عن اغتيال اللغة و اغتيال الرموز.
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 16 يوماً
الأربعاء 14 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 04:41 م

عوامل كثيرة ومتظافرة تجعل المرء يتساءل عن حال لغة (الضاد) في الوقت الراهن وفي ظل هذه الاستكانة الثقافية العمياء والركود الحضاري المطبق الذي حل بالعرب وهم يكثرون من اتهام الغرب تماماً كما يكثرون من اجترار عوالق وتلابيب حضارته عندما يريدون أن يقولوا بأنهم باتوا حضاريين في يوم وليلة .

هذا موضوع كبير ويحتاج لمؤلف كامل وقد أثرى في ذلك الكثيرون ممن يغارون ولو قليلاً على لغة (القرآن) .. -يا أخي وبعيداً عن أنها لغة القرآن حتى لا أُفهم من زاوية دينية - يغارون قليلاً على لغتهم و يستحون ن أنفسهم .

منذ وقت طويل والغيورون على لغتهم العربية يشعرون بالقلق حيال ما يجري هنا وهناك من مظاهر تشرذم اللغة العربية وتحولها إلى مسخ عجيب يبرؤ منه العرب وليس العروبيون و"العربان" فأولئك كذابون وهؤلاء أشد كفراً ونفاقا ، ومن المؤسف أن الغيرة على لغة الضاد تضاءلت في وقت اشتد فيه حراك الحوار الذي تعد اللغة أحد أهم أدواته وأصبحت أساسيات اللغة مستباحة فما عاد فاعلنا مرفوعاً ولا مفعولهم منصوباً ولا المضاف إليهما مجروراً.

وقبل أيام راسلني صديق عبر البريد الكتروني "الإيميل" ، وفي "الإيميل" يمكن الكتابة والمراسلة باللغة العربية الفصحى وكل عامياتها ، وعنون صديقي المرسل رسالته المكتوبة أصلا باللغة العربية بكلمة " hi " هكذا كتب العنوان تماماً أما نص الرسالة فكان باللغة العربية الفُصعى -بالعين وليس بالحاء-.

يا ترى هل ثورة المعلومات والاتصالات والقرية الكونية وكل هذه القصص "الموضة" تشكل حائلاً أمام أن يتقن المرء لغته ويعتز بها ثم يتقن لغات الآخرين ويشكرهم بلغته على ما أبدعوا ويبين بلغتهم ما أبدع هو؟! .

وهنا يقفز موضوع الترجمة وأهميتها حيث يقول أدونيس ويتساءل "إن ثقافة تكتفي بذاتها وتعزف عن الترجمة يصحّ أن توصف بأنها شبه ميتة. وسيكون ذلك، في الحالة العربية، مدعاة للاستغراب. كيف يستجلب العرب جميع الوسائل التي ابتكرتها تقنية الآخر ولا يخططون أو يعملون لترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية والأدبية التي كانت وراء تلك التقنية؟"

ويرسم أدونيس الأفق الذي تسير فيه حركة الترجمة من العربية واليها حيث يرى إن "الأفق الذي ينبغي أن تسير فيه ترجمة الأعمال العربية إلى اللغات الأخرى هو الأفق الذي يضيف إلى آفاق هذه اللغات أشياء مختلفة تزيدها معرفة بالإبداع العربي، وتزيدها غنىً في تكونها الثقافي. سواء ما اتصل بقلق الإنسان، وجوداً ومصيراً ، أو بمشكلات الحياة، أو العلاقة مع العالم والأشياء، وطرقها، أو الرؤى الخاصة بالدين، والذات، والآخر، واللغة ، والتعبير".

وفي المقابل يرى أن "الأفق الذي تسير فيه ترجمة الأعمال الأجنبية إلي اللغة العربية هو كذلك الأفق الذي يضيف إلى هذه اللغة ما لا تعرفه، وما يغنيها فنياً، ولغوياً، علمياً، وإنسانياً. فلا يقتصر تأثير الترجمة على الفكر وحده، أو الثقافة وحدها، وإنما يشمل اللغة كذلك".

فلماذا إذاً نستبيح لغتنا بهذه الطريقة المتخلفة التي تشير وتضع الأصبع - حقيقة- على واحدة من مكامن الخلل وعقد النقص التي سيطرت علينا وبتنا عاجزين كل العجز عن التحرر من ربقتها والانطلاق إلى آفاق رحبة محكومة بالتثاقف المتبادل ؟!.

وقبل يومين غضب أحد أصدقائي الأعزاء العرب وعبّر عن انفعاله بغضبة ولكن ليست كغضبة بني تميم حيث يُقال: (إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهمُ غضابا) ، وإنما غضبة حداثية منمقة وملآى بالعصرية والوقع السريع حيث قال صديقي وهو في ذروتها "بليـز" يعني لو سمحت .. إذا ممكن ، وباللهجة السورية "إزا بتريد" .

فحتى ذروة انفعالاتنا صار أبلغ التعبير عنها لا يتم إلا بلغة "البليز والهاي" بعد أن كانت انفعالات العرب تصدر عنها معلقات وقصائد تحتاج لشرحها رسائل علمية عليا .والوضع العربي بحاله الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً ربما يجسده بشكل صارخ الكثير من اللبنانيين الذين يفصلون بين كل كلمتين عربيتين بخمس كلمات ما يسمونها "فينيقية" وبين كل جملة عربية نصف سطر انجليزي وبين كل فقرة كم كلمة فرنسية هكذا حتى تبدو العربية بحاجة لدار أيتام ولا يبدو العربي في أمس الحاجة لدار ألسن ، وهو بريء كل البراءة من عين الخليل بن أحمد ومن لسان سيبويه ومن أدب ابن قتيبة . 

وقد يقول قائل إن اللغة العربية صعبة ومعقدة -وهي كذلك فعلاً مقارنة بباقي اللغات الحية- ولكن معرفة بسيطة بأولياتها ومبتدآتها ليس بالأمر الصعب والمعقد ، وهنا التشديد أكبر على من خاض غمار الكتابة والتأليف أو من يعتزم فعل ذلك ، و أتذكر أني قبل فترة وجهتُ لوماً لأحد المسؤولين عن المواقع الكترونية التي انتشرت وانتشر معها الغث قبل السمين وذلك لنشره مقالاً رفع فيه صاحبه ما لا يرفع ونصب ما لا ينصب وجر ما لا تجره كل قاطرات الكوفيين والبصريين . فأجابني جواباً جميلاً ومفيداً وهو أننا نفترض عن حسن نية أن من يخوض مع الخائضين في ميدان الكتابة لا بد أن يكون متسلحاً باللغة ودون ذلك خرط القتاد . الفشل مصير محتوم للخائضين دون سلاح ونحن وفي ظل السرعة وحتى في ظل البطء لسنا مستعدين لأن نتحول إلى موظفي "تدقيق لغوي" لكل من هبّ ودب ولسنا مضطرين لإضاعة الوقت في فعل ذلك وهذا شأن الكاتب الذي ينبغي أن يكون الأحرص على مادته وسمعته وحياته .

ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن اللغة -في اعتقادي- كائن حي وهذا يعني أنها قابلة للتطور وليست جماداً ، وكثيراً ما فتحت هذه الحقيقة شهية العارفين للاشتغال بها والعمل على إظهارها بحلل قشيبة وبأنماط مختلفة مزيدة ومنقحة ومحلاة ، وذلك ما وضع الخطى على أعتابه فريقٌ من الحداثيين كـ "أدونيس" وسواه من المتمردين الذين يواجهون حملات الفصل والطرد والتكفير والتضليل ويتحملون عبء مواجهة الأصنام والأزلام والأوهام .

وبعد اغتيال اللغة اغتيال الرموز...

أثناء كتابتي لهذا المقال تلقيتُ نبأ محاولة اغتيال الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد الذي تربطني به علاقة صداقة واحترام وأزعم أنني ممن يعرفون قليلاً عن الرجل على الأقل من خلال إقامتي الطويلة في دمشق التي يتخذها مقراً لإقامته ولمركز عمله "الدراسات الإستراتيجية" منذ أن آثر الخروج من اليمن تلبيةً لرغبة بعض أطراف الموقعين على الوحدة اليمنية في مايو 90م ليُتمم بهذا الخروج المشرف رصيداً طويلاً يعود إلى سبعينات القرن الماضي في سجل يرصد له فيه إرادات وحدوية وأعمال وممارسات في طريق تحقيق الوحدة اليمنية .

وباعتبار أننا كنا نتحدث عن اللغة بوصفها أداة للحوار فإنني أذكر أني اتصلت بالرئيس علي ناصر قبيل ذهابي إلى استوديو قناة "العالم" الفضائية بدمشق للإدلاء بدلوي في شأن الحوار بين الحزب الحاكم والمعارضة في اليمن -كان ذلك في برنامج بُث في الأسبوع الأول من رمضان الفائت- وقد اتصلتُ بالرجل كرمز يمني وجنوبي في ظل اشتداد الأزمة الجنوبية واعتقال ناشطين جنوبيين على إثرها ، وأبلغته بالبرنامج وقال لي بالحرف إنه "إذا كان لي من رأي أو نصيحة فعليك بالتشديد على أن الناس جربوا العنف والسلاح في الجنوب وفي الشمال وأثبتت التجارب أن الحوار هو السبيل الوحيد لحل كل المشاكل مهما كانت كبيرة ، (الحوار) وخاصة في ظل هذه الظروف (مقدس) وهو يخلق المقدسات الأخرى وأما العنف والقمع والسلاح فلا يحل مشكلة" .. فهل تكون التصفية والرصاص هو الرد لهذا الطرح السلمي المدني.

 وبعيداً عن الاتفاق والاختلاف مع الرجل ، نتساءل -وبكل حرص على الوحدة-وهل اغتيال الرموز الجنوبية سيمنع خروج المتقاعدين إلى الشارع وسيكمم أفواه الجنوبيين الذين يرددون أسماء رموزهم التاريخيين بعدما وجدوا أنهم غير قادرين على تحمل ما يسمونه أو يشبهونه بـ"الاحتلال" ، فعادوا إلى ماضيهم يجترون ما فيه من صفحات مشرقة أو نقاط مضيئة على الأقل على المستوى المعيشي ؟!.

وهل من فكّر وخطّط وحاول القيام بهكذا عمل إجرامي متخلف يعرف عواقب هذا الفعل على الوطن في ظل هذه الظروف العصيبة التي يترنح فيها الحاكم ويدوخ معه شعب وتاريخ ولا يريد أن يتنازل ويعترف بوجود قضية بحجم وطن ؟! .

سؤال يتعين على رئيس الجمهورية أن يسأله لنفسه ، ثم وبعد أن يعرف جوابه جيداً يُسائل من هم دونه ممن أشاروه أو لم يستشيروه وهو المعروف بأنه الرئيس والوزير والمستشار ورجل الأمن والجيش في اليمن لا شريك له في كل ذلك.

eskandarsh@yahoo.com