القبيلة كأرق دائم
بقلم/ احمد عبد الرحمن الشرعبي
نشر منذ: 12 سنة و 9 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 31 يناير-كانون الثاني 2012 08:45 م

لا يتجاهل أنيس حسن يحيى الدور السياسي للقبيلة في الماضي، وهذا ما لا يدفعه للرهان عليها في بناء دولة المستقبل...

Ahmed7341@gmail.com

حرص المفكر أنيس حسن يحيى في اتصالٍ هاتفي معي على تصحيح بعض ما أوردته من معلومات فيما يخص خلفيته الفكرية، فقد التحق بالبعث في العام 1959، وكما جاء على لسانه "عندما كنتُ طالباً في مصر، وحينها كان البعث يستقطب خيرة المثقفين العرب كحزبٍ حداثي، لكن مجيئه إلى الحكم فيما بعد على ظهر دبابة سواء في العراق أو سوريا، وتناقضه مع أسسه الحداثية، وإقصائه الآخر في المجتمع وداخل الحزب، دفع بالمثقفين إلى ترك البعث"، وكان الماركسي أنيس حسن يحيى أحد هؤلاء الذين تركوا البعث الذي مثل قبل أن يصل إلى الحكم بطريقة مناقضة لأدبياته نموذجاً في تعايش التيارات الفكرية المختلفة داخلة فكان هناك الماركسي، والاشتراكي، والقومي...الخ، بعد ذلك "سنجد البعث يتراجع, ويفشل في إقامة دولة عصرية...", والسبب تنكره لأهدافه بتعبيره.

يطرح الرجل أيضاً ملاحظاته وأرائه حول "القبيلة"، و"المرأة"، وصحح خطأ مطبعياً "كُفرياً" ورد في مقالته، ووقعت فيه بمقالي الأسبوع الماضي، ويتعلق بحزب إتحاد القوى الشعبية الذي يضم "حداثيين"، وليس "حوثيين" كما جاء في المقال، وكما زعمت أنا أيضاً، ورغم أن الفرز الطائفي أو المذهبي لا يمكن أن يصدر من رجلٍ تجاوز هذه الصغائر، فقد وقعتُ في شرك الخطأ المطبعي الذي قلب المعنى رأساً على عقب، ومن الحداثيين الذين يراهن عليهم أنيس يحيى في حزب إتحاد القوى "عبدالسلام رزاز" الذي يعده واحداً من "خيرة الحداثيين الذين يحملون مشروعاً حداثياً، ويتمنى أن يوفق، وقطعاً هناك حداثيين إلى جانبه في هذا الحزب، وهؤلاء من أعول عليهم في بناء يمن حديث".

القبيلة وأنيس حسن يحيى

لا يُخفي الرجل تفاؤله بالقبيلة، ولكنه لا يراهن عليها في إحداث التغيير المنشود، وهو القارئ لتاريخ القبيلة التي لم تخيب ظنه على ما يبدو "في كل ندواتي ومحاضراتي أتحدث عن القبيلة، ولا أتجاهل دورها السياسي الذي لعبته في تاريخ البلد، وتبقى القبيلة كيان اجتماعي عابر في تاريخ تطور أي مجتمع بشري، والقبيلة في اليمن لعبت وأنجبت قامات وطنية هامة نجحت في الحياة بقدر ما تحمله من مشروع حداثي، وفشلت بقدر ابتعادها عن هذا المشروع، لذا فالاعتراف بحضورها في الحياة السياسية شيء، والرهان عليها في بناء دولة يمنية عصرية شيء آخر تماماً. والرهان عليها رهاناً خاسر"، ويشير لهذا الجزئية كاتب وناقد مهم كمحمد ناجي أحمد في كتابه "الهويات الطاردة" حين اعتبر القبيلة إطاراً سياسياً بدائياً يجب أن يتطور، يقول في أحد موضوعات الكتاب "عندما نمجد القبيلة وهي إطار سياسي بدائي، أصبح منذ قرون يشكل تحدياً وعائقاً لدى مشروع تحول نحو دولة تحكم الجميع بقانون يساوي بين الناس على أساس المواطنة – عندما نمجدها ونعطيها صفات الصدق والنجدة والكرم والشجاعة وغيرها من الصفات الايجابية، فإننا نعطي المدينة بالمقابل الصفات التي طهرنا القبيلة منها، فتصبح المدينة مرادفاً للكذب والخيانة، والبخل والانتهازية، والأنانية إلى آخر الصفات التي نراها مذمومة، وبالتالي تصبح قيم وطاغوت القبيلي مثل "شخط الوجه، ونتف الشارب، والاحتماء بوجه الشيخ الفلاني" تصبح هذه القيم هي النموذج الذي نمجده في مضمر تفكيرنا، ويصبح فتلةً لمسبحته وصمته التمثيلي متكئاً على مسنده، أكثر جلالاً وفصلاً للخصومات من وقار المحكمة والقانون وقبلهما الدولة".

في هذه الحالة هل يصح أن أطرح سؤالاً من قبيل لماذا الرهان على القبيلة في بناء الدولة اليمنية العصرية..رهاناً خاسراً ؟

ومبدئياً فوجود القبيلة ككيان مستقل هو عامل الإعاقة الدائم لإحداث التغيير الجذري، وبناء الدولة، فهل يمكن أن يتحول عامل الإعاقة إلى عامل بناء؟؟

طوال العقود الماضية، وتحديداً بُعيد قيام ثورة سبتمبر بخمس سنوات تسيدت القبيلة المشهد السياسي، وأخضعت الدولة كلياً لها، ومن حينها غدت القبيلة هي صاحبة الكلمة الفصل في الإطاحة بالرؤساء، وتنصيب آخرين، وحين تصل الأمور فيما بين أطراف الحكم إلى طريقٍ مسدود ينفجر الوضع، ويعيد التحالف بناء نفسه من جديد. ولهذا السبب لم تتمكن الدولة اليمنية من إخضاع القبيلة لحكم القانون، لأنها جزء من الدولة إن لم تكن هي الدولة. هذا التحالف مكن القبيلة من المحافظة على ماهيتها، وبنيتها، وظلت مخلصة لقيمها، بل ومغذية لها في مواجهة ما تعتبره مخاطر ستلتهمها وتقضي عليها، وأكبر خطر على القبيلة بحسب وعيهم هو وجود "الدولة القوية"، دولة النظام والقانون، فوجود هذه الدولة سيعمل تلقائياً على دمج القبيلة لتغدو جزءً من الدولة، وليس دولة داخل الدولة، تحيك المؤامرات، وتنقسم على نفسها، وتتقاتل بالناس في سبيل أن تبقى الدولة خاضعة لها، وليس العكس، وهذا من المفارقات التي تدعونا لإعادة النظر في "تصدر" الرموز القبلية" للمشهد الثوري، ومطالبتهم بدولة مدنية يقولون بأنهم يحلمون بها..فهل ستُبنى الدولة المدنية بوعي قبلي؟، وبطريقة أخرى أضع السؤال على طريقة المفكر العراقي علي الوردي في "وعاظ السلاطين" حين استغرب من "الثورة بوعي بدوي"، ولي الحق في أن أستغرب وأبدي تعجبي من أن تكون هذه اللافتات القبلية هي ما نراهن عليه في بناء الدولة المدنية.

قبل ثورة سبتمبر كان للقبيلة حضورها كقوة حليفة للدولة الفتية هذا في بداية عهد الإمام يحيى. عند قيام الدولة الجديدة، لكن بعد أن اشتد عود الدولة أخضعت القبيلة لسلطتها، وكما هو شأن "ال دول العربية والشرق أوسطية الحديثة التي اتكأت على القبيلة طيلة مراحل طويلة من عمرها القصير، إما لاستدعاء شرعيات منقوصة، أو للاستقواء على خصومها، أو لتوسيع نطاقات سلطاتها، مما أدى إلى إنعاش القبيلة وتكريس حضورها" "من عرض لكتاب القبيلة والسلطة.. القومية والإثنية في الشرق الأوسط "، تصرف الإمام يحيى مع القبيلة فقد "أسس ما يمكن أن نسميه بـ"اليمن الحديث"، وكان في فترات تأسيسه معتمداً على قوة القبيلة كأنصار وشركاء لهذه الدولة الفتية. ومع أنه وغيره من الأئمة كانوا ينهجون في البداية شكلاً ثورياً قائماً على التحالفات التي تؤلف قلوب القبيلة بالهبات والفيد والغنائم، إلا أنهم سرعان ما يغيرون طريقة تعاملهم مع القبيلة، وذلك بوضع صيغة أخرى قائمة على أساس أن الكل متساوون في ظل الشريعة (القانون)، ولذلك نجد أول صدام بين نظام الإمامة والقبيلة في أكثر من مرحلة تاريخية يبدأ بتطبيق قانون الإرث وخاصة إرث النساء" "محمد ناجي أحمد –الهويات الطاردة صــ82".

لم تكن القبيلة والدولة خلال حكم الإمامة كياناً واحداً كما يقول بعض المشائخ، بل تعامل الإمام يحيى ومن بعده أحمد مع القبيلة كخادمة للدولة وخاضعة لها، وبعد الثورة تموضعت القبيلة على رأس الهرم، وصارت هي "الحاكم الفعلي"، وهنا أُخضعت الدولة لها، فصارت الدولة خادمة وموظفة عند القبيلة. يقول أنيس يحيى في مقالته "تحالف الإسلاميين وقوى الحداثة في اليمن" "عندما قامت ثورة 26سبتمبر 1962، انقسمت القبيلة على نفسها؛ قسم انخرط في صفوف المدافعين عن الملكية، وقسم انخرط في صفوف المدافعين عن الجمهورية، ولكن بهدف الاستحواذ عليها. ونجحت القبيلة المدافعة عن الجمهورية في الاستيلاء على الجمهورية، وفي إفراغ نظامها من طابعه الوطني الديمقراطي الحداثي. واستمرت هيمنة القبيلة، في المجتمع اليمني، حتى لحظة اندلاع الثورة الشبابية الراهنة". وهم الانتهازيون الذين يشير لهم البردّوني في "اليمن الجمهوري" حين "شكل الانتهازيون من الجمهوريين متاريس داخلية ضد الثوار الوطنيين، والتقى الانتهازيون والبائدون في نقطة واحدة : القضاء على الثوار المبدئيين"، وهو ما كان. فقد تم القضاء عليهم واحداً واحداً لأنهم العقبة الكأداء أمام طموح الانتهازيين، وبالتخلص منهم يصفو الجو لأن يتصالح المتآمرين من الطرفين كما يصفهم البردوني أيضاً، "وعندما بدأت الحرب "حرب السبعين" تخفت اشتبك الجيش الجمهوري بالجيش الجمهوري في أغسطس عام 68، وكانت المدافع الملكية إلى جانب الدبابات الجمهورية تقصف مواقع الذين حاصروا الحصار الملكي" اليمن الجمهوري صــ 390". هكذا إذاً صعدت القبيلة من خلال التآمر على الثورة والجمهورية، وقضت بمؤامراتها على حلم الدولة العصرية. حتى وهم يأتون "بالإرياني إلى الحكم كبديل مدني لإسقاط دولة السلال، لم يكن هدف المشايخ هو تأسيس دولة مدنية ذات إرادة مستقلة، وإنما كان همهم هزيمة مؤسسة القوات المسلحة التي ومنذ تأسيسها كانت خياراً بديلاً للعسكري البراني" الهويات الطاردة صـ 74".

مرة أخرى يقرأ المفكر أنيس حسن "انقسام القبيلة على نفسها مع اندلاع الثورة الشبابية مطلع العام 2011، وإعلان قسم منها خصومته الصارخة لهذه الثورة، وقسم آخر عبر عن انحيازه لها، ولكن بهدف بسط نفوذه عليها لاحقاً. ولا فرق أن يكون هذا الهدف معلناً، أو غير معلن" أعاد هذا الانقسام إلى ذهنه انقسام القبيلة عند قيام ثورة سبتمبر، والانقسام الجديد بلا شك يبعث على التخوف من مصادرة وتفيد حلمنا في الدولة المدنية للمرة الثانية.

تجربتنا مع القبيلة التي ظلت محافظة على كينونتها في مواجهة الدولة، تجربة مُرة، وكل محاولات دمجها لتصبح جزءً من الدولة باءت بالفشل. وغالباً ما يسقط الداعين إلى المواطنة المتساوية ودولة النظام والقانون, فثنائية الدولة والقبيلة "الواحد" تجمعان على خطورتهم.

مازال أنيس حسن يحيى مؤمناً ومتمسكاً بحتمية تغير في العلاقة المتداخلة بين الدولة والقبيلة، وهذا التغير لن يتأتى إلا بتحول مُدرك في بنية القبيلة، وتماهيها بالمجتمع كجزء منه، وليس كمتسيد عليه، حينها لن يكون القبيلي فرداً فوق الدولة بل مواطناً يؤمن بحقوقه الشخصية، وواجباته تجاه الآخرين.

هل يمكن إحداث هذا التحول، وكيف؟

ينظر القبيلي للأحزاب على أنها خطر حقيقي على القبيلة، ويتمثل هذا الخطر بإمكانية سحب البساط من تحتها، وتحول ولاء أفرادها للأحزاب، وفق هذه النظرة يتعامل القبيلي مع الحزب. يعكس هذه النظرة "الشيخ" عبدالله بن حسين الأحمر في معرض إجابته عن سؤال لنجيب الريس صاحب كتاب "رياح الجنوب"، وسؤاله عما إذا كانت الأحزاب قد أفسدت القبائل أم العكس؟

يقول الأحمر :"أن الأحزاب أفسدت القبائل من غير شك، ولكن الولاء مازال للقبيلة أولاً ثم للحزب، وبالتالي مازالت القبيلة هي العنصر الأقوى في التركيبة الاجتماعية في اليمن وقد أرادت الأحزاب استخدام القبائل لمآربها السياسية، بقدر ما أرادت القبائل الاستفادة من الأحزاب في مراكز السلطة لتحقيق مشاريعها ومتطلباتها في مناطقها. فإذا بهما عبر هذا الاستخدام يعينان بعضهما بعضاً، ولكن الغلبة مازالت للقبيلة"، "رياح الجنوب، صــ 296". يبدو الأحمر واضحاً وصريحاً، وهو يتحدث عن هذه العلاقة الشائكة بين الحزب والقبيلة، وتماهي بعض الأحزاب مع القبيلة. ولكن هذا التماهي تمثله "التجمع اليمني للإصلاح" بطريقة جعلت منه "حزباً قبلياً"، وأقصد هنا غلبة العقل القبلي فيه، وتقديسه للشيخ، والتقليل من شأن "الرعوي" المتحزب، لدرجة يبدو معها خطاب الحزب ليس أكثر من معبر عن المسلمات القبلية عند قادته، وهذا ما دفع مفكراً كأنيس حسن يحيى لأن يعيب هذا "التماهي مع القبيلة" الذي وصل على حد تعبيره "درجة تشعر معها بأن هذا الحزب سيكون، قطعاً، عاجزاً عن بناء دولة يمنية عصرية، في حال استلامه الحكم. وتتفهم "قوى الحداثة" حق هذا الحزب في الحكم، بالنظر إلى حضوره الفاعل في الحياة السياسية. غير أن"قوى الحداثة" تحذر من جنوحه إلى إلغاء الآخر وتغييبه أو تهميشه، كما يجري اليوم في عدد من الساحات. ويبقى التحذير الأهم من خطورة تماهيه مع القبيلة"، وهذا هو الخطر في أن تتحول القبيلة مجازاً إلى حزب يمارس الإقصاء والتهميش بذات العقلية الرثة، التؤمن بديمومة القبيلة، وبلحظية "الحزب"، وبعقلية دينية تشعر بالاكتمال بالتحالف والتجاور مع نظيرتها القبلية، أو بالأصح مع العقل الخارجة من داخله.

والمفجع أن تسحب طريقة التفكير القبلية نفسها، وتلتهم الأحزاب بما فيها الأحزاب التقدمية التي بدأنا منذ سنوات نشتم رائحة تحول في خطابها. تحول يشي بتقدمها إلى الخلف، وتراجعها عما حملته في أدبياتها، ويعيدني هذا التحول إلى ما ذكره لي السياسي أنيس حسن في حديثه التلفوني عن حزب البعث حين انقلب على نفسه، وعبث بأحلام مؤسسيه ومفكريه وأعضائه، وصعد إلى الحكم على ظهر الدبابات.

القبيلة والمشاريع الحداثية

منذ 67 كما أسلفت صارت القبيلة هي الحاكم الفعلي هنا، ولم يستطيع زعماء الأنظمة السياسية الذين كانوا يصعدون بالتحالف مع زعماء القبائل، الانقلاب عليها، أو تمدينها، ومحاولة الحمدي في الحد من نفوذ مراكز القوى أودت به، ومن بعده بالغشمي الذي منع دخول "مشائخ مؤتمر خمر" صنعاء. يصر أنيس حسن يحيى على أن القبيلة هي من تحكمنا حتى اللحظة بتحالفها مع النظام السياسي، وبقائها خارج القانون والدولة. وبالتالي فأي مشروع يملك مقومات المشروع الحداثي المتكامل الذي يعلي من شأن الإنسان، ويتعارض مع العادات والتقاليد البالية ومسلمات الوعي القبلي الذي قاد كل مشاريع بناء الدولة المدنية إلى حتفها، لن يكتب له الحياة إذا لم يلتف حوله الحداثيين هنا، وتنضوي في إطار كيان يحميها ويدافع عنها ويعمل على تجذيرها في الواقع.

وهذا ما يجب أن يضعه الحداثيين نصب أعينهم، وهم يجترحون طرقاً جديدة للتفكير في واقعٍ آمن بالنقل، وحّيد العقل تماماً، أن يسعوا لإنشاء ما يمكن أن يحفظ ويحمي أفكارهم، وأقصد مؤسسة شبيهة بما أنجزته الثورة الأمريكية حين أنشأت مؤسسة تحافظ على الروحية الثورية بعد انتصارها، والمفكر أنيس حسن هو أحد أهم المفكرين والسياسيين الماركسيين الحداثيين الذين "لا يسعون لإزالة الفوارق الاقتصادية بين الناس فقط، وإنما كذلك إزالة الفوارق العرقية والدينية والاجتماعية"، وهذا ما لا تستوعبه العقول المصلوبة على جذع التخلف والرجعية.

القبيلة كأرق دائم جنوباً وشمالاً

حين يتحدث أنيس حسن يحيى عن القبيلة لا يفصل في وعيه القبيلة شمالا وجنوباً، لأنه يمني "قلبه دواته" على طريقة إحدى أبيات البردّوني، ولا يمكن أن ينسل إلى وعيه هذا التفريق بين كيان متشابه في الحالتين "جنوباً وشمالاً"، وقد ذّكرني بكلام في غاية الأهمية قاله في محاضرته بمقر الاشتراكي حين قال متطرقاً لتجربة حكم الحزب في الجنوب: "أنتمي للحزب الاشتراكي صاحب التجربة العظيمة، وانشداد بعض القيادات فيه إلى القبيلة والعشيرة هو ما أدى إلى كوارث قبل الوحدة في الجنوب، كان آخرها كارثة 86"، ومع ذلك برأيي فالحزب الاشتراكي استطاع خلال تجربة حكمه جنوباً أن يُحجم من القبيلة، ويعيدها إلى "حظيرة الدولة"، وهذا ما قاد على حد رأي نجيب الريس إلى كارثة "86" يقول الريس "حاول نموذج الحزب الاشتراكي في الجنوب، القضاء على التركيبة القبلية في اليمن، وفشل فشلاً ذريعاً بعد 27 سنة من الحكم. فسحقت القبيلة الحزب عند أول صراع بين الأجنحة المختلفة، كما أثبت انقلاب علي ناصر محمد والانقلاب المضاد في عدن العام 1986" صــ313. ويضع الريس سؤالاً مهماً حول احتمالية تغير العلاقة بين القبيلة والدولة بعد الوحدة، وعما "إذا كان قد تم صلح بين القبيلة والدولة بعد الوحدة، والجواب على سؤال كهذا يتوقف برأيه على الإجابة عن سؤال آخر: هل القبيلة هي التي ستقضي على الدولة أم الدولة هي من ستقضي على القبيلة؟"، وما بين لحظة طرح هذا السؤال في العام 98 ولحظة الإجابة عنه، فالحقيقة المؤلمة تؤكد قضاء القبيلة على الدولة التي حولتها إلى مسخ، وبالتي من غير المنطقي طرح سؤال بهذه الصيغة عن صلح بين القبيلة والدولة، لأن القبيلة هي الدولة والدولة هي القبيلة..فما نعني بالصلح هنا؟؟

المشكلة اليمنية

من هنا يمكن اختزال المشكلة اليمنية المتمددة بحسب أنيس حسن في تسويق القبيلة على اعتبار أنها إطار جامع لليمنيين، وفي هذه الحالة تصبح القبيلة كيان دائم لا يجوز مسه أو الاقتراب منه ونقد ممارساته التي رمت بثقلها على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهذه المشكلة امتداد لما لخصه نجيب الريس أيضاً في إحدى التفاتاته الذكية لتعقيدات التركيبة الاجتماعية هنا, ليلخص المشكلة اليمنية في عبارة مختصرة "أن الدولة تتصرف وكأنها قبيلة، والقبيلة تتصرف وكأنها دولة..".

هل يكفي هذا لنؤمن بما يقوله أنيس حسن يحيى، ونعمل على تمدين القبيلة، التي يجب أن تؤمن بأنها ليست أكبر من الدولة، وأن تترك عصبياتها المقيتة جانباً، وتشرع في فتح نوافذها لرياح التغيير التي ستطالها عاجلاً أم آجلاً, وكلما نريده دولة تتصرف كدولة فقط..!