى تحويل الدفة لصالحها برغم الظروف ذاتها، والفوارق التي لا تقبل المقارنة بينها وبين العدو على كل الأصعدة. فهل نجحت المقاومة؟! لنتذكر جيدا أن يحيى السنوار نفسه أحد أحرار صفقة شاليط، وهذا يفتح لنا المجال لنتخيل كل السجون الصهيونية وقد تكسرت أبوابها، وتمزقت أغلالها، ودوّت فيها التكبيرات، وفتح فضاء الحرية لجميع الأسرى دفعة واحدة!.

لك أن تتخيل لحظة مغادرة سبعة ألف بطل، لحظة واحدة، تخيل فرحتهم، وفرحة أسرهم، وابتهاجك أنت وكل العالم بهذا الإنجاز الاستراتيجي، والنصر التاريخي!. لك ان تتخيل بصق آخر أسير في وجه السجان، ورجع صدى البصقة في السجون التي تعد بالعشرات على امتداد رقعة جغرافيا فلسطين الحرة، ذات التحصينات الأعلى والأشد عالميا، وبتكلفة باهظة أنفقها الاحتلال .

  • أظن أنك تخيلت هذا المشهد، وأنت تسمع أبا عبيدة يقول أن لدينا من أسرى العدو ما يجعلنا نقول بكل ثقة أن كل أسرانا على موعد قريب جدا مع الحرية. وقال العاروري، نطمئن أسرانا بأن حريتهم أصبحت مسألة وقت، فيما وصف خالد مشعل هذا الفعل البطولي التاريخي المشرف أن ثمنه (تبييض السجون)!.
  • وهنا يمكنك فهم الهمجية المتوحشة التي تنتقم من الأبرياء، وتسحق إنسانية قوى الغرب الإجرامية الصليبية، وتذبح أكاذيبهم ومساحيق الخديعة الطويلة التي تظاهروا بها قبل أن تسفك دماء أبطال غزة والضفة. لك أن تدرك سر تصدر بايدن ولأول مرة في تاريخ الصراع أن يتبنى رئيس أمريكي المعركة شخصيا، ويكرر بوقاحة وعنجهية ومقايضة إجرامية: المساعدات والدواء والغذاء مقابل الإفراج عن الذين لدى حماس!. وهنا يقف أبا عبيدة بدهاء فائق وسيطرة كاملة، ويقسم الأسرى قسمين: قسم هم الغلة، والثمن، هم السلاح الاستراتيجي، وهم تذكرة حرية كل أسير فلسطيني، وهؤلاء ضباط برتب عالية، وجنود بأعداد كثيرة ستكون لحظة أن يبث القساميون فيديوهات لهم هزيمة أعمق وأكبر من هزيمة ٧ أكتوبر، وإهانة أعظم من دوس القسامي على رقبة الجندي الصهيوني بعد انتزاعه من الدبابة الأكثر تحصينا عالميا. وقسم آخر هم "الضيوف"!. وحتى لا نطيل، فسأكتفي هنا بتثبيت هذه الصورة: يحشد بايدن وكل قادة الغرب، ومن ورائهم كل وسائل الإعلام الغربية، يحشدون ألسنتهم وإعلامهم لتثبيت رواية كاذبة أن حماس = داعش، وهي مقدمات للشيطنة ثم لترتيب قرار دولي وإجماع عالمي يشتركون فيه لخوض معركة بكل الأسلحة لاستئصال حماس. تلك الرواية الكاذبة دمرت العراق ومن قبلها أفغانستان، ومن بعدها سوريا!. هل أدركت حجم الخطة القذرة التي كانت الرواية الكاذبة تمهد لها؟!. خرجت حماس بفيديو، قضى على تلك الكذبة، طمسها، وحولها إلى لعنة تلاحق كل من تورطوا في تسويقها، ومرت الساعات، وأزهقت رواية حماس باطل كل العالم الشيطاني، ودمغتها، ولم تتوقف هنا، بل أخرجت ملايين البشر في كل عواصم العالم ومدن الأرض في تظاهرات تدين جرائم الاحتلال، وتصرخ في وجه قادة الغرب، وتبصق في وجوههم، وتقتحم الكونجرس وتدوي بهتافات تدعم غزة، وبالضرورة تعلن تأييدها لأبطال غزة. وبعد هذا الإنجاز لك أن تثبت في ذهنك هذه الصورة: متحدث باسم جيش الاحتلال لقناة سي ان ان: لن نستطيع اخراج كافة الرهائن لدى حماس أحياء!. وهي عقيدة قتالية تم تفعيلها لدى قيادة الاحتلال تسمى (هنيبال) وتسمح للجنود الصهاينة قتل أسراهم الذين يقعون في قبضة الطرف الذي يقاتلونه. وهنا خرج أبو عبيدة بتغريدة بالعبرية، قال لأهالي المحتجزين من الصهاينة، نحن عرضنا الافراج على أسيرتين، لأسباب انسانية، لكن حكومتكم رفضت!. بعد دقائق احتشد الآلاف من أهالي الأسرى لدى حماس عند مبنى وزارة دفاع العدو، وتظاهروا، خرج ساستهم ونفوا ذلك، لكنهم جميعا يثقون في أبي عبيدة فقط ولا يثقون في قادتهم. اليوم خرج المتحدث باسم جيش الاحتلال نفسه ليقول بشكل واضح: أولويتنا القصوى هي إنقاذ حياة الأسرى!. وبالأمس التقى الرئيس الصهيوني بممثلين عن أهالي الأسرى، ووعدهم وعدا قاطعا أن تكون حياة ذويهم أولوية قصوى!. هل رأيتم كيف نجح القساميون في إدارة المعركة؟! كيف يقلبون الطاولة على الجميع؟! كيف يديرون المعركة باحترافية فائقة ومهنية عالية؟!. هذا ما فعلته تغريدة واحدة، ولكم ان تتخيلوا ماذا لو سمحت المقاومة لعشرات من الأسرى بالاتصال بأهاليهم؟! أي تأثير سيحدثه ذلك؟! وأي زلزال للجبهة الداخلية للعدو يمكن أن يفعل؟! ثقوا في هؤلاء العظماء، وعيشوا معهم كل جزئيات الانتصار التاريخي العالمي، ولا تلتفتوا لهراء الحمقى والمعتوهين. تلك قطرة واحدة من بحر الانجازات. والله غالب على أمره.