الجوع يحمل مفتاح الزمن الآتي ...
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 16 سنة و 5 أشهر و 11 يوماً
السبت 24 مايو 2008 02:08 م

مأرب برس – خاص

يقولون صار الأكل عزيزاً على الموائد - ويقال ان بركته قلّت -، الجوع يقتل ببطء - وهو أُس كل بلاء، ولا يوجد جوع حميد وجوع خبيث... وفواجع الجوع هي نفسها التي غيّرت التاريخ كل مرة.

- وكل ما لا يرد الجوع لا يغني ولا يسمن.

والشرعية المعيشية أهم من الشرعية الديمقراطية... فأي وطن لا يوفر القوت لأهله يُهجَر... وأي أرض لا تنتج تتصحر... وأي حكومة لا توفر فرص عمل وعيش كريم نسبياً لشعبها لا شرعية لها، حتى لو اُنتخبت ديمقراطياً.

وقد ورد لفظ الجوع في القرآن الكريم خمس مرات، - وغالباً ما قرن بالخوف والعري -، لأن الجوع هو ذل الباطن، والعري ذل في الظاهر، كما قالت التفسيرات... والشعب الذي يعاني من أنيميا جوع مزمنة، يعاني من كل الآثار السلبية... فهو هش، متقلب كحال الطقس، ثقافتة ضحلة وبلا منطق، ومناعته ضعيفة أمام أي نعرة تطرف... تسوده الإنتهازية، ويزداد فيه التسول والفوارق الطبقية واللصوصية، وتتحلل فيه الثوابت، ويطغى عليه إنهيار القيم والدين والأخلاق. - أبناؤه يُحتقرون.. ويُنظر إليهم بإزدراء، بل وتتأفف منهم بقية الشعوب، وتتعالى عليهم أمم الأرض.

- ومن نتائج المجاعات، موت الناس والدواب، والنزوح وزحف الريف نحو المدن، وتصل إلى حد الفناء من الشدة.

نفسياً، الجائع لا يثق بنفسه، تركيزه يقل، يشعر بالدوار وتزيد لديه ضبابية الرؤية، ينصرف جل إهتمامه لتدبير طعام من أجل البقاء بشتى الوسائل، حتى الأساليب المنحطة منها... وصحياً، يؤدي نقص وسوء التغذية إلى سهولة انتشار السل والتيفوئيد والكوليرا، وطبعاً ضعف المناعة، وخاصة لدى المسنين والأطفال أساساً، إلى آخره.

- والجائع لايستطيع المعاشرة الجنسية بشكل طبيعي، ولا حتى إشباع غريزة شريك سريره... وأنصاف الجياع يمكن لموجة برد عابرة أن تقتل أكثرهم.

لذا كانت المجتمعات الزراعية تحتاط لتقلبات الزمان، كانوا يطمرون القمح في مدافن - حفر في الأرض -، لم يكونوا يبيعونه، بل يقرضونه - أي يعيرونه فقط -، هذا الإسلوب كان يفرض دورة إنتاجية زراعية جديدة على المجتمع لتسديد القروض والتخلص من ديون القمح... بل ذهبت بعض المجتمعات إلى أن بيع القمح عيب، حيث لا قيمة للنقود ما دام الخبز غير موجود، القمح هو الحياة، وهو غير قابل لمساومة التداول وقوانين العرض والطلب.

إجتماعياً هنالك وظائف للشبع - نقيض الجوع -، الشبع مرادف للفرح، والصحة، والعنفوان، والقوّة، والمجد، وحتى النصر... فمعدة مملوءة تجعل القلب سعيدًا... يقول الصينيين "أكلت أم لم تأكل؟"، وذلك للسؤال عن الحال بدلاً من كيف حالك؟، والمجيب يرد "أكلت"، أي مامعناه "لله الحمد"، وفي المغرب العربي يقولون "عندما تشبع الكرش تقول للرأس غنّ".

... لكن سياسياً للجوع وظائفه أيضاً، والجوع يأتي إفرازاً لسياسات ونتاجاً لقرارات.

ففي رصد تسجيلي - وهذا ليس موضوع سخرية - فقد سُمِع الرئيس في مرات لاحصر لها وهو يرطن مقولة "جوّع كلبك يتبعك"، وعبارات مثل "القبيلي شبع"، وكأن شبع مواطن يوم نحس ونذير شؤم.

ذات مرة، وعلى الرغم من الجدية التي نقلت بها محطة التليفزيون الرسمية ولاقطات الأصوات - الميكروفونات - التي زينت الشاشة والتي حملت الصوت والصورة إلى كل أرجاء المعمورة، الرئيس أثناء خطاب متلفز عندما أعلن بحشرجته المعروفة بأن التجويع والإقفال "بالضبة والمفتاح" على الشعب كانت من شيم العهد الإمامي، مهدداً بأنه سيتبعها كوسيلة سيطرة ناجحة، - بمعنى أن للجوع وظيفة تطويع، ليعلن الجياع ولاءهم وإخلاصهم، - وفي هذا احتياط أمني ممن قد يشبع فيثور.

ولأن الجياع يعتبرون الديمقراطية مجرد ترف وثرثرة فإنهم يصوتون ببطونهم، بدليل أن المرشحين الذين يدفعوا الطعام - أو قيمة وجبة طعام - يدخلوا برلمان الشعب منتصرين، - حيث أشار فخامته - ضمناً - مرة اُخرى في محاضرة متلفزة له، أن الجياع يتجاهلون الإنتخابات ويجب سياسياً إستغلال خنوع ذلك الجائع وربطه ربطاً لا فكاك منه في مقابل تدبير منافع فورية.

... القارئ للتاريخ والمتتبع للأحداث يلاحظ مدى إرتباط وجود النظام في اليمن بالإنتخابات والحروب، فلا يهدأ للرئيس بال من إنتخابات أو حرب حتى يبدأ في الإعداد لمعركة أخرى، - فهو يشعر بالخوف ليلاً نهاراً، وكأن الإستقرار والتنمية الحقيقية بعبع وغول يهدد صاحبهما بالرحيل لا محالة.

وكما سلف، فالجوع يأتي إفرازاً لسياسات ونتاجاً لقرارات، والمتابع لولادة بعض تلك القرارات يجد أنها جاءت عبر معاشرة غير مشروعة، عبر سفاح محارم كانت وما زالت شخصية وعائلية، تتعامل مع الشعب كقطيع، وإلى الدولة كعقار ومتاع يوهب ويورث للأبناء والأحفاد، حتى أن المراتب الحيوية فقدت قيمتها.

ففي مجال الجوع، - على سبيل المثال لا الحصر -، فوجئ الناس قبل سنوات بتسليم جهة تحيط بها الشبهات، ويفترض ان تكون إنتاجية لإحدى أبنآء المقربين، ولما كان الشاب برأيي غراً غير مؤهلاً بعد لتبووء مثل ذلك المنصب الحيوي في مكافحة آفات الفقر والجوع، فقد سألت أحد وكلآء الوزارت المعنية عن السر وراء ذلك، فأحاطني علماً بأن التعيين جاء مكافأة نظراً لأن والده مقرب وابلي بلاء حسناً في الإنتخابات إلى درجة الإعياء، فأكبرت في الرئيس نبل أخلاقه، وحرصه على هذ النوع الغريب من جبر الخواطر... وطز في الجوع!

حتى اللحظة، المعارضة ساكتة أيضاً... سكتت على جرائم سياسات التجويع، بل وشاركت فيها أحياناً، حتى تلك التي تتدثر بعباءة الإسلام... لم تعتبر من لمز المولى عز وجل عبر السبع العجاف، ولا إلى فرضية وقوع موجات قحط وبلاء وغلاء... تقاعست عن دورها في ضرورة مطالبة ودفع السلطة نحو آفاق الزراعة والإنتاج، وتأمين مخزونات إستراتيجية، متلهية بالأدلجة وغسيل الأدمغة إلى آخر الموال، - وكأنهم أنفسهم غير واثقين من تكفل الله بحفظ الذكر -، ومتجاهلين قول رسول الخُلق العظيم: "أحب الأعمال الى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، - "أو تطرد عنه جوعاً" -، ولأن أمشي مع أخي في حاجه أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد شهرا".

اليوم أخذ الجوع يتمرد على إهماله فترات طويلة، ينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، والمؤشرات مثيرة - وتخلع القلب -، وليس في ذلك أيّ تكهن، أو تلفيق، أو ضرب بالرمل، - فخبرآء الإقتصاد اليوم يتطلعون إلى بورصات القمح بخوف، والناس يتطلعون إلى السماء بقلق، ويزداد هذا القلق كلما كان الأكل نادراً ومكلفاً.

كما أسلفت آنفاً، فإن فواجع الجوع هي نفسها التي غيّرت التاريخ كل مرة، - عندنا تستفيد الطغمة الحاكمة بإحتكارها الأقوات والمتاجرة فيها من ورآء البحار، بالمقابل، فإن سنة الله في الأمم الزارعة الصانعة والوارفة تحت ظلال إدارات رشيدة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون من يوم ذي مسغبة، - ولنا أسوةً بالعزيز وسيدنا يوسف.

- جوعنا الحالي صنعناه بأنفسنا كما نصنع كل الطغاة، - اسألوا الله اللطف وقيادة رشيدة عندما يتسع خُرق الجوع على الراقع.

abdulla@faris.com