محافظة حجّة اليمنية جحيم قبل ساعة القي
بقلم/ سام عبدالله الغباري
نشر منذ: 7 سنوات و 10 أشهر و 8 أيام
الخميس 05 يناير-كانون الثاني 2017 11:16 ص

- سأل الأب ابنه الصغير : من أنت ؟! ، وجعل ينقل بصره إليّ وصديقي في جمود وبلاهة ، كانت والدته العجوز تبكي نجلها المسكين بحرقة أثارت استغرابه، وتساءل مجدداً : ما بها تبكي ؟!.
- قبل شهر من وصولي متسللاً إلى محافظة حجّة اليمنية ، أفرج الحوثيون عن مدرس اللغة العربية "عبدالصمد جبران" ، بعد سنة كاملة من اختطافه ، ونهب سيارته وإحراق مزرعته الصغيرة .. وصل إلى منزله برفقة عدد من أقاربه ، وهناك قال لأبنه البكر وشقيقاته : لقد احرجتموني بهذا الاستقبال ، فمن أنتم ؟! .
- "جبران" واحدٌ من أربعمائة وإثني عشر مختطفًا تعرضوا للتعذيب الوحشي في معتقلات الحوثيين بمدينة "عبس" حتى فقد ذاكرته ! ، كمية الألم المخيف التي تجرعها في زنازين الحوثيين أنسته كل شيء .. وجه جلاده ، أفعاله ، وسياطه ! ، اصطكت قدماي محاولاً الثبات واقفًا ، شعرت بكراهية هائلة للحياة ، لم يألف اليمنيون هذه الجرائم المروعة على مدى قرون من تاريخهم ، كان صديقي الذي يعمل في اللجنة الوطنية بمحافظة حجة متحمساً في محاولة لاستنطاق المسكين للإدلاء بمعلومات عن أسماء وكُنى الحوثيين الذين التقى بهم في غيابة السجن القسري ، إلا أنه فشل ! .
- في طريقي من منفاي الإجباري في عاصمة المملكة العربية السعودية ، إلى منطقة "جازان" الحدودية ،كان سائق السيارة الكبيرة يغني كمراهق بصوت كاظم الساهر أغنية "مستقيل" ( لم يعد يمكن أن أبقى هنا ، فهنا يبكي على بعضي بعضي)، أعادني "القيصر" إلى أيام فراري من اليمن التي تعرّضت لإعتداء وحشي من ميليشيا الحوثيين، وقد عُدّت إليها متنكراً بعد عامين، كنت اشعر بمسؤوليتي كصحفي في الكشف عن التعذيب المختفي خلف أسوار "حجة" الطينية ، غير أني ما تخيلت مطلقاً أن تصل الوحشية إلى ذلك الارتفاع الشاهق، حيث يوضع المختطفين بداخل أنفاق عمودية تشبه "البئر" ويطلق عليها مصطلح "الضغاطة" يُـغلق مدخلها في الصباح بأغطية معدنية كبيرة، حتى تنضج أجساد المختطفين البائسين بفعل حرارة الصيف القائظ ، ويتركون في المساء للريح الجافة تتسلل إلى أقبيتهم السوداء .. هكذا استمر العذاب لسنة كاملة تقريباً .
- تعرض الشاعر والخطيب السابق "عبدالصمد جبران" للاختطاف في أواخر شهر نوفمبر 2015م ، حتى أوائل اكتوبر الماضي ، اقتاده الحوثيون من أمام منزله إلى مخزن قديم كان يستخدم لتخزين الفلفل الحار في مدينة عبس ، وتعرض لتعذيب وحشي باستخدام الصعقات الكهربائية حتى تحترق أجزاء من جسده ، فيضعون عليها بقايا الفلفل الحار ، لتلتهب ! ، بعد ثلاثة أيام من اختطافه سقط مغشياً عليه، نقله الجلادون إلى مبنى "الأمن السياسي" ، ومنه غادر إلى سجن "نعمان" وهو مبنى قديم كان يستخدم لإدارة مكتب التعليم بمدينة حجة ، حيث مكث هناك بداخل البئر المُعطّلة قرابة سنة كاملة .
- ارتديت جلباباً داكناً ، وشدّدت مئزري بحزام أسود ، وكنت أطلقت العنان للحيتي وشاربي لئلا يتعرف عليّ أحد ، وعلى رأسي غترة فلسطينية سوداء ، وفي باطن هاتفي لاصق "الصرخة الحوثية" حرصت على أن يبدو ظاهراً في نقاط التفتيش التي يطلق عليها مصطلح "الأمنيات" .. "يمكن لأي جهة أن تُهّرب أي شيء من هنا" – قالها صديقي الحوثي بسخرية لا تخلو من المرارة وهو يراقب سير عدد من القاطرات الكبيرة - ، ثم التفت نحوي بثقة : كم ستدفعون ، وسأسلم لكم هذه المحافظة ؟ . حدّقت في وجهه ملياً ، وجلت ببصري في اتجاه آخر ، كي ابدو غير مكترث لما يقوله : وهل نستطيع حقاً ؟ ، لوّح بيديه في الهواء بحركة مسرحية ، ثم أجاب بحزم : كل شيء يُباع هنا ! ، حتى هذا السجين الذي تذهب إليه ، دفع أقاربه "مليون ريال يمني" – 5 ألاف دولار تقريباً – إلى سيدي "أبو محمد" لقاء الإفراج عنه ؟! ، عُدت لأسأله : ولماذا لا تفرجون عن البقية ، وتفاوضون أهاليهم ؟ ، أجاب بسرعة : لا يمكن السماح للجميع بالخروج ، فمكتب السيد – يقصد مكتب عبدالملك الحوثي – لديه قائمة بالسجناء الخطرين الذين يتعاونون مع "داعش" ! ، استثمرت فرصة بوحه ، فعاجلته بسؤال آخر : هل يعني هذا أن "عبدالصمد جبران" كان أقلهم تهماً ؟ ، أجاب مرة أخرى كمن يبدو متأففاً من فضولي : أكيد ، ولو كان من الدواعش الكبار فلن يخرج حتى ينظر السيد في أمره !.
- أردت أن أسأله عن طريقة الإعدامات التي يشاع أن الحوثيين فعلوها بحق عدد من المعتقلين ، إلا أن ارتعاش جسدي مع اقترابنا من نقطة تفتيش جديدة منعني من إشباع فضولي ، والرد على أسئلتي ، كان صديقي القديم حوثياً ذو مكانة بين أقرانه الذين ينتشرون في كل أنحاء محافظة "حجة" ، ويسيطرون عليها بالعنف والترهيب ، وقد حفظ لي هذا الصديق معروفاً كبيراً أسديته له خلال دراسته في كلية الهندسة بجامعة ذمار التي كنت أعمل فيها مديراً عاماً للإعلام قبل ثمان سنوات ، حتى أخرجني الحوثيون من وظيفتي عقب سيطرتهم على محافظتي وجامعتي في أواخر سبتمبر 2015م ، وملاحقتي كصحفي مناهض لمخططهم الطائفي .
- ينحدر صديقي من عائلة "الأكوع" بمحافظة صعدة ، وقد اتخذ لنفسه كنية جديدة تمنع التعرف عليه ، حيث يُدعى "أبو مسلم" ، انتقل إلى محافظة حجة في بداية التواجد الحوثي على المدينة ، ويعمل مشرفاً أمنياً في إحدى مناطق مديرية عبس ، وخلال فترة الحرب كنت على تواصل جيد به ، وعلى الرغم من جنون فكرة الذهاب إلى "حجّة" ، وإيلاء ثقتي الكاملة في تعهد صديقي بالحصول على المعلومات الكاملة ، وتأمين وجودي وحمايتي بداخل العمق الحوثي ، إلا أن المغامرة كانت تستحق حزم الأمتعة ، واختراق مياه البحر الأحمر عبر زورق صيد صغير وصولاً إلى ساحل بحيص ، والتحرك عبر ممر آمن من ميدي الساحلية إلى مديرية عبس المحاذية لها .
- قال صديقي أنه ما كان يسمح بوصولي إلى هنا لولا أنه أدرك أن الحوثيين لم يكونوا جيدين كما كان يؤمل ، وأن الحرب الطويلة فرضت واقعًا مغايرًا لأحلامهم وطموحاتهم ، قال لي أيضًا أن ممارسات التعذيب الوحشية صدمته ، غير أنه لم يعد يملك خيارًا آخرا إلا الاستمرار في ممارسة دوره الإشرافي .. سألته : هل تورطت ؟! ، قال لا أستطيع أن أقول لك كل شيء ، غير أني مجبر على التأكيد أن الحوثية أصبحت جزءًا من الماضي .
- في مفرق الجر بمنطقة الربوعة اتجهنا يميناً صوب عبس ، وصلنا بعد عشر دقائق تقريباً ، وعلى يمين الطريق الإسفلتي الدولي ، يظهر معسكر اللواء 25 ميكا الذي سيطر عليه الحوثيون ونهبوا كل أسلحته ومعداته ، وقد تعرض للقصف الجوي من طائرات التحالف غير مرة ، تركني صديقي الحوثي عند مبنى مكتب البريد ، حيث كان صديقي الآخر "الدليل" بإنتظاري هناك ، وعلى الفور أشار الرجل إلى مبنيين متلاصقين من الحجر الأبيض في ثلاثة أدوار ، قال أنهما مملوكان للشيخ "أحمد الجبلي" ، حيث يتخذ الحوثيون من هذا المكان مقراً للإعتقال والتعذيب .. استطرد صديقي هامساً : أنت الآن في وسط الوكر ! وجعل يشير بطرف أصبعه الأيمن إلى مقرات الحوثيين الرسمية ، هذه المنطقة اسمها حي "المرناف" ، هناك مؤسسة يماني الخيرية التي اتخذوها مقراً إداريًا ، وعلى الشرق هناك المجمع الثقافي ، وقد تضررت صالة المجمع جراء قصف الطيران ، وهذا جامع آل شهيل وهو مخزن للتموين الغذائي ، ثم أشار إلى جبل قريب قائلاً : إسمه جبل دامغ وهو مقر التسليح والمعدات الآلية للحوثيين ! .. تحركنا سريعاً في جولة قصيرة بداخل المدينة ، وعلى مقربة من إدارة الأمن التي تقع جنوب سوق اللبن ظهرت لنا أطلال مبنى كبير سوّي بالأرض ، أفاد صديقي أنه كان مستشفى الدكتور "ابراهيم الأشول" المشرف العام للمدينة التابع لحركة الحوثيين المسلحة ، وهو طبيب أسنان من قرية المحابشة ، واستطرد قائلاً "هناك الكثير من المشايخ الذين تواطئوا مع الحوثيين في هذه المدينة أبرزهم : مالك عباس ثواب – ابن شقيق شيخ مشايخ عبس ، الذي أدخل الحوثيين بيديه إلى هنا وأخضع بقية المواطنين ، وشارك في عمليات التعذيب والقتل والإختطاف " .
- يمثل مقر الإنتشار الأمني للحوثيين في منطقة اسمها شفر ، وهي ملاصقة لعبس ويفصل بينهما وادي القور ، منطقة استقطاب للمجندين والراغبين في الإنضمام إلى جبهات القتال ، المبنى كان مستخدماً لإدارة الكهرباء ، وعليه سور كبير ويقع غرب فندق الواحة ، جوار مدرسة النجاح .. لا يوجد في عبس سوى خط إسفلتي واحد وهو الذي يربط بين مدينتي الحديدة وحرض .. أثار صديقي الدليل أهمية إنجاز اللقاء بالسجين السابق قبل حلول المساء ، وسألني : كم ستبق هنا ؟ ، سأغادر بعد إنجاز المهمة فوراً ! ، استحسن الرجل الفكرة ، حرصاً على حياتي ، ثم ابتسم بخبث : يبدو أنك على علاقة جيدة بـ"أبو مسلم" ، أجبته بصدق : نعم .. تعرفت عليه في مدينتي قبل أن يتحول إلى مسخ ! ، ضحكنا سوياً رغم كل القلق الذي يجتاحني ! .
- لم اتمكن من تصوير أي موقع من مواقع الحوثيين ، كنت خائفاً للغاية ، وفي منزل حجري قديم أطل علينا طفل صغير تبدو على جسده آثار حروق ، شرح لي صديقي الدليل أنه أعتقل في مدينة رداع وهو في طريقه إلى سيئون حيث كان ذاهباً لزيارة ابن عمه ، ساقه الحوثيون إلى السجن المركزي بالعاصمة صنعاء ، وأخفوه عن عائلته لمدة أربعة أشهر ، تعرض خلالها للضرب والإعتداء والتعذيب ، وقد صبّوا عليه مادة الأسيد الخام – إسمه العلمي حمض الهيدروفلوريك - ، ما أدى إلى تساقط أجزاء من جسده ، نقل بعدها إلى إحدى المستشفيات ، برفقة إثنين من مسلحي الحوثي الذين طالبوا الأطباء بإعادته إلى السجن بعد إجراء الجراحات الإسعافية الأولية ، إلا أنهم أصروا على بقاء الطفل في المستشفى نظراً لسوء حالته .
- فقد الطفل ذاكرته كلياً .. لا يعرف شيئاً مما حدث له ، حاولت استنطاقه بظروف إعتقاله وتعذيبه ، غير أني فشلت ، وكنت على عجالة من أمري ، عرفت أن الطفل مكث ثلاثة اشهر في المستشفى الجمهورى بأمانة العاصمة ، سألته : هل تسمح لي بإلتقاط صور معك ؟!، صاح صديقي : هل أنت مجنون ؟ لا يمكن ذلك ، سيعود إلى السجن فوراً ، وربما يقتلونه ! ، كان الطفل الذي يبلغ من العمر 12 عاماً صامتاً كأنه ممنوع من الحديث ، قبّلت رأسه ، وغادرت فوراً .. وعدني صديقي الدليل بإرسال عدد من الصور للطفل أُلتقطت له في المستشفى الجمهوري ، ولا يظهر فيها وجهه بصورة واضحة ، لئلا يتعرض للأذى مجدداً ..
- تحركنا راجلين إلى المنزل الذي ينتظرنا فيه "عبدالصمد جبران" ، دخلت إلى صالة فسيحة عليها بعض الأثاث المكتبي ، وعدد من الكراسي الخشبية الممتلئة بالغبار ، وبعض الخرق البالية من أفرشة ملقاة على الأرض بصورة عشوائية ، يبدو أن المكان كان غرفة لتناول القات لمجموعة من شباب الحي ، يتم استئجارها شهرياً لتكون مقيلاً دائماً ، كان "عبدالصمد" واقفاً في وسط القاعة ، وبجواره ابنه الصغير ، ووالدته العجوز بعباءتها السوداء جالسة على الجانب الأيمن من المكان ، لم تكن دموعها تجف خلال فترة اللقاء الذي استمر زهاء عشر دقائق ، كانت تتدخل ببعض الأدعية الحارة على الحوثيين ، قالت لي : "ولدي كان شاعرًا ومدرسًا للغة العربية ، "الله أعلم ما فعلوا به حتى طمسوا كل شيء من رأسه " ، قلت لها : يا أمي لقد عذبوه حتى ينسى وجه جلاده ، فلا يفكر بالانتقام ، ولو لم ينس كل ذلك ، لما أخرجوه .. ! ، كان "عبدالصمد" يكرر تساؤله على والدته التي تعرف عليها مجدداً : لماذا تبكين ؟ ، وجعلت الأم تنظر إليه بحسرة وأصابع يدها اليمنى تمسح الدموع من عينيها وهي تهز رأسها بأسى تتقطع له القلوب ، وتطلق زفرة حارة من صدرها ، متمتمة بصوت مرتفع : ياالله .. يا الله !.
- وقف نجل "عبدالصمد" الصغير حائراً ، كان يضرب رجله اليمنى على الأرض ، كأنه يريد تفسيراً لما يحدث ، عاجلت والده بسؤال : هل تعرفه ؟ ، إبتسم ساخراً : قالوا أنه إبني ! ، يا إلهي .. لقد مسحوا كل شيء ، حتى عاطفة الأب ، ويقينه الباطن بأقرب الناس إليه ، الضربات التي تعرض لها رأس "عبدالصمد" واضحة آثارها في مؤخرة رأسه ، يقول المحامي "هادي وردان" : أن الحوثيين مارسوا وسائل غير مسبوقة في سجل التعذيب الوحشي على المدنيين العزل ، في حجة وحدها تتوزع المعتقلات الرهيبة التي تمارس تعذيب الصعقات الكهربائية في الرأس ، على خمس مديريات هي مستبأ وعبس وميدي وكحلان الشرف وعاصمة المحافظة "حجة" ، يرزح أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين معتقلاً في تلك السجون الخاصة ، بحسب تقارير اللجنة الوطنية بحجة ، بينما تشير تقارير مؤسسة وثاق للتوجه المدني أنه خلال الفترة من 21 سبتمبر 2014 وهو تاريخ اقتحام الحوثيين العاصمة صنعاء إلى 25مارس 2015 قبل إعلان انطلاق عاصفة الحزم بيوم واحد ، قتل الحوثيون "1723" مدنيًا ، في كلٌ من صنعاء ، عمران ، حجة ، تعز ، إب ، ذمار ، البيضاء ، مأرب ، الجوف ، لحج ، الضالع وعدن .. وذلك بمعدل إثني عشر قتيلاً في اليوم .. كما تم تفجير 98 منزلاً لمواطنين مناهضين للعدوان الحوثي على مدنهم بمعدل منزلين كل ثلاثة أيام ، واختطاف وسجن "21.462" بمعدل 146 شخصاً في اليوم الواحد ، واستولى الحوثيون على 81 مقراً حزبيًا بمعدل مقر كل يومين ، واحتلال 442 منزلاً لأفراد عاديين بمعدل ثلاثة منازل كل يوم .. كما احتل الحوثيون مؤسسات الدولة كافة ، ووجهوا عناصرهم بنهب مكاتب 12 قناة فضائية يمنية ، وإيقاف 89 صحيفة ومجلة ، فيما يستمر سجن أكثر من 200 صحفي ومدون في سجون سرية وعامة لأكثر من سنة كاملة .
- يضيف المحامي "هادي وردان" في تعليق على حالات التعذيب غير المعروفة ، بمحافظة نائية مثل محافظة "حجة" أن صديقه "علي يحيى العطيري" أختطف لمدة خمسة أيام ، حيث تعرض للتعذيب بالبلاستيك المحترق وتقطيره على جسده ، ورأسه ، وبعد خروجه لم يستطع التعرف على زوجته ! ، يضيف "وردان" أن الطالبيّن بالصف الثانوي "منير محمد الردوة وماجد عبدالله سنان" تعرضا لتعذيب وحشي بالغ بإستخدام مادة "الأسيد" ، ما أدى إلى إحراق جسد أحدهما كاملاً ، وإصابة الثاني بشلل نصفي ، كما تعرض أكثر من واحد وستين مختطفاً للضرر النفسي وفقدان جزئي للذاكرة ، معظمهم طلابٌ بالثانوية العامة ! ، إصرار الحوثيون على مسح ذاكرة المُعذّبين في سجونهم الخاصة ، أصبح توجهاً صارماً في سلوكهم الإجرامي ، يتيح لهم النفاد بجلودهم مستقبلاً ، وضمان عدم تعرف الضحايا على وجوههم ، وأسمائهم .
- في الجانب الآخر من مديرية عبس بإتجاه منطقة بني حسن ، تحركنا فوق سيارة هايلوكس وصولاً إلى مخيم "المنجورة" وهي منطقة عارية تتناثر فيها الأجساد الجائعة ، كان المشهد مخيفًا ، الجميع في العراء ، عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والعجائز اضطرتهم الحرب التي شنها الحوثيون على الدولة والمجتمع إلى الابتعاد عن الرصاص والقذائف والصرخات المميتة ، جائعون ، مشردون ، ومرضى ! ، رصدت منظمة الصحة العالمية إصابة ثلاثمئة وخمسين نازحاً في "حجّة" وحدها بمرض الكوليرا .. بلغ عدد النازحين بمحافظة حجة بحسب تقرير المفوضية السامية للاجئين و منظمة الهجرة العالمية الصادر في أكتوبر 2016م أكثر من نصف مليون نازح، يتوزعون على ثمانين ألف عائلة ، منهم 134 ألف شخص نزحوا الى خارج المحافظة ، ويعيشون في مراكز جماعية أو مخيمات عشوائية ، وفي الوديان والجبال وتحت الأشجار ، ويتوزعون على أثنين وعشرين تجمعاً ، اثنان منها في مديرية عبس وهي أكبرها ، ومخيم في مديرية حيران وتسعة عشر تجمعاً في مديرية أسلم .
- كانت في استقبالنا والدة "ياسر عيسى الناشري" ، عجوز بيضاء رقيقة ، لها صوت غريب مثل صفير الرياح ، قالت بعينين أبيضّتا من الحزن "أن وليدها الطالب بكلية البترول في جامعة حضرموت تعرض للضرب بالأسياخ الحديدية والأسلاك الكهربائية ، ما أدى إلى أصابته بشلل كلي " ، استطردت منفعلة "سلموا لنا (ياسر) وهو ينزف من كل أنحاء جسده ، كان ملقى على الأرض بداخل بطانية في فناء بيت الشيخ الجبلي ، وبعد أيام فارق الحياة " ، كانت تحدثنا وهي تنظر إلى السماء ، لم تهتز ، رغم رقة كفيها وجسدها المغطى بعباءة سوداء ، أنا الذي ما عدت قادراً على سماع كل هذه الحكايات المخيفة ، أشحت ببصري بعيداً وبقيت صامتاً ، كان كل شيء كئيباً في هذه المدينة التي قال عنها "صديقي الدليل" أنها أفضل حالاً من غيرها ، حيث تعرضت مدن أخرى في نفس المحافظة وهي "حرض وميدي وبكيل المير وحيران ومستبأ " لموجة نزوح كامل جراء الحرب التي تحتدم على أطرافها بين قوات الجيش الوطني التابعة لحكومة الرئيس هادي ، وجموع المرتزقة الحوثيين وأنصار صالح . 
- في طريق مغادرتي قبل مغرب يوم 15 ديسمبر ، التقيت صديقي الحوثي بجوار مكتب البريد على الطريق الرئيسي لمدينة عبس – حسب إتفاقنا – ودّعت دليلي ، صعدت إلى سيارة "الأكوع" الذي بادرني بالسؤال عن نتيجة زيارتي الخاطفة ، كنت مختنقاً ، تناولت بعض أغصان القات من كيسه دون أن أنبس ببنت شفة ، مضغت القات بهدوء ، وأنا أراقب إنحسار الشمس على جبل دامغ شرق المدينة البائسة ، شعر بتضايقي ، جلسنا صامتين ، إلى أن ودّعني بالقرب من مزرعة مملوكة للرئيس السابق "علي عبدالله صالح" ، قال أنها تعرضت للقصف قبل أيام ، تمتمت بكلمات غير مفهومة ، وذهبت على متن دراجة نارية ، حتى وصلت إلى البحر ، لوّح لي مالك الزورق الكهربائي بيده اليمنى ، وتحركنا ، بكيت في صمت ، حتى وصلنا إلى ميدي ، قضيت الليل بطوله في معسكر الجيش الوطني التابع للشرعية اليمنية ، وفي الصباح الباكر غادرت إلى "جازان" ، كانت اليمن خلفي ، وأنا أعدو كمجنون هارب إلى حدود المملكة ، كنت أصرخ في داخلي : "الوحوش يلتهمون ما تبقى من إنسانية اليمنيين" ، تملكني حزن ما يزال طيفه في صدري ، ما زلت غاضباً .. أتمنى لو أني فقدت ذاكرتي مثل أولئك الضحايا التعساء ، فما أكتبه الآن لا يستطيع محاكاة الجريمة كما رأيتها .. هناك خلف حدود المملكة باتجاه الجنوب ، بلاد إسمها "اليمن" تواجه مذبحة مفتوحة ، تدمير وحشي ، إيذاء مخيف ، بها أشخاص لا يعبدون الله ، مجرمون منفلتون ، سطوة قاهرة ، عذاب بلا هوادة ، جحيم قبل ساعة القيامة