تحوّل مثير.. ميتا تسمح باستخدام ذكائها الاصطناعي لأغراض عسكرية أمريكية انستغرام يطرح خيارات جديدة لتصفية الرسائل للمبدعين الجمهوريون يسيطرون على مجلس الشيوخ الأمريكي والتنافس مستمر على مجلس النواب سفينة حربية إيطالية تنضم إلى حملة حماية البحر الأحمر ترامب يفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية وفق النتائج الأولية مفاجأة مدوية.. صلاح بديلا لنيمار في الهلال السعودي ترامب يعلن التقدم والفوز في 12 منطقة أمريكية … . نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لحظة بلحظة التحالف العربي ينفذ ثلاث عمليات إجلاء جوية في سقطرى الكشف عن القيادي الحوثي المسؤول عن تهريب الأسلحة الإيرانية التحركات واللقاءات العسكرية العليا.. هل قررت الشرعية خوض معركة الحسم مع مليشيا الحوثي؟.. تقرير
أتساءل: ماذا لو نصغي أكثر ربما سنفهم أكثر.
بالنسبة لي لم أعد أصادف من هو مستعد أن يعيرك السمع ولو للحظة. حتى من كان مستعدا لأن يصغي فإنه لا يفعل ذلك من أجل أن يفهم مثلا، بل لكي يعثر في كلامك على ذخيرة تكفي للرد عليك، فيحصل في نهاية المطاف على نشوة كونه أفحمك، متوهما أنه قال ما ليس بعده قول قائل.
هكذا أصبحت نقاشات اليمنيين. فيها نرجسية وتهافت وخفة عقل. كف غالبية اليمنيين عن الاحتشاد خلف المواقف والزعامات والأفكار الجماعية العمياء، وراح الكثير منهم يمارس نمطا متطرفا، تائها ومتشظيا، من الفردانية المصحوبة بالعبث. لا أدري إن كانت كلمة "فردانية" ملائمة لوصف ما يحصل أم إنه تضخم الذات أم التفاهة بعينها.
كان يؤخذ ولا يزال على مجتمعات الشرق، نزوعها التقليدي إلى الإمتثالية وهستيريا الجماعات. لكن لو أمعنا النظر، فيما يخص اليمن، ربما سندرك إلى أي مدى بات هذا التصور عتيق الطراز وقد يكون خاطئاً.
ليس بمقدورنا أن نجزم. لكني لا أتذكر أنني جلست مؤخرا مع شخص لا يرى نفسه أقل شأنا من "درب التبانة" ذاتها. ولولا أنني تبرمت، في مقالة قبل بضعة أشهر، من "الإمتثالية الضارية" التي تسحق جدار الفردانية الهزيل، لوددت القول: لقد ولى زمن التناغم والانسجام التام وذبلت روحية الاتساق.
خذوا على سبيل المثال هذه البديهيات: الصحف الحزبية لم تعد لسان حال الأحزاب، والقيادات السياسية توقفت عن تقديم نفسها باعتبارها المتحدثة باسم الجماهير، وطريقة تفكير الفرد الحزبي ليست نموذجا مصغرا يمكن استخدامه لفهم اتجاهات التفكير داخل الحزب، وحتى معظم الأفراد في الحركات الاجتماعية الانشقاقية، أو اللاوطنية، يفتقرون إلى عنصر الانضباط والتماسك والانصهار الكامل في مجموعاتهم. إنهم لا يتصرفون من وحي فكرة ما، لا كتاب أحمر ولا وصايا عشر، الفكرة الأساسية: الفوضى.. التوحش.. الفتك.
في مناخ كهذا، لا شيء يزدهر أكثر من الحماقة. فيما يطفو على السطح بكثافة ذلك النوع من الرجال شديدو الحمق، أناس يتميزون بالجسارة والاندفاع ولا يفكرون قبل الكلام مطلقا. يمكن أن نسمي هذا: الضحالة الجريئة أو الجهل غير الهياب. يوجد من هؤلاء الكثير والكثير جدا، سائق التاكس الذي أراد بشدة إقناع نبيل الصوفي بانتقال خليجي 20 إلى الجزائر، أو سائق التاكس ذو اللحية الصهباء، الذي بذل جهدا هائلا لتبيان كيف أن كل المخاطر المحدقة بالبلاد، من صعدة إلى الجنوب والقاعدة والأزمة الاقتصادية، مجرد عروض مفتعلة ضمن لعبة التوريث، وظيفتها الأساسية التلاشي الحتمي فور صعود نجل الرئيس لإظهار كم أنه بارع وذكي وحازم. قلت له إن هذا مطمئن جدا لو أخبرني من أين استقى هذه الفرضيات، تلعثم قبل أن يذكر لي اسم رجل دين وصفه بالمفكر العربي.
استسهال مقرف. الأسوأ أن الكثير من الصحفيين والنخب السياسية يشبهون سائق تاكسي أحمق. يتفوهون بترهات وأوهام، ويتمتعون بجهوزية لا توصف في الحكم على الأشياء وتفسيرها والتكهن بها قبل حدوثها. لديهم أجوبة لكل صغيرة وكبيرة ويقين، أجوبة فقط.
هذا لا يعني أنني أبجل الركون إلى الصمت، صمت المتعالي الممتلئ والحزين، صمت النبي المخذول، كما يفعل معظم الكتاب والمثقفين والساسة من بقايا اليسار والقوميين غالبا. بيد أن من الخطورة بمكان ترك الجهالة غير الهيابة هذه، تشكل بمفردها وعي المستقبل.
في اليمن، إزاء كل مشكلة تنشأ ملايين التصورات والتفسيرات والفرضيات والحلول. غبية وغريبة وذكية ومقتضبة وناقصة ومضللة وماكرة وعنيفة ومتضاربة ووطنية ولاوطنية، لاهوتية وزمنية. وكل تصور وتفسير وفرضية وحل، يطرح نفسه على أنه نهائي ومطلق ومتعذر النقض.
...
لا أحد لا يدري في البلاد بأسرها. وهكذا، استشرت حالة غرائبية تختلط فيها الجماعية الكاملة بالفوضى والفردانية الكاملة، الذوات المستقلة متجاورة على نحو مدهش مع امتثالية القطيع. على أن الحرية المتاحة، وهي ليست بالهينة، تصبح أقرب للحرية الخام، حرية الإنسان البدائي الذي يهيم على وجهه في الفضاء اللانهائي لعالم لم يتعرف بعد عليه.
في المقابل، يغالي الأذكياء والعميقون في صمتهم وفي تكبرهم، وإن هم قالوا أو كتبوا شيئا فمن أجل الإفحام دائما، إفحام شخص ما، أو الحنين، أي "استمناء الماضي" بتعبير أنسي الحاج. في مقال للكاتب السوري ياسين الحاج صالح، نقرأ كيف أن الإفحام في النقاش بمثابة موت للفكرة والنقاش معا. "وعليه فالفكرة المفحمة خاطئة حتما، لأنها عقيمة وتخنق النقاش".
ومن وجه آخر، يضيف ياسين، ستكون الفكرة الصحيحة هي الفكرة التي تقبل التصحيح، أي الفكرة المتوترة، غير المطابقة لذاتها والمفتوحة على المراجعة والتعديل دونما نهاية. "ومن هذا الوجه، الفكرة غير القابلة للتصحيح هي الفكرة المكتملة. واكتمال الأفكار هو موتها".
منطق الإفحام في النقاش، حربي عدمي، بحسب ياسين. "وربما يجد النقاش التنافسي، المفحم، أصوله في مذهب وحدانية الحقيقة، ومعادله السياسي في الحرب أو في النظم المذهبية والسياسية الواحدية. فالإفحام أو القطع في نقاش يقترن بالقطعية في التفكير وفي "قطع" المختلفين بالقوة، بما في ذلك قطع الرقاب"، كتب ياسين.
في الواقع لست شغوفا بالاتساق ولا بالتناغم. ثم إنني لا أؤمن بالاصطفاء ولا بـ"سلطة الأقلية المختارة". ولطالما اعتبرت نفسي منحازا لقيم الفردانية، بيد أنها في اليمن (مثلها مثل قيم الحداثة الأخرى: الديمقراطية، النسوية والجندر، الرأسمالية، التعدد، الوطنية)، تتجلى على نحو مضحك بائس ومدمر كليا.
لكن ماذا لو جربنا العيش في دنيا النسبية، دنيا الشك واللايقين، التريث والوجل، دنيا السؤال والنقد الذاتي وإعادة تقييم المواقف والأفكار والمشاعر، التعايش والاحترام المتبادل والثقة و"المسكونية"، والكلمة الأخيرة من كتاب أمين معلوف "اختلال العالم".
باختصار: لماذا لا نتوقف عن التستر بأكثر قيم الحداثة نبلا لنمارس غرائز وأخلاق البداوة الأشد همجية والأشد انحطاطا؟ إننا ندوس بلا مبالاة على حصيلة تراكم حضاري أنيق وناضج.
...
رب قائل يقول: أنت تتبجح الآن بانحيازك لقيم الفردانية، رغم أنك لم تمنح سائق التاكس الحق في أن يبدو أحمقا. على أية حال، هذا اعتراض معقول باستثناء أنني أرغب في التمييز بين نقد حالة سائدة وبين الاعتداء على فردانية سائق التاكس وحقه في أن يكون ما يريد، التمييز بين الحرية التي تعبر عن نفسها في نظم ومؤسسات وبنى اجتماعية جديدة وأنماط تفكير وتقاليد وسلوكيات عامة، وبين حرية البراري وحرية مخلوقات الغابة.
سيكون مضحكا المجادلة بأن التناقض الشائن والانفصام واحدة من أعراض فقدان الحداثة لأهليتها في العالم أجمع. وإذا كان هذا المنطق الذي أشرت إليه ذات مرة، صحيح نسبيا، فإنه لمن البلاهة الاعتماد عليه لتفسير وضع معقد لبلد معقد.
مثلا، نحن نهجو الطائفية ليل نهار، ونحذر منها، غير أن كثيراً منا لا يعرف إلى أي درجة هو مستسلم لها. يجدر بي هنا التذكير بمقاربة برهان غليون للسلوك السياسي العربي المتسم بالانفصام إزاء الطائفية. "وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان في الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى، بإرادته وأحيانا من دون إرادة، وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها"، يقول غليون.
لا احد بوسعه الإفلات من التناقض، بوسعنا فقط أن نكون أكثر نزاهة وأكثر عدلا وأكثر إنسانية. حتى فكر ما بعد الحداثة الذي يأخذ على الحداثة إهمال الأقليات وسحقها، لا يقدم ضمانات من أي نوع للحيلولة دون صعود الحركات الفاشية ومليشيا العنف على عاتق مبدأ احترام حقها في الوجود والنمو والتبشير، الوجود غير المشروط البتة. هذا يعني أن فكر ما بعد الحداثة فاقد للأهلية سلفا.
أذكر أنني قرأت إشارة ديفد هارفي إلى الاستنتاج الذي توصل إليه جيلز ديلوز وفليكس غوتاري، عن الكيفية التي تنتج بها رأسمالية ما بعد الحداثة الانفصامات مثلما تنتج شامبو "بريل" وسيارات "فورد"، "مع فارق وحيد هو أن الانفصامات لا تباع".
تجد الحالة هذه، أيضا، تفسيرا لها في التعدد المريع لمصادر التأثير ومصادر إنتاج الأخبار والمعاني. إذ باستمرار يتلقى المرء رسائل متضاربة تصبح معها الشخصية محتارة للغاية وغير متزنة وخائفة.
أخشى أن نغدو مع مرور الوقت صورة مشابهة لما كان يسمى بـ"الهمجي النبيل". ففي جو مسموم ومختنق كهذا لا بد أن من يقرر حذفك من قائمة أصدقائه على الفيس بوك بسبب اختلافك معه سيجد الوقت ليجز عنقك أيضا لكن عندما يصبح ذلك في متناول يده: اللحظة التي تنفلت فيها كل الغرائز من عقالها. لا شيء أسوأ من ورطة رجل صنع لنفسه لباسا من أكثر المبادئ الإنسانية نبلا، لإخفاء ذاته البغيضة.
...
بعد أن أكملت السطور السابقة أعدت فحصها مرارا. أظنني كنت أحاول عبثا تنقيتها من الذخيرة التي يمكن لأي شخص التقاطها والنيل مني (لا أدري أهناك حقا من يكترث بي ليخطر له النيل مني أصلا؟). في عالم ملتبس وموار وقاس كهذا العالم يصعب على المرء البقاء بمنأى عن التناقض والخفة والسذاجة.
أتحدث عن اللايقين ودنيا الشك، ثم لا ألبث أن أتذكر كيف وجد الصديق عابد المهذري في بحثي الدائم عن سجادة صلاة موضوعاً "للحشوش". أحض على النزاهة والعدل ويتبادر إلى ذهني شخص يقول: أنت لا تتوقف عن إدانة عنف وفاشية الحوثيين في حين تغض الطرف عن وثيقة حاشد التي تبيح دم كل من ينتمي للحوثيين. أأبدو متناقضا؟ أحيانا أقول لا، لست متناقضا. أنا أستهجن وأقاوم نزعة العنف لدى الحوثيين، لا أؤمن بعقائدهم وتصوراتهم لكني أؤمن بحقهم في اعتناقها. ومع ذلك أجد نفسي وجها لوجه مع تناقض آخر مرير: فإيماني بحق الحوثيين في اعتناق حتى أكثر الأفكار تطرفا يتصادم بلا إيماني بحق تنظيم القاعدة في الوجود!
إنها متوالية لا تنتهي، ومآزق. اختبار دائم للمبادئ والضمير.
أؤمن بالشيء ونقيضه، وأتمنى لو كنت ذلك الشخص الذي اختار إلى الأبد. وفي لحظات كثيرة أكون تائهاً وضائعاً تماما، ولا أتباهى إن قلت كم لَامَستْ هستيريا انسي الحاج شغاف قلبي حينما قرأت له مؤخرا هذه الفقرة: "لو تعرف كم أحسدهم (الذين اختاروا). بكلّ صدق. وبكل خجلٍ من ضعف شخصيّتي وميوعتي. صار عمري ألف سنة ولا أزال أجهل إنْ كنتُ متمسّكاً بلبنانيّتي أم مستغنياً عنها. أأنا مؤمن أم مشكّك أم ملحد؟ مع سوريا الطبيعيّة أم الامبراطوريّة العربيّة؟ مع الحريري أم ضدّه؟ مع الغرب أم مع البدو؟ مع أيّ موارنة من الموارنة وأيّ شيعة من الشيعة؟ مع أيّ قميصٍ من قمصاني ومهدّئٍ من مهدّئاتي؟ قَسَماً لا أُبالغ".
أووه، تذكرت: لقد تركت للتو رصاصة لمتربص عنيد. القبض علي متلبس بافتتاني بأسلوب انسي الحاج في الكتابة: التحليقات والغنائية والباروكية. حسنا سجلوني إن شئتم هكذا: مفتون بتحليقات وباروكية انسي الحاج. (بإمكانكم اعتبار الإضافة الأخيرة مقياساً ملائماً لمستوى الرهاب من نميمة المقايل).
أفكر الآن أنني ربما الضحل الجريء بالذات، وأنني ربما عبقري الجهالة إنما الهيابة بامتياز.
*بالتزامن مع صحيفة اليمن