الحج .. رفاهية الروح
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 14 سنة و 11 شهراً و 19 يوماً
الأحد 15 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 06:18 م

اعتنى الإسلام بتغذية الروح، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية، لقد وفّر الإسلام للأرواح أجواء المتعة والرفاه، وأطلق لها العنان لتسبح في ملكوت الله وبديع صنعه ، ولتنظر في عظيم قدرته ، ولتجول في أنحاء التاريخ وتقلبات الأيام ، لتَسْتَسْلم لملكه وقدرته ولآلائه ونعمه سبحانه وتعالى، فتقر له بالعظمة والجلال والكمال ، ولتعترف لذاتها بالقصور والضعف والانكسار والذل ، ولتعلم أنه لا مقام لها في هذا الوجود إلا مقام العبودية لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى :

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26.

إن الحج رحلة الروح إلى باريها وخالقها ومليكها، ولذا أضاف الله تعالى البيت الحرام إلى نفسه فقال عز وجل : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }البقرة125.

وقال تعالى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }الحج26.

قال العلامة ابن القيم قدس الله سره: \"وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسهم حبا له وشوقا إلى رؤيته فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا كلما ازدادوا له زيادة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسلبهم كما قيل أطول به والنفس بعد مشوقة ... إليه وهل بعد الطواف تداني وألثم منه الركن أطلب برد ما ... بقلبي من شوق ومن هيمان فوالله ما أزداد إلا صبابة ... ولا القلب إلا كثرة الخفقان فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ... ويا منيتي من دون كل أمان أبت غلبات الشوق إلا تقربا ... إليك فما لي بالبعاد يدان\" بدائع الفوائد: 2/281.

إن الحج رحلة عظيمة في أعماق التاريخ ، حيث يتجاوز الحجيج الحقب والدهور ماضياً ومستقبلاً ليتعرفوا على أمم قد خلت وانتهت وانقرضت ولكن بقي لنا منها الذكرى والعظة والاعتبار، ولتعرف البشرية من ذكراها، مكانة طاعة الله والانقياد لأمره ، ووبال عصيانه ومخالفة نهيه.

من تلك الأمم، أمة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، الذي جعل الله قصته ذكرى للأجيال إلى قيام الساعة، كما قال تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ{103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ{104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ{106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ{108}.

فترك الله من تلكم الأحداث ، فقط، ذكرى الطاعة والاستسلام والانقياد لأمر الله ، والتسليم الكامل لأمره سبحانه وتعالى.

وأمتنا اليوم حين يتوافد منها الملايين إلى تلكم البقاع الطاهرة والأرض المباركة ، تُرى هل استسلمت لأمر الله فوحّدته وأطاعته وخضعت له واجتنبت نواهيه وزواجره، هل أغلقت أمتنا دور العصيان ، وفتحت دور الإيمان !!.

بربك هل حُكمت فينا شريعة الإسلام وحنيفية إبراهيم ، وأين أمتنا من تلكم السيرة العطرة في الانقياد والاستسلام التي كان عليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

إنّ تطواف الحاج وتجواله بمكة وفجاجها ، وطوافه بالبيت العتيق ووقوفه بعرفة ونحره الهدي ومبيته بمنى ، كل هذه الأنساك ، إنما هي تذكرة للأمة بطاعة ربها ، ودعوة لها للاستمساك بهدي ربها ، والالتزام بسنة إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في التوحيد الخالص والانقياد الكامل لأمر الله جل وعز .

وفيها إشارة واضحة جلية أن دين الأنبياء واحد ، وهو ما يجهله جل بني آدم اليوم، إلا من رحم ربي.

فهل وعت أمتنا حكاماً ومحكومين هذه الحقيقة ، وأهداف هذه الشعيرة ، وحكم هذه الفريضة.

هل أوقفت أمتنا نزيف الدماء حتى في الأشهر الحرم ، في اليمن والعراق والصومال..الخ ، ولو عملا بشريعة قريش التي كانت تهاب القتال في الأشهر الحرم، وسمى العرب شهر شوال وذي القعدة كذلك ، لأنهم كانوا يقعدون في هذه الأشهر عن القتال، لأنها من الأشهر الحرم، ثم جاء الإسلام فأقرهم على ذلك، كما قال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ..}التوبة36 ، فهل عمل المسلمون بشريعة الإسلام أو حتى بشريعة الجاهلية، فأوقفوا أنهار الدماء التي تهراق على سفوح جبل الدخان والبصرة وبغداد وكابل وبيشاور ومقديشوا..؟!!.

إنّ رحلة الحج تذكرة للأمة بالتاريخ ومآثر الأمم والحضارات ، وتذكرة للبشرية بآيات العظمة والجلال والقدرة الإلهية ، لتستلهم من ذلك أمتنا قيادات وقواعد ، سبل النجاة وطرائق الخير وأسباب النصر والتمكين والعزة .

ثم إنّ رحلة الحج رحلة إلى المستقبل القريب ، حيث تنهمر العيون دموعاً لتتناغم مع الدماء التي تهراق في يوم النحر ، حيث تذهب الأرواح في رحلة مستقبلية غير بعيدة ، لتتذكر الدار الآخرة ، وقدوم الخلائق على الله ، فيجازيهم على أعمالهم ، حيث يأتونه جميعاً شعثاً غبراً كما ولدتهم أمهاتهم، ليجازيهم على أعمالهم، فساح عرفات الله أشبه بساح القدوم على الله والوقوف بين يديه للحساب والجزاء ، حيث يقف الصغير والكبير والملك والمملوك والحر والعبد بين يدي الحق فيحاسبهم على كل أعمالهم ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}.

وقال تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف49.

ولله در الشاعر عبد الرحيم البرعي حين قال :

يا راحليـن إلـى منـىً بقيـادي

هيجتـمُ يـوم الرحيـل فـؤادي

سرتم وسار دليلكم يـا وحشتـي

الشوق أقلقني وصوت الحـادي

حرمتـم جفنـي المنـام ببعدكـم

يا ساكنيـن المنحنـى والـوادي

ويلوح لي مابين زمزم والصفـا

عند المقام سمعت صوت منـادي

ويقول لي يا نائماً جـد السُـرى

عرفات تجلو كل قلـبٍ صـادي

من نال من عرفات نظرة ساعـة

نال السرور ونـال كـل مـرادِ

تالله ما أحلى المبيت على منـىً

في ليـل عيـد أبـرك الأعيـادِ

ضحوا ضحاياهم وسال دماؤهـا

وأنا المتيم قـد نحـرت فـؤادي

لبسوا ثياب البيض شارات الرضا

وأنا الملوع قـد لبسـت سـوادِ

يا رب أنت وصلتهم صلني بهـم

فبحقكـم يـا رب فـك قيـادي

فـإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا

مني السلام أهيـل ذاك الـوادي

قولوا لهـم عبـد الرحيـم متيـمٌ

ومـفـارق الأحـبـاب والأولادِ

صلى عليـك الله يا علـم الهـدى

ما سار ركب أو ترنـم حـادي

حفظ الله حجاج بيت الله الحرام، وجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكورا، ووفق المسلمين أجمعين استلهام دروس الحج والعمرة، وأنعم على الأمة بالوحدة والسلام والنصر والتمكين، والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.