الثورة ليست خطاب استهلاكي فهلوي يتم النفخ فيه وتعبئة كُل مُخرجاتها أكثر من ما تحتمل وليست بوابة عُبور لكل الفاسدين , هذا ما عرفناه من الثورات العالمية النبيلة كالثورة الفرنسية التي تعتبر نموذجاُ لكل الثورات الناضجة .
أما أن تتحول الثورة في لحظات تعثرها وفشلها في تقديم خطاب جيد للناس إلى مُجرد دُعابة يتم تكريسها بشكل تقليدي وتنتهي بتوزيع دُروعها على شخصيات ما فتئت تظهر لنا قُبحها سواء قبل أو بعد الثورة .
كم أشعر بالاشمئزاز من كلمة درع أو دُروع والتي لها قواميس سيئة في مُعجم اليمني والتي تندرج ضمن قواميس اللصوصيه والسرقة والنفاق والغباء بحد ذاته .
وكم أكره أيضا الكتابات السياسية التي تحكي تاريخ الفاسدين أو تتقفز فوق الناس وتتهمهم بالعمالة والغباء والقُبح والفساد .
لكننا أحيانا نضطر لكتابة هذا الواقع الجاف الذي لا يقبل القُدرة على التحول ضمن إطار التغيير تزامنا مع ظروف كل مرحلة .
في لحظات فارقة في التاريخ اليمني والأزمات التي يواجهها هذا الإنسان الصلب مُتجاوزاُ ثورة فُشلت في تقديم خطاب مطمئن للناس بقدر ما حملت معها خطاب تحريضي واتهام مُباشر لكل طرف يتم الاختلاف معه كي يتم منحة ورقة رابحة أو خاسرة في ميزان العمل السياسي القبيح .
وجه حقيقي ظهرت فيه أوضاعنا كحمل ثقيل غير قابل على الفهم والاستيعاب الإ في الكذب وتقديم خطاب إعلامي حزبي عقيم كي يتم تمديد كُل الأزمات ومنحها خارطة أخرى أكثر تلبداُ في البحث عن حُلول .
هذه الأوضاع انقشعت على غطاء لرائحة عفنة توالت بعد الفراغ السياسي للثورة ولم تُقدم أي حلول مُمكنة لحل القضايا العالقة كالقضية الجنوبية بقدر ما تم تناولها من جانب حزبي ضيق وحلها وفق صلاحية وانتهاء دور الأفراد في الفلك السياسي المتهاوي .
على من يهتم بتوزيع دروع الثورة أن يعي أننا لازلنا في بداية ميزان نفاق قوي , بداية منح اللصوص والشيوخ قُدرة أكبر على تعزيز تواجدهم في الحياة السياسية , بداية لنهاية عُمر جيد آمنا فيه بإمكانية الشراكة وإمكانية البناء , بداية لانقشاع لأي دور وطني يُمكن أن يُقدموه في قادم الظروف .
البلد في وضع اشتعال ورصيد القتلى في تزايد بالشوارع , غليان الناس تجاوز مفهوم الدروع , وتجاوز مفهوم ثورة تم اختصارها وتفصيلها على مقاس حزب مُعين وقناة إعلامية واحدة وشيخ واحد ولص واحد ورافعة وطنية واحدة .
من ينظر للقادم على أساس توزيع الحُلول المُرتجلة وتوزيع مُناصفات الثورة والحوار على أساس حزبي وطائفي مُتجاهلين غضب الشارع الجنوبي والشمالي سوف يعون جيدا أن خنق الناس ومنحهم سكين قاتل ودرع ممزوع بلحم الناس وصدور الشُهداء الذين تحولواإلى رصيد يرتفع عند البعض وينخفض عند البعض الآخر وفقاُ لمصالحهم وقضاء حوائجهم .
يا لثورة نست أن تجتث في عُمرها كُل سُراق المال العام , كُل العابثين , كُل رجال الدين الذين قدموا للبلد أكثر من فتوى مُميتة أكثر من وطن مُشوه .
يا لثورة نست أن تُقدم فكر وطني خالص يتربع على رؤوس الشُرفاء كي يواصلون إيمانهم بفكرة التغيير .
يا لثورة تحولت في لحظة هوجاء إلى مُجرد دُروع مُفصلة يتم إهدائها باسم 11 فبراير لكُل شركاء الأمس , لكُل شركاء الغنيمة والفيد , لكُل البارعين في قتل أوطانهم بأيسر الطُرق .
يا لثورة لم تمنح جرحاها حُرمة وطنية , ولم تُراعي مشاعرهم وإعاقاتهم إلا بثورة أخرى حملت عنوان ساحة رئاسة الوزراء .
يا لثورة في عامها الثاني مُرورا بالثالث وشرارة أخرى تندلع أسمها الثورة الجنوبية لتطوي قُبح أعلام صنعاء والذي آمنا فيه يوما ما أن بإمكانه أن يُقدم للوطن خطاب إعلامي نظيف خاوي من كُل دسم الشيوخ وميثانهم كي نستنشقه مرة أخرى على بركة ثورة خرج الناس لأجل القضاء على كُل هذه الظواهر العفنة .
الحراك السلمي يثبت كُل يوم أنه لا يرضى بأنصاف الحُلول , أثبت أن مطالبة لا سقف لها باعتباره مُمثل للشعب الجنوبي , باعتباره شريك في صناعة الغد الذي حلم به كُل اليمنيين , غد تتساوى فيه الأوجه ويتساقط فيه كُل الأوغاد .
سقف الحُرية الذي يُنادي به الحراك الجنوبي اليوم هو سقف كُل اليمنيين بمُختلف أصنافهم وهذا السقف يتجاوز مرمادة صنعاء ويتجاوز سُلطة تقاسم عُقول الناس واستقطابهم بشكل قبيح كي يُقدموا أحلامهم قُربانا لزُعماء الأمس .
ثورة الجنوب ثورة خالصة , ثورة لا تقبل القسمة على أحد , تتجدد وفق حُلم الناس , وفق وعيهم , وفق حاجتهم إلى وطن حقيقي وليس وطن مُستعار .
الجُنوب اليوم يُقتل , يُذبح , يترنح , وعدد اللاعبين فيه كعدد ضحايا القضية لكن إيمان الناس بعدالة الحُلول هي من تدفعهم إلى النضال من أول وجديد .
وحتى يعرف من أتى من صنعاء من أجل سياسة (البرعة الصنعانية) في ساحة العُروض أن ثمنها كان غالي واستهلكت دماء الناس من أجل توفير خطاب إعلامي كاذب أتضح للجميع أن كُل مايحدث وما سوف يحدث لا يعد أكثر من كذب ومُزايدة .
بين سياسات البرعة وبين توزيع دُروع الثورة واشتعال فتيل الجنوبيين مُطالبين بالكرامة وتقرير المصير ألف سؤال يتحتم علينا أن نحمي ما تبقى لنا من ود واحترام لهؤلاء , يتحتم علينا أن نضع الحُلول العادلة خارج مُربعات الحُكم القديم , يتحتم علينا أن نؤمن بالشراكة إن أردنا بنا غد تتنافس فيه كُل الأوجه , يتحتم علينا أن نُغادر عقلية الماضي التي تعني عقلية المُنتصر لعيش حاضر أكثر أمانا , أن نُغادر مُصطلح الوحدة أو الموت والذي دفعنا به عُقود من التخلف والإقصاء , أن نُغادر شكلية ثورة ردائها أسود إلى ثورة أكثر قُدرة على تحليل حُلكة الظلام .
جلال غانم