صراع محموم خلف نمور من ورق في مسار المبادرة الخليجية

الخميس 01 ديسمبر-كانون الأول 2011 الساعة 05 مساءً / مأرب برس – أكرم مراد
عدد القراءات 10710
 
 
وشهدت العاصمة الرياض توقيع الرئيس اليمني على المبادرة الخليجية. وقّع صالح على بقائه رئيسًا شرفيًا لمدة 90 يومًا, وأكثر من ذلك على انتقال سلطاته إلى نائبه وانتهائه إلى سلة الرئيس السابق فور إجراء الانتخابات المبكرة. وأتى التوقيع بعد عناء كبير وخشية من عناء أكبر من دخول نطاق البند السابع لمجلس الأمن على قارعة مسار الثورة اليمنية.

ولوحظ صالح عند السابعة من مساء الـ23 من نوفمبر يبتسم, لا بل يَضحك أو كأنه يُضحك نفسه. والأمر هنا لا يبتعد مسافةً عن الحرب النفسية ورفع معنويات الحلفاء في الداخل, أو ربما يكون الأمر بالفعل أضحوكة منذ البداية.

تسعون يومًا رئيسًا شرفيًا, فيما الفريق عبدربه منصور هادي رئيسًا بالإنابة وأيضًا رئيسًا توافقيًا في الانتخابات الرئاسية المبكرة المزمع إجراؤها في الـ21 من فبراير المقبل.

وقبيل التوقيع قال الأمين العام للأمم المتحدة إن الرئيس اليمني (الشرفي) أبلغه بمواصلة علاجه في مدينة نيويورك الأمريكية, الأمر الذي استدعى الفهم على أن صالح لن يعود إلى صنعاء. وفجأة, كتلك التي شهدها فجر الـ20 من سبتمبر المنصرم, أُعلن عن عودة صالح. وحين تحدث الرجل أمام عدد من قيادات حزبه وحكومة تصريف الأعمال, وبحضور نائبه – أو الرئيس بالإنابة - لم تكن نبرته لتدل على أنه رئيسًا شرفيًا في طريقه لتوديع الحياة السياسية بعد 3 أشهر. وهنا نقف مع أول تبييت.

ووفقًا للمبادرة الخليجية, اختارت المعارضة السبعيني محمد سالم باسندوة لرئاسة حكومة الوفاق الوطني في مستهل طريق بناء اليمن وإعادة إعمار ما دمره الصراع. وتقول المبادرة إن حكومة المرحلة المقبلة ستشكل مناصفة بين المؤتمر وحلفائه واللقاء المشترك وشركائه.

ساحات الحرية والتغيير في تعز وصنعاء وغيرها من محافظات الجمهورية الثائرة ظلت تنادي ومنذ سقوط أول شهيد في ساحة المنصورة بعدن في الـ16 من فبراير بمحاسبة مرتكبي جرائم القتل ضد المتظاهرين ومعاقبتهم. ومن مطالبتهم بتنحي صالح وإسقاطه منذ أول مظاهرة في تعز في الـ11 من فبراير إلى مطالبتهم بمحاكمته وأركان نظامه ومعاونيه بعد مقتل المئات وإصابة الآلاف من الشباب والنساء والأطفال والشيوخ هنا وهناك, إلا أن الحل السياسي (المبادرة الخليجية المدعومة دوليًا) تجاهل تمامًا مطالبًا من هذا النوع, ولم يعط صالحًا الحصانة فحسب, بل وأعطاه أيضًا الشراكة في الحكم, وهو لا يزال رئيسًا للبلاد إنما تحت مسمى «الرئيس الشرفي».

وفيما لا تزال وسائل إعلام المعارضة تُرضي المتظاهرين وأسر الشهداء بأن محاكمة صالح أمر لا بد منه, وأن تكتيك الحل السياسي ما هو إلا إضاءة في الطريق الصحيح نحو إكمال أهداف الثورة, قبلت هذه الأحزاب, وفقًا لتوقيع تشرين الثاني في الرياض, بمشاركة صالح وحزبه تشكيل الحكومة المقبلة. وفيما سيرأس الحكومة سالم باسندوة, فإن وزارتي الدفاع أو المالية ستكون من نصيب حزب صالح, مقابل الداخلية أو الخارجية للطرف الآخر, في إطار تقاسم الحقائب الوزارية السيادية وغير السيادية الـ34.

ببساطة في الإقناع يؤول لسان حال المعارضة إلى القول بأنها اختارت أقل الطرق كلفة للتغيير في اليمن. وهي بذلك ستسعى إلى إكمال أهداف الثورة بالتدرج السياسي, وعن طريق الانتخابات, والبرلمان.

لكنما الأمر لا يتوقف عن دغدغة وجدان نبض الشارع ببساطة من هذا النوع. وما تخفيه التسوية السياسية أن المعارضة لم تذهب إلى الرياض إلا وهي تعلم أن ما تقدم عليه هو تقاسم وشراكة وحل سياسي لا صلة له بالثورة, ولا يعبر بأي شكل من الأشكال عن تطلعات الأداة الثورية للشباب.

فـ لماذا تجاهلت المعارضة مطالب الشباب, ووافقت على منح الحصانة لصالح؟

يجبرنا الحديث هنا إلى إعادة النظر إلى انضمام القوى العسكرية والقبلية للثورة, وإلى طريقة انضمامها, وما جرى بعدها. وينط أماما الـ21 من مارس 2011 حين أعلن اللواء علي محسن الأحمر – قائد الفرقة الأولى مدرع وقائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية – وكثير من الجنرالات العسكرية والدبلوماسيين والسياسيين إلى الثورة. كما وهناك الـ17 من أغسطس – إعلان المجلس الوطني برئاسة باسندوة, وأحداث أخرى شهدتها مدينتا صنعاء وتعز.

في مارس المنصرم وبعد جمعة الكرامة التي راح ضحيتها المئات من الشباب بين قتيل وجريح, أعلن علي محسن صالح الأحمر ما سماه تأييده السلمي للثورة. كثيرة من الاستقالات قدمت, ومن الشخصيات التي انضمت للثورة. وبدأ الأمر يخرج من نطاق الساحة, حيث الثورة الشبابية تريد إسقاط النظام بمن فيه من المنشقين, إلى مواجهة عسكرية سياسية داخل الأداة العتيقة للنظام ذاته. وتم حصر شباب الساحة بين قوات الفرقة الأولى مدرع وبين أجهزة علي صالح الأمنية والعسكرية.

وإلى جانب انشقاق قوات من الجيش اليمني, كانت هناك الجماعات الدينية التابعة لحزب الإصلاح بقيادة عبدالمجيد الزنداني, وأيضًا كانت هناك القبائل. فشيخ مثل صادق الأحمر أعلن تأييده للثورة السلمية, ودارت بين عناصره وأجهزة النظام العسكرية والأمنية مواجهات ضارية في حي الحصبة بصنعاء أتت على عدد من المنازل والمؤسسات والمقار الحكومية والمحلات التجارية, إلا أن أيًا من أفراد عائلة الأحمر لم يصب بأذى.

وخطوة مثل انشقاق الجيش وموالاة قبائل حاشد بقيادة صادق الأحمر لـ الثورة لم تؤدي إلى القضاء على النظام أو إضعافه. فوجد الأخير متسعًا من المراوغة السياسية واللعب بأوراق عدة أمام المصالح الدولية والإقليمية, وأكسبه ما حدث وقتًا استعاد فيه ترتيب صفوفه على نحو أفضل بكثير مما كان عليه يوم الـ10 من مارس حين أعلن صالح – منهارًا - استعداده لصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات مبكرة بنظام القائمة النسبية بل والتلويح بقبول دولة مركبة.

ولم يكن الـ21 من مارس إلا مقدمة لحالة من الفرز السياسي العسكري لمراكز القوى التي كانت تتصارع وتتآكل قبل اندلاع الثورة كنتيجة طبيعية, أي صراع القوى, لشيخوخة نظام صالح, وانتقال الصراع من الجيل الأول إلى الذي يليه (الأبناء).

وكانت إحدى نتائج الانشقاقات في ذات النظام عزوف أغلبية الشعب اليمني إلى الصمت. وتحول ساحة التغيير في صنعاء إلى ورقة سياسية بيد المعارضة (الحزبية وغير الحزبية), فيما كانت محافظة تعز (معقل الثورة الشبابية اليمنية), جنوب غرب اليمن, قد شهدت هي الأخرى صراعًا عسكريًا بين أجهزة النظام وقوى قبلية مسلحة وعسكرية قالت إنها تحمي شباب الثورة.

وحين تعرض صالح ومجموعة كبيرة من أركان نظامه لمحاولة الاغتيال الشهيرة في جامع النهدين في جمعة الثالث من يونيو, ورحيل من أصيب إلى العاصمة السعودية الرياض, كان الأمر على أرض الواقع لم يتغير, وأصيبت الساحات بمفعول انتصار وهمي. وحين عاد صالح إلى صنعاء خاطب معارضيه: ماذا صنعتم طيلة أكثر من ثلاثة أشهر؟

ولأن أدوات القتل لم يحتفظ بها النظام لنفسه, واستدرج قوى أخرى (قبلية وعسكرية) لتشاركه فيما يجري, كانت إحدى الثغرات قد تسللت ليستفيد منها نظام صالح.

لن يقلل أحد من تأثير القوى العسكرية والقبلية على الخيار السياسي للمعارضة. التأثير الذي بدأ ويبدو واضحًا والذي من خلاله لم تشأ المعارضة الإصرار على محاكمة ومحاسبة نظام صالح حتى لا تتم محاسبة ومحاكمة الأطراف المحسوبة على الثورة, أو على الأقل من تعهد بأنه سيخضع لمحاكمة عادلة. فتعهده يبطله إعطاء الحصانة لصالح ونظامه.

وفي مقابل دفع النظام بـ عبدربه منصور هادي, كشخصية توافقية كـ كرت للواجهة, ونقل سلطات الرئيس إليه, وبما هو معروف عنه من شخصية غير قوية وحضور يكاد يذكر, دفعت قوى المعارضة بشخصية مماثلة هو محمد سالم باسندوة والذي يتميز بمواقف سياسية متذبذبة وحضور سياسي ضعيف للغاية. ونفهم أن النظام لم يتخل عن هادي نائبًا للرئيس منذ العام 1994, فيما لم تجد المعارضة لرئاسة لجنتها التحضيرية للحوار الوطني (2009), ورئاسة المجلس الوطني لقوى الثورة (2011), ورئاسة حكومة الوفاق الوطني إلا باسندوة. والمعلوم أن من وراء هاتين الواجهتين – هادي وباسندوة – يستمر صراع محموم بين مراكز القوى (عسكقبلية في المقام الأول) استمرارًا للتآكل الذي بدأ ينخر جسد النظام الذي تكون من القوى ذاتها. ففي النظام تقف شخصيات, وفي مقدمتها أحمد علي عبدالله صالح – النجل الأكبر لصالح وقائد الحرس الجمهوري وقائد القوات الخاصة – بالمكانة الأكثر تأثيرًا وامتلاكًا للقرار العسكري والسياسي, فيما تقف شخصيات مماثلة في الصف المقابل من مراكز القوى, وفي مقدمتها دوامة الأحمر العسكرية القبلية الرأسمالية, بأمكنة مؤثرة وتملك فعليًا القرار السياسي والعسكري داخل أطر المعارضة اليمنية.

ومعلوم بوضوح الأدوات التي ارتكز عليها نظام صالح طيلة أكثر من ثلاثة عقود, داخليًا, وهي الأدوات ذاتها القبيلة والدين والجيش. وذات الأشخاص والقوى والمراكز لا تزال تتصارع مع بعضها وفقًا للهوة التي أصابت جدار المصالح المشتركة فيما بينها.

ولطالما كان من شأن الإصرار على محاكمة صالح وأركانه أن يؤدي إلى محاكمة كل القوى ومراكز النفوذ الأخرى, كان من الأرجح بل والمؤكد أن القوى المتصارعة هذه ستجد لنفسها مخرجًا بإعادة صياغة التحالف القديم على نحو يمكنها من تقاسم المصالح ويجنبها الوقوع في شرك الثورة الشبابية.

وإضافة إلى نقاط الضعف التي تسللت إلى المعارضة واستفاد منها نظام صالح وجنّب نفسه, بضمانات إقليمية أممية, المحاكمة عما ارتكبته أجهزته العسكرية والأمنية بحق الشباب والمظاهرات السلمية, ثمة نقاط أخرى قد تبدو أكثر أهمية, وهي بقاء نسبة كبيرة من الجيش اليمني مواليةً لنظام صالح, وفي مقدمتها قوات الحرس الجمهوري ذات الكفاءة القتالية العالية.

على أن كل هذا الصراع الدائر من المستبعد أن تنهيه اليوم الحلول التي قدمتها المبادرة الخليجية, فنوازع الانتقام لا تزال سارية حتى في حال الحديث عن حسن النوايا. ومن الملاحظ أيضًا أن وسائل إعلام الطرفين هي الأخرى تؤكد مسار الشك هذا.

وعلى أرض الواقع لا يوجد ما يمنع الرئيس صالح من اتهام قوى المعارضة بعدم الالتزام بما ورد في الآلية المزمنة للمبادرة الخليجية وبالتالي تخليه عن شرط تنحيه بعد 90 يومًا. ولن ينتظر أحد من شخص عبدربه منصور هادي موقفًا حازمًا رادعًا لصالح في حال قيامه بخطوة مماثلة.

وعلى فرض أن القوى التي تدخلت في الشأن اليمني إقليمية كانت أو دولية, لا تريد إلا أن يذهب الجميع إلى الالتزام بالحل السياسي الخليجي, فهل ستمنع, تلك القوى, الفريق عبدربه منصور هادي من الخضوع لإرادة الرئيس المتنحي طالما كان هذا الأخير ممسكًا بورقة الجيش ووزارة الدفاع والمالية, ولا يزال محتفظًا بمعظم قواته العسكرية؟

والمرحلة المقبلة طويلة وشاقة, ومحمومة بالصراع خلف النمور الورقية. إلا أن ثورة الشباب اليمني لم تكن نتائجها كما يريد الشباب طالما كان هناك من يتحكم بالقرار السياسي عبر تحكمه بالقوة العسكرية والمال.

ولأفق الحل السياسي خيارات أخرى, منها اقتناع الشباب بفعالية الأداة السياسية ودخول الانتخابات البرلمانية عبر الأحزاب ذاتها, يمينية ويسارية, أو إنشاء أحزاب جديدة وفق دستور جديد, مع الانتباه إلى ضرورة بقاء الأداة الثورية لضبط إيقاع العملية السياسية.

لكن السؤال المحوري هو كيف سيواجه الشباب, بالأداة السياسية, مافيات المال والقوى العسكرية ومراكز النفوذ ليخوضوا خياراتهم السياسية إن قبلوها؟

على أن السؤال الذي تسبق أهميته السؤال السابق هو ماذا إذا لم يقبل الشباب بالحل السياسي واستمروا في الساحات؟ غير أن سؤالًا على هذا النحو تقول إجابته, على الأرجح, إنه إن كان الشباب قوة فعلية مؤثرة فسيعيدون صياغة الحل السياسي على نحو أمثل, أما إذا ما بقيت النسب الضئيلة فقط هي المتمركزة بالساحات فلن ينتظر الشباب إلا أن يشارك الجميع قرار إخلاء الساحات؛ نظرًا لمصلحة الشعب!.

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن