الى حميد الأحمر: العفو عن الرئيس وأشياء اُخرى...
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 15 سنة و شهرين و 16 يوماً
الثلاثاء 18 أغسطس-آب 2009 12:08 م

مأرب برس – بكين – خاص

صديقي حميد، في خضم التأمل، أدهشتني فراسة مبكرة للكاتب الفذ منير الماوري الذي كتب عنك ذات يوم مامعناه "انك هبة الطبيعة"... وها أنت اليوم هبة العصر بإمتياز.

فمن وسط كل تلك الرطانة اللثغاء، تجليت لنا كسنونوة اخترقت الخريف لإعلان ربيع مبكر في زمن الإحباط والثورة العزلاء المتقاعدة.

بعد خروجك عن الميثاق غير المكتوب بين الدولة والقبيلة، حيث كانت الجماهير تحتسبك عبئاً... كان منطلق نفورهم من أنهم لايتوسمون خيراً منك أو فيك، لأنك حسب إعتقادهم جئت إلى الدنيا وفي فمك ملعقة من ذهب، وكنت محسوب على الطرف الآخر... لكن الكثير سعدآء اليوم فعلاً، لأنك الآن تعيش مع بقية الناس إشمئزازهم من منطق السلب الذي تبرأت منه، وأكاد أسمع زفرة إرتياح من الأعماق:

- أخيراً، العبء اصبح ذخراً.

قد يكون ذلك الموقف مكلفاً للغاية بالنسبة لشخص مثلك، لكن سرورنا كشعب ونخب مبعثه أنك اثبت أن الحُرّة تجوع ولا تأكل بثدييها... - نعم، ليست النعم ياصاحبي وحدها قادرة على صقل مواهبنا، التجارب المعجونة بدموع الألم والجراح تفعل ذلك أيضاً.

أبهج الجموع صدوحك الذي هطلت به على الرؤوس من على الجزيرة، ودفاعك الباسل عن تلك الوحدة المُعذبة، وإدانتك لأولئك القراصنة الذين أساؤوا الى معناها ووجودها، وأننا - أي الشماليين - لسنا شعب الله المختار، فكانت مفاجأة قلبت المائدة بما عليها وما حولها.

واحب أن اُذكرك أنه ليس بين ليلة وضحاها يتم تكوين صوت مسموع لسردية ما، مهما كانت الأجواء مُعدّة لإستقبالها... الأصوات التي تنهض بعبء الأمم تتكون تدريجياً وببطء شاق، لأنها مناوئة للبعض ولأنها تسبح ضد التيارات المعاكسة.

- لكن متى كان المناضل أو صاحب الرأي الحر ينتظر إذناً من أحد؟... فنيل المطالب لا يتحقق بالتمني، وانما تؤخذ الدنيا ومنها الحريات غلابا.

اقتضى الأمر أكثر من أربعين عاماً لتنتصر الضحية على جلادها، سبعة وعشرون منها خلف القضبان ليكون نيلسون مانديلاّ صوتاً مسموعاً للسردية الإنسانية.

وقد يبدو لأول وهلة بأن ألسنة لهب الجريمة الممزوجة بالصخب والدم والتي تغطي سماء صعدة اليوم لا صلة لها بالتحدي الذي وضعت رأس النظام فيه، - وقد عتبنا عليك عدم عروجك على مأساة صعدة من المنطلق الإنساني، وحرية العقيدة، وحق ناسها أيضاً في عدم التحول إلى غنيمة.

- لكني أحسب أنه عند سماع الفندم لصوتك، تخبط الرجل في غائطه وأربد فمه زَبدا، فأشعل سوطه لفحاً على ظهور مخلوقاته الفظة المكفنة بالميري لتحتشد وتهندس له كارثة مصطنعة في جبال صعدة قد تنقذ ماء الوجه على حسب فهمه.

... وأحسب أيضاً أنه لم يعد ينام كالعادة من الكوابيس التي تلازمه منذ ذلك اليوم!

والدليل، ياصديقي، أن الخطاب الرسمي الذي تصيبك سهامه هذه الأيام، أضحى يحتفي بقيم بديلة، بالوضيع، والحقير والمدنس، وكأن الغاية من وراء ذلك صدمة المواطن، تحريفاً للقيم وقلباً للمفاهيم الراسخة لديه.

ذلك شيء مألوف وطبيعي جداً، ودعني أتحدث هنا - ولا بأس من البوح قليلاً -، لأذكرك بما كنا نقوله عن المومسات والبغايا اللواتي يحاولن استدراج الطالبة أو أي فتاة جميلة إلى لعبة الرذيلة، وحين يعجزن عن ذلك يلوكن إسمها في محاولة لأن تصبح ذات الشرف هي الشرموطة وهن القديسات!

 

- وبالمناسبة فلست أنت أول المتلبسين بجريمة إعتناق الحرية، إذ سبقك متلبسون ومنهم من حمل إسمك ذاته، من ذات الأسرة التي تنتمي إليها، ودفع حياته مهراً لها... ولا أحد يلومنك فيما ذهبت إليه في أن الرئيس صالح أستن سنة غير حسنة، وذلك بالنصب على الشعب والدستور، مما أدى إلى إفراغ الثورة والوحدة من معانيهما.

عزيزي، ونحن نقف أمام الحقيقة بتجرد، سبق أن دعوت دون أي محاولة لتجميل ما هو مشوّه أصلاً، إلى حاجتنا الكبيرة لشخصية على قدر كبير من التجرد والإيثار... شخصية قادرة لإسترداد قوة ردع الجماهير... تتمكن من تقزيم رأس النظام القائم بالحرص على الوحدة كأحد الثوابت الغير قابلة للجدل وسحب بساط تشدقه على أنه قائد ضرورة بفرضية الحفاظ على الثورة والوحدة.

- شخصية تكون في موقع أقوى لمساومة رأس النظام على منحه عفو مشروط مقابل رفع اصبعه من على الزناد واطلاق سراح البلد/الرهينة ومغادرة القصر بكرامه.

وكما سبق أن قلته وحرفياً، اني أخشى أن يتحول صاحبنا إلى ما يشبه العصبي المذعور والمستعد لإرتكاب حماقات فادحة بسبب إدراكه ما جرى ويجري من جرائم النهب والمال العام وسفك الدماء الغير مبرر.

لذا أرى أنه من الضروري نزع ذلك الفتيل الذي يجعله وأركان نظامه يرتعدون خشية الوقوع بسببها في قبضة العدالة والإنتقال إلى قفص الإتهام إن هو ترك كرسي الرئاسة، والذي بدوره يفقده مقود العسكر أيضا.

ولأن كل نظام فردي لديه قابلية للموت "بالسكتة الحضارية"، إذا ما ظهر له الند القوي، ذلك الند الذي يستطيع أن يلمس أفئدة وتطلعات الملايين ويحشد إعصار حلزوني هائج من الجماهير، - ها نحن نرى بوادر تلك السكتة اليوم.

وكالعادة، فإن لجوء الحاكم العسكري إلى الثكنة والتمترس خلف عجلات آلياته، علامة قوية وقاطعة على إفلاسه وفقدان ثقته بنفسه، وخلو جعبته من الخيارات واحتراق آخر كروت لعبته، ما يدفعه إلى التلويح بعضلاته العسكرية بفجاجة وهو ينظر بعينين مذعورتين الى ما حوله في حالة من الخوف والرعب والإرتباك.

- وهذه المرة أكثر من أي وقت مضى رغم تواضع التذمر.

لست خبيراً في القانون، لكني أدعوك والمشترك لبلورة إستفتاء شعبي حول ذلك العفو المطلوب والذي قد يعجل للوطن بالشفآء، ولإستشفاف مدى إستعداد الناس لإسقاط تهم الخيانة العظمى عن رأس النظام ومن حوله بقولنا لهم كفى، -وربما عفى الله عما سلف.

ولأن الحرية يا صاحبي لا تتجزأ، حيث يحدث أن الدين عند البعض لايزال يناقض الدين، فنحن اليوم بجانب نضالنا ضد ظلم السلطة، نناضل أيضاً من أجل حرية "المساج"، وحرية الجلوس في "مطعم" دون رقيب أو حسيب، ودون منكر ونكير، طبعاً كل ذلك يحدث الآن ونضالنا قد بدأ من اليوم وقبل ان يصل أصحابك، أصحاب الفضيلة المطلقة الى سدة الحكم المطلق!

- بالله عليكم، ما الفرق بين ان يختطف سائح من طريق، أو أن يختطف من حول طاولة بتهمة تناول وجبة أكل خفيفة بدون بسملة؟

ولأن الأمانة يا صاحبي لا تتجزأ أيضاً، فالكتابة عنك وحولك مؤجلة... ولا نريدك ان تعتقد بأن حبال ذاكرتنا قصيرة، فلقد إستبشرنا خيراً بلمزك إلى الإستفادة من التجربته البراغماتية لحزب العدالة والتنمية في تركيا بجوانبها السياسية والإجتماعية والإقتصادية.

فكما كان لديك الشجاعة لأن تدعو رأس النظام إلى التنحي عن الحكم، وإلى فتح حوار مع النائب السابق البيْض، فنحن نتوسم أنك قادر أيضاً على مجاهرة مدعيوا العصمة والطهرانية المطلقة بأن يعودوا إلى قوالبهم البشرية، والطرح بأن ما يرعب الناس منهم هو بعض الممارسات الحمقاء، وبأنهم كلما تقربوا بحريات البشر إلى منظريهم شبراً، ابعدهم ذلك عن الله وعن الناس أميالاً، ونحن ننتظر ماتجود به قريحتك، ولنا عودة حول هذا الجانب.

أخيراً، وليس بأخير يا صاحبي، لن نقول بأن الحرية أتت وسوف تذهب معك، لأن القارئ أذكى من ذلك وسوف يسخر منا لو قلناها... ولن نقول بأنك الأوحد في ديوان النضال، لأنه أيضا سيكتشف خيانتنا للوعي الذي نحاول تحصينه ضد المنافقين وضد غواية ما يحترفه مدلكي النرجسيات الجريحة في ثقافة النظام المريضة.

ولا أريد ياصديقي أن استمطر لعنات من احترفوا تحريف الكلم عن مواضعه، أو بعض أصحابك اولئك الذي يعانون من سوء التفسير، إذا اعترفت أنه عندما استمعت اليك في التلفاز وأنت تحمل ذلك المشعل، شعرت انني أمام صوت يشبه اصوات أنبياء العهد القديم، - لذا لن أقول أكثر من أني اُدرك أنك لست نبيّاً...

... لكن إسمح لي أن أقول أنك صِدّيقاً وأن ظِلّك أخضر!

abdulla@faris.com