أسئلة فبراير..انحياز العسكر وحماية الثورة .
بقلم/ عبدالفتاح الحكيمي
نشر منذ: سنة و 10 أشهر و 14 يوماً
الأحد 12 فبراير-شباط 2023 06:49 م
 

لعل أبرز ما أنجزته ثورة ١١ فبراير ٢٠١١م في اليمن ليس زحزحة رأس النظام السابق عن السلطة، بل أكثر من ذلك القضاء على مراكز الاستقواء والأسناد العسكري الشخصي الذي احتمى به الرجل لاحقاً في محاولة عودته العبثية إلى الحكم بأي ثمن. ولولا هذا الإنجاز الوطني الأبرز لغرقت صنعاء بالجثث والدماء إلى النخاع بعد ذلك في واقعة ٢ ديسمبر ٢٠١٧م التي كانت محاولة أخيرة يائسة لكسر حصار حلفائه عنه،وليس لاستعادة قيم جمهورية مزعومة ظل بعيداً عنها طوال فترة حكمه.

لكن أبرز سلبيات الثورة هي تحويل مغنم الثورة إلى ملاذ انتهازي آمن لقطاع كبير من رموز النظام القديم وتكريس فلسفة التقاسم والمحاصصة الحزبية والمحسوبية على حساب شعارات العدالة الأجتماعية الزائفة.أجهزت ثورة فبراير المباركة على مصدر قوة النظام السابق من داخله بانحياز خيرة القادة والضباط العسكريين إلى صف الثورة وحماية عودها الطري من الكسر والأحتراق.

وبدون تغيير المعادلة العسكرية في الحدود الممكنة بقيت كل خيارات سحقها مفتوحة كما تجلت بشاعة ذلك في محرقة جمعة الكرامة. فلم يكن احتشاد ملايين اليمنيين السلمي في الساحات ذا قيمة في واقع معادلة كسر العظم بدون انحياز صفوة رجال الجيش والأمن. فعلي عبدالله صالح بعقليته الأجناسية الإنتقامية لم يكن بمستوى ووعي ومدنية وإنسانية الرئيس زين العابدين بن علي، ولا بعقلانية وثقافة حسني مبارك ليغادر الحكم بشرف وهدؤ دون إشعاله هذه الفتنة الخبيثة التي لم تنطفئ تداعياتها إلى اليوم .. ومن إسرافه في الإنتقام ارتدت حماقاته المدمرة عليه أكثر من غيره، وعلى أيدي الذين سلمهم مقاليد قواته وجيشه الخاص والرجال والمال ومخازن الأسلحة بمزاعم إحراقهم في طريق أوهام عودته المتخيلة إلى الحكم. أما الحوثة فكعادتهم المنتشية عندما يتخلصون من عقبة في طريقهم لخصوا طبيعة تقديرهم لتحالف صالح الهزلي معهم بعد تصفيته بأنهم(يطالبون فقط بثمن البطانية التي لَفُّوا بها جثته).

قد يكون هناك وجود أكبر لبعض الأحزاب في ثورة ١١ فبراير أكثر من غيرها، إنما ذلك يعكس خارطة مراكز القوى الحزبية السابقة وليس امتيازاً لهذه التكوينات، ولا تفضيلاً لها على غيرها من الكيانات الأقل وجوداً في الشارع السياسي اليمني، ولا هي موازية للكتلة التاريخية للمستقلين. كان نفير الثورة نتاج تراكم القناعات الفردية والجماعية وثقافة التغيير التي مهدت لها الصحافة اليمنية كقناعة راسخة ميزت تطلعات اليمنيين طوال القرن العشرين في البحث عن الأفضل ورفض الأستبداد والظلم والقهر.

وعندما يزعم البعض جدارته بالثورة، يعكس ذلك نزعة إقصائية لا تلغي حق الآخر المشارك بجدارة، بل تكشف انعزالية هؤلاء ؟ خرج يومها الإشتراكي ياسين سعيد نعمان إلى جانب الإصلاحي عبدالوهاب الأنسي، وزعيم الحزب الزيدي إلى جانب الشافعي ، وخرج معهم حتى صاحب حزب الناصري الذي كان الليلة الماضية في نعيم مقيل الزعيم يناقشون صفقة عودة عبدالعالم، والسلفي محمد المهدي ومحمد بن موسى العامري(حزب الرشاد) والقومي البعثي والمستقل وغيرهم تدافعوا، ومعهم من كان يسبح بحمد وشكر علي عبدالله صالح ويعتاش منه ليطالبوا برحيله.

أسباب وتراكمات *

ثورة فبراير الحقيقية نتاج نضال سياسي وثقافي وفكري وإعلامي طويل لعقود. وكنت بدأت بتدوين مقدمات عنها والعوامل الحقيقية المؤثرة في الإطاحة بحكم صالح، وأبرزها وصول الرجل وعقليته إلى طريق مسدود، هي مرحلة العناد الكبير الذي لم يتمكن معها من تجديد وإصلاح نظامه وأدواته ولا يرغب بذلك، عدا فقدان الإرادة والنية والأدوات الصالحة لذلك، ولا يستجيب لأدنى إصلاحات حقيقية في الجهاز الإداري ولا مؤسسات الحكم الأخرى، الأمن والقضاء والجيش والأنتخابات وغيرها. والأكثر من ذلك الأحتقان الشعبي والحزبي والسياسي الكبير جراء رفض صالح تغيير نظام الانتخاب النيابي إلى القائمة النسبية بدلًا عن نظام الدائرة الفردية المغلقة، والإصرار على احتكار السلطة بالبرلمان والجيش العائلي والوظيفة الحكومية والمال العام وباقي الأجهزة. والأسوأ إن علي صالح عزم قبيل الإنتفاضة الشعبية ضده بشهرين فقط على إجراء انتخابات نيابية من طرف واحد ، واستعمال مسمى التنظيم الوحدوي الناصري إلى جانب جماعة مقيل عبده الجندي باسم أحزاب المعارضة لشرعنة المهزلة.!!. والسؤال الكبير بعد كل هذه السنوات التي تعرضت فيها ثورة ١١ فبراير لابتزاز المنتفعين والمتكسبين الحزبيين وذيولهم. تساءل عامة الناس والسياسيون والنخب في ذروتها الشعبية وحتى الآن لماذا لم يقمع الرئيس علي عبدالله صالح الثوار، ولديه كل تلك المعسكرات والأسلحة الثقيلة المكدسة وأجهزة القمع وفرق الأغتيالات..؟؟. وأضاف أحدهم إن مقارنة قدرات وإمكانيات خصوم صالح العسكرية المحدودة من بيت الأحمر وعلي محسن محسومة لصالحه.. ترى هل كان الرئيس صالح رحيماً ومتسامحاً إلى درجة السذاجة أم أن خيوط اللعبة خرجت عن السيطرة.. ؟.

. * إنهيار معنويات الزعيم *

كل معسكرات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة والأمن المركزي المكدسة وسط وحول العاصمة صنعاء كانت تعني لا شيء عند الرئيس صالح الذي فقد ثقته بكل من حوله من حلفاء تاريخيين برزوا في مقدمة الثورة الشعبية، فالذين صنعوا سلطته وكانوا جزءاً منها هم في الصف المواجه، والمسافة بين الوحدات العسكرية الحليفة والمنشقة تُرى بالعين المجردة ومنعدمة غالبا،ً واشتباكها المسلح لا يقاس بقلة أو كثرة مؤيدي هذا الفريق أو ذاك. أِصطدمت رغبة علي عبدالله صالح الدفينة في سحق الثوار بمعادلة وضع نفسه في مواجهة الوحدات والجماعات الموالية للفريق الركن علي محسن الأحمر، حتى إن صمود مقاومة بيت الأحمر في الحصبة ليس بتلبية مجاميع قبلية من عمران موالية لصادق وحميد وحسين، إذ استند تغيير موازين القوى إلى دعم سخي ومباشر من قيادة الفرقة الأولى مدرع بقيادة الفريق الركن علي محسن الأحمر، التي هرع ضباطها ومساعدوهم لتصويب فوهات البندقية وترتيب انتشار القبائل في مساحة ضيقة من الحَصَبة أفحمت حسابات صالح وجعلت الرسم البياني لتوجهات المعركة بنفس النتيجة. شكل ذلك عامل صدمة نفسية كبيرة لرجل لم يتصور أن قبيلته أول من سيقف ضده بكل عنفوان وبلا حدود. يدرك علي صالح قدرات وقناعة قوات يقودها أبناؤه وأبناء إخوته رغم ترهلها، فتوسع الجرح وتعمقت إرهاصات الهزيمة المعنوية واهتزاز ثقة الزعيم بكل من حوله، ليستدعي في شخصيته روح المعاند ومعاودة الكرة ولعق الجراح والتظاهر بالتماسك والثقة والثبات.

فقد الرجل ثقته بكل من حوله، قيادات وحلفاء أساسيين كبار لكنه كان يمني نفسه الأحتماء بمظلة شعبية في ساحة التحرير طالما خذلته نفسها ولم تنفعه لا يومها ٢٠١١م ولا بعدها ٢٤ أغسطس- ٢٠١٧م عندما لم يضمن له حلفاؤه الحوثيون الجدد طريق عودة آمن إلى منزله بعد القاء خطاب هزيل فرضوه عليه بعد اكتشافهم نوايا مضادة منه مغطاة بحشد مليوني هو الأكبر والأخير في حياة صالح. لم يستسلم الرجل لموقعة الحصبة مع بيت الأحمر ومواجهات شارع الزبيري مع وحدات من الفرقة الأولى مدرع، لكنه تأكد بعد حادثة دار الرئاسة إنه لم يتبقَ معه حليف أو صديق قوي، وزاد فشل خطة اغتيال علي محسن الأحمر الغادرة ضمن غطاء وساطة للصلح من صدمته عندما أفشل أرحم الراحمين مهمة القاتل الذي قابل الرجل وجهاً لوجه واخطأه بذهول؟.

لم تؤثر تفجيرات مسجد دار الرئاسة لاحقاً في نفسية علي عبدالله صالح أكثر من اكتشافه تخلي أبرز المحيطين به من كبار القادة العسكريين المؤثرين وشيوخ القبائل، إلى قيادات المؤتمر الشعبي والديبلوماسيين في الخارج الذين انضموا إلى ساحات الثورة، وألى خطيب وقيم مسجد الرئاسة ، وإلى الحراسات الشخصية التي جرت تصفية أفرادها كانتقام بشع بأوامر مباشرة من أحمد علي عبدالله صالح ليلة الحادثة الرهيبة.

الرئيس صالح لا يميل إلى الدماء كما يشيعون لكن خصومه لا يسلمون من مكره وخداعه، وعندما سقط شهداء جمعة الكرامة ال ٥٤ في لحظات في مارس ٢٠١١م رَوَّج بقايا نظامه لوجود طرف ثالث وهمي وراء المحرقة البشعة، لكن ما اعتبرته بقايا أجهزته ومنتفعيه مكيدة شيطانية مبهرة بايعاز منه لقهر صمود الثوار ودفعهم للأنسحاب ارتدت على بقايا النظام بأسوأ التوقعات وانتقال زحف الثوار السلمي من شارع الستين والزراعة والنهضة باتجاه القصر الجمهوري القديم حيث تجمعات الدفع المسبق لمؤيدي صالح.

* مفاجأة صالح *

غير أن صالح الذي امتص كل شيء ضده وتظاهر بقبول المبادرة الخليجية والتنازل عن السلطة أعاد ترتيب أوراقه لساعة الصفر والضربة القاضية، فتحالف مع الحوثيين للقضاء على خصومه، ونجح مؤقتاً في الإطاحة بسلطة الثورة وإقصاء بيت الأحمر ليرتد عليه ذلك بأسوأ مما كان عليه وضعه من تكريم بعد ثورة فبراير، والنهاية والواقعة معروفة فيما يسمى حركة ٢ ديسمبر التي انفض من حوله باقي من تظاهروا بالموت من أجله.

هكذا تبدو ملابسات ثورة فبراير كبيرة، أحرى باعادة القراءة والسرد والتوثيق بعيداً عن ثوار الفيس بوك وانستغرام، ومن يبحثون عن أمجاد شخصية على ذمة أوهامهم، وتصديق ما يعرفون إنه ليس الحقيقة بالمطلق، وإن حبل الكذب قصير.. وتبقى أبرز الحقائق على هذا الحدث الوطني الكبير إن الدور الذي لعبته القيادات العسكرية الوطنية في حماية الثورة ممثلة بالفريق الركن علي محسن الأحمر نائب رئيس الجمهورية السابق أفشل رهانات وأد وتصفية نظام صالح للثورة أكثر من أي عوامل وملابسات أخرى تعتبر ثانوية.

وظهر الحوثيون بعد ذلك كمركز قوى بديل ومنافس لغيره بفضل تمكين صالح لهم وليس بسبب ثورة فبراير. أما الذين يزعمون إن إزاحة صالح عن السلطة تسبب بنكبات اليمن الحالية فيهربون كثيراً من حقيقة إن علي عبدالله صالح نفسه بعقليته المعروفة وتمكينه لمشروع الحوثة تسبب حتى بمقتله الشخصي بتلك الطريقة الهزلية والمثيرة للدهشة إلى اليوم.

ولعل كل ما حدث بعد ٤ سنوات من ثورة فبراير المباركة منذ يناير ٢٠١٥م وقبلها بأشهر من انتكاسات وحروب متلاحقة ودمار كان نتيجة للروح الإنتقامية المتهورة ولتحالف الشر بين من يزعم الدفاع الجمهورية مع بقايا الكهنوت ونظام الخميني.

وللموضوع بقية بأذن الله تعالى.