الأمر الغريب، الذي لم يخطر على بال أحد، أن تتخذ واشنطن في العام نفسه قرارين مهمين نقضا كل ما قامت عليه السياسة الأميركية على مدى نحو أربعين عاما، مكافأة إيران باتفاق نووي JCPOA ينهي العقوبات، ومحاسبة المملكة العربية السعودية بتشريع JASTA.
المفارقة مكافأة إيران، وهي الدولة الأولى في العالم الراعية للإرهاب، بإقرار معظم المجتمع الدولي، ومعاقبة السعودية، وهي من الدول الأساسية المحاربة للإرهاب. لماذا؟ وكيف؟ وماذا بعد «جاستا»؟ كلها أسئلة سنتحدث عنها طويلا خلال الأشهر العصيبة المقبلة، بعد أن أصبح القانون الجديد أمرًا واقعًا نتيجة إصرار الكونغرس بمجلسيه على رفض فيتو الرئيس الأميركي بأغلبية ساحقة.
المشرعون، والمحامون، كانوا يعملون على هذا القانون من فترة طويلة، يقول السيناتور جون كرونيون محتجًا على محاولات البيت الأبيض إسقاط التشريع الأسبوع الماضي، «لماذا الآن؟ نحن نناقشه منذ عام 2009». وقد وجدت كمية كبيرة من النشاطات تحت قبة الكونغرس تعمل وتطبخ للتشريع؛ ففي 19 سبتمبر (أيلول) عام 2013 قدم مشروع القانون السيناتور تشك شومر، ديمقراطي، أي من حزب الرئيس. وبموازاته، وفي اليوم نفسه، قدم عضو جمهوري تشريعا مماثلا في مجلس النواب، وفي سبتمبر، من العام التالي، تم إقراره في اللجنة العدلية، وبعد إحداث تعديلات محدودة، جرى تمريره بالإجماع في نهاية العام ذاته في مجلس الشيوخ، وفي العام الذي يليه، أي 2015، يتم تقديمه في مجلس النواب بعد تعديلات أخرى، ثم يعود التشريع للجنة العدلية في فبراير (شباط) هذا العام، 2016، وتقر التعديلات. وأخيرا يجيزه مجلس الشيوخ بالإجماع، وكذلك النواب في شهر سبتمبر، ثم يرسل إلى البيت الأبيض الذي يعارضه، ليعود للمجلسين اللذين تحديا فيتو الرئيس، ويقر بأغلبية ساحقة. هذا هو ملخص مسار التشريع الذي سمي قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب».
القانون الجديد بعيد عن العدالة، بل مشروع سرقة من إنتاج المحامين. اختاروا السعودية، الدولة التي كانت تحارب تنظيم القاعدة، وتلاحق زعيمه أسامة بن لادن، وهي التي نزعت جنسيتها عنه وأجبرت حكومة السودان على إبعاده، وغادرها عام 1996، أي خمس سنوات قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر. واستمرت تواجه التنظيم في وقت كانت مؤسسات رسمية أميركية ومنظمات حقوق الإنسان الغربية تنتقد الحكومة السعودية بسبب مواقفها تلك.
الآن، وبعد أن أصبح «جاستا» قانونا يجيز للآلاف من الأميركيين، من ذوي ضحايا هجمات سبتمبر، رفع دعاوى على السعودية، ما الذي يمكن لها أن تفعله؟
جاءت ردود الفعل غاضبة من السعودية، على المستوى الشعبي، وشامتة من خصومها. وهناك من قدّم النصائح يحثها على اتخاذ مواقف سياسية عدائية مضادة للولايات المتحدة، لكن لحكومة الرياض تاريخ طويل في التعامل مع الأزمات، وتملك رصيدا من الحكمة والتروي يجعلها تبحث عن حلول لإصلاح ما قد يفسده التشريع الظالم. أستبعد أن تفرط السعودية في علاقتها مع الولايات المتحدة لأسباب كثيرة، استراتيجية وتاريخية. ونظام إيران يعمل منذ فترة لتخريب علاقة الرياض بواشنطن، وسيكون سعيدا أن يرى السعوديين على خلاف مع حليفهم القديم. وهذا ما كان يريده أيضا بن لادن، عندما خطط وأرسل الإرهابيين لتنفيذ تلك الهجمات على نيويورك وواشنطن لتقويض العلاقة السعودية الأميركية. بكل أسف، ما فعله الكونغرس أنه قدم لـ«القاعدة» والإرهاب وإيران، ما كانوا يحلمون به، قانونا يحاسب الضحية، وهي السعودية، ويطلق سراح إيران، الدولة التي أسست للإرهاب في المنطقة، بداية بتأسيسها «حزب الله» في لبنان منذ ثلاثين عاما.
لا تزال هناك احتمالات بإصلاح ما قد يفسده تشريع «جاستا»، من خلال التعاون مع الإدارة الأميركية المقبلة بعد الانتخابات. والذين يحثون السعودية على تقليص علاقاتها هم الذين أسدوا النصائح الغبية نفسها للأنظمة السابقة في العراق وليبيا. لا يفترض التفريط في هذا الرصيد الكبير رغم عدم عدالة قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب».