خفايا وحقائق صادمة لا نعرفها عن هجرة يهود اليمن الى فلسطين.. كيف عاملتهم إسرائيل بعنصرية وخدعتهم بإكذوبة ''أرض الميعاد''؟

الخميس 16 مارس - آذار 2023 الساعة 01 مساءً / مأرب برس- بلال الشقاقي/رصيف22
عدد القراءات 2571

أثناء الحكم التركي لشمال اليمن، وضع الوالي العثماني إسماعيل حقي باشا إعلانات على منازل اليهود، تُفيد بأنه سيسمح لهم بالهجرة وشراء الأراضي في فلسطين. تزامن ذلك مع انتشار شائعات في أوساط يهود اليمن بأن البارون اليهودي الثري جيمس ماير روتشيلد اشترى أراضيَ في فلسطين ويعزم على توزيعها على اليهود القادمين من اليمن.

في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأت البوادر الأولى لهجرات اليهود اليمنيين إلى فلسطين. كان أغلبها بدافع ديني بحت مرتبط بإيمان بعض اليهود حينذاك بقرب ظهور المسيح المنقذ، بجانب دوافع أخرى عززتها الشائعات التي كانت تتردد في أوساطهم، والتي كان لها الأثر الأكبر في هجرة عدد لا بأس به من يهود صنعاء والأماكن المحيطة بها خلال عامي 1881 و1882.

استقر جزء من المهاجرين في يافا وسكن آخرون في حي خاص بالحرفيين في سلوان، واستمرت موجاتهم في التدفق والاستيطان لكن بأعداد قليلة، بحسب عرض أستاذ التاريخ اليهودي والمؤرخ الإسرائيلي صموئيل أتينجر، في كتابه "اليهود في البلدان الإسلامية" (صدرت ترجمتع العربية عام 1978).

الهجرة المنظّمة ليهود اليمن

لكن العمل المنظم على هجرة يهود اليمن جاء بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الثامن، في لاهاي، عام 1907. تقرر فيه البدء بعمليات الاستيطان في فلسطين. وكان من أهم ما نُفّذ من قراراته تأسيس مكتب فلسطين في يافا، عام 1908، للعمل على استحضار جالية يهودية يمنية تحل محل العمال الزراعيين العرب في المستعمرات اليهودية.

أوائل العام 1911، أُوفد صموئيل بن أليعزر يافينلي إلى اليمن، لتشجيع وتنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين. قضى يافينلي سنتين وهو يتنقل بين يهود اليمن، مستغلاً مشاعرهم الدينية تجاه الأرض المقدسة، وحاملاً أخبار الاستيطان الصهيوني في فلسطين إليهم. ونتيجة لذلك، ارتفعت معدلات الهجرة بين عاميْ 1923 و1930 عمّا كانت عليه في الأعوام التي سبقتها، ووصل عدد اليهود اليمنيين الذين هاجروا خلال تلك الفترة إلى 2500 شحص، استقر معظمهم في المستعمرات الزراعية في القسم الشمالي من الضفة الغربية (السامرة) والخليل، للعمل كمزارعين.

ويذكر المؤرخ والمستشرق اليهودي رافائيل باتاي Raphael Patai، في كتابه "إسرائيل بين الشرق والغرب" Israel Between East and West، الصادر في لندن عام 1953، أن عدد اليهود اليمنيين الواصلين إلى فلسطين، خلال فترة الاحتلال البريطاني (1917 – 1948) بلغ حوالي 15360 شخصاً، أي حوالي 4% من مجموع الهجرة اليهودية قبل العام 1948.

كانت هجرة يهود اليمن سرّية في تلك الفترة، فبعد أن باعوا ممتلكاتهم لقاء مبالغ زهيدة أو تخلوا عنها، بدأوا بالزحف خلسة. كانوا يغادرون ليلاً سيراً على الأقدام، ويختبئون نهاراً في الكهوف وبين الصخور. وكانت منافذ الخروج الرسمية من شمال اليمن محظورة عليهم، لذا كان عليهم إما أن يجدوا طرقات غير رسمية أو أن يقدّموا الرشاوي على منافذ العبور نحو عدن، والتي كان يسيطر عليها البريطانيون.

قبل وصولهم إلى عدن، لقي المئات منهم حتفهم على جنبات الطرقات، ومَن استطاع منهم الوصول، لم تنتهِ معاناته، فبعضهم لم يبقَ لديه مال كافٍ لدفع أجرة السفن، وآخرون كان عليهم الانتظار واستنفاد كل ما يملكونه للحصول على شهادة الهجرة، والتي أصبحت بعد العام 1939 محدودة ومحصورة باليهود الفارين من ألمانيا.

عدن... البوابة الرئيسية لهجرة يهود اليمن

في العام 1929، قرر المؤتمر الصهيوني الـ16 المنعقد في مدينة زيوريخ السويسرية إنشاء مكتب في عدن للمساعدة في تسهيل هجرة اليهود اليمنيين، مع التركيز أكثر على أصحاب المهن. وأكد القرار على العمل على نقل الأطفال اليتامى الموجودين هناك إلى إسرائيل.

إثر ذلك، أُرسلت بعثة جديدة إلى اليمن برئاسة كل من غرشون أغرونسكي وأبراهام طبيب، وكانا يتزعمان اتحاد المهاجرين اليمنيين في فلسطين. وفي الأول من نيسان/ أبريل 1930، وصلت البعثة إلى عدن. وكانت مستعمرة عدن هي البوابة الرئيسية لهجرة اليهود اليمنيين، وعن طريقها حافظت الوكالة اليهودية على صِلاتها معهم، وفيها كانت تؤمَّن لهم تصاريح الهجرة.

في كتابها "يهود اليمن" (1999)، تذكر أستاذة التاريخ في جامعة دمشق، كاميليا أبو جبل، نقلاً عن يشياهو (يسرائيل)، وكاتب يهودي من أصل يمني، كتب كتاباً حمل نفس الاسم وصدر بالعبرية عام 1975، أنه بعد 13 يوماً من مكوثها في عدن، أرسلت البعثة تقريرها الأول إلى الوكالة اليهودية في القدس، بتاريخ 13/4/1930، شددت فيه على إلغاء القيود المتعلقة بعمر المهاجرين ورفع العمر من 35 إلى 45 سنة.

واستندت البعثة على شهادة الدكتور بريسكو، طبيب القوات الجوية الإنكليزية في عدن، والتي أفاد فيها بأن العمر ليس عاملاً حاسماً بالنسبة إلى اليمني، حيال التكيف مع العمل، لأن اليمني ابن الـ45 إذا كان سليم البدن يُعتبر مؤهلاً للعمل الجسدي أكثر من اليهودي الأوروبي ابن الـ35. وعليه، طلب التقرير استثناء مهاجري اليمن من القاعدة المُقرة لعمر المهاجر. وهذا الأمر يشي بأن الهدف الرئيسي للوكالة اليهودية لم يكن إنقاذ يهود اليمن، بل تأمين مادة بشرية مطواعة محرومة من كل شيء وتقبل بما تفرضه عليها قيادة المشروع الاستيطاني في فلسطين، من أعمال يرفضها يهود أوروبا.

بعد تدافعهم للركوب على متن طائرات عملية "البساط السحري" مدفوعين برغبة دينية جارفة لرؤية "أرض الميعاد"، صُدم اليهود اليمنيون بالحقيقة المؤلمة التي كانت تنتظرهم في تلك الأرض، فقد وضعوا في أماكن منعزلة "بحجة أنهم أغبياء وقذرون"

بعد ثلاثة أشهر، أرسلت البعثة تقريرها الثاني بتاريخ 30 حزيران/ يونيو 1930، أقرت فيه بتشكيل مجموعات مختصة بتهريب الأيتام وصغار السن من الشمال إلى عدن، عبر طرق متعرجة لم تكن مألوفة سابقاً، وتستغرق الرحلة فيها عشرين يوماً. وذكر التقرير أن هذه الطريقة كانت تتطلب أموالاً أكثر لدفع الرشاوي للسلاطين والحكام في بعض المقاطعات.

ورسم التقرير لوحة مأسوية للوضع الذي كان يعيشه المهاجرون والمآسي التي يتعرضون لها جراء الرحلة الشاقة من شمال اليمن إلى جنوبه: "يصل المهاجرون وهم منهكون وعيونهم غائرة في جماجمهم". ويفرد التقرير فقرات واسعة للحديث عن ازدحام المهاجرين في عدن داخل أقبية لا تليق بسكن البشر وعن أنهم يتعرضون لخطر الموت بسبب إفلاسهم ونفاد أموالهم، حتى تلك التي حصلوا عليها بعد بيع ممتلكاتهم.

ويذكر رئيس لجنة التوزيع الأمريكية اليهودية المشتركة، العاملة حينها في عدن، جريتزل بايزل، في مذكراته نقلاً عن أحد المهاجرين في عدن قوله: "لقد تم إغراء عدد كبير من اليهود بمغادرة اليمن، على أمل الوصول إلى فلسطين بعد ذلك. لقد وصلوا إلى عدن ليجدوا أن إمكانية واحتمال الحصول على شهادات الهجرة إلى فلسطين، ليست بالسهلة. ولأنهم لا يملكون مصادر للعيش فقد ناموا في الشوارع والكنس والخرائب"، بحسب ما نقله عنه المؤرخ اليهودي الأوكراني جوزيف شيختمان (Joseph Schechtman)، في كتابه "على أجنحة النسور" (On Wings of Eagles) الصادر في نيويورك عام 1960.

معسكرات للهجرة

بعد تمنّع طويل من والده، سمح ملك اليمن الإمام أحمد بن يحيى لرعاياه من اليهود بمغادرة البلاد بحرية تامة، بعد بيع ممتلكاتهم ومنحهم كل التسهيلات الممكنة للمرور. جاء ذلك بعد أن نشرت الوكالة اليهودية مندوبيها في مناطق التجمعات السكنية اليهودية، للدعوة إلى الهجرة وتنظيمها بسرية تامة، وتواصلها مع السلطات البريطانية في عدن، من أجل تأمين إنشاء معسكرات للمهاجرين، والتوسط لدى سلاطين المحميات بالسماح لهم بالمرور عبر أراضيهم.

هكذا، تدفقت إلى عدن مجموعات متوالية من المهاجرين اليهود من جميع أنحاء اليمن والمناطق المجاورة، وأقيمت لهم معسكرات في حاشد والشيخ عثمان بمساعدة السلطات البريطانية. كما وُضعت حراسة مشددة على هذه المعسكرات وأحيطت بالأسلاك الشائكة، لمنع تسلل المهاجرين اليهود إلى عدن. وتذكر كاميليا أبو جبل أن عدد اللاجئين اليهود في عدن ومعسكري حاشد والشيخ عثمان كان حينها حوالي 700 شخص.

كانت هذه المعسكرات بؤرة خصبة للعصابات والجريمة المنظمة. وعملت عصابات منظمة في معسكري حاشد والشيخ عثمان، بعدة طرق، على إخفاء الأطفال اليمنيين الذين أصيب ذووهم بخيبة أمل، بعد أن وضعوا ثقتهم الكاملة بين يديّ أطباء وممرضات المعسكرين، حسبما ورد في العدد الـ17 من مجلة "دارسات يمنية" الصادرة في عام 1984.

"كانت الأسر اليمنية تُنقل إلى أماكن هي في الغالب مكوّنة من أكواخ من التنك والخشب، في حين كان يجري توطين اليهود الغربيين إما في الشريط الساحلي أو في مستوطنات ذات مباني حديثة"

بعد إعلان قرار التقسيم في فلسطين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أُعلن في عدن إضراب شامل تأييداً للشعب الفلسطيني ضد قرار التقسيم، شارك حتى يهود عدن فيه، وخرجت تظاهرات ضد الاستيطان الصهيوني في فلسطين، لكنها تحولت بفعل الهياج الشعبي والمندسين إلى مهاجمة أحياء اليهود في كريتر والشيخ عثمان.

تدخلت القوات البريطانية لإخماد هذه التظاهرات وحماية اليهود، ونقلت معظمهم إلى معسكر حاشد. ووفقاً لتقرير بريطاني أعدّته لجنة تحقيق في الحوادث، قُتل 82 يهودياً وجُرح 76، وفي الطرف الآخر قُتل 38 شخصاً وجرح 87. واستغلت الوكالة اليهودية هذه الأحداث لتهيئة الظروف لهجرة اليهود اليمنيين الكبرى عام 1948.

الهجرة الجماعية ليهود اليمن (البساط السحري)

في الـ16 من كانون الأول/ ديسمبر 1948، غادرت أول مجموعة من يهود اليمن مطار عدن، وتولت "اللجنة الأمريكية اليهودية المشتركة" مهمة نقلهم جواً في عملية عرفت باسم "البساط السحري". يذكر جوزيف شيختمان في كتابه المذكور سابقاً أن هذه العملية بلغت تكلفتها 4.5 ملايين دولار، وتمت عبر 430 رحلة جوية، على متن 12 طائرة، كانت تطير على مدار اليوم. وبلغت المسافة التي تقطعها هذه الطائرات بين مطاري عدن واللد 1760 ميلاً، وكانت الرحلة الواحدة تستغرق ثماني ساعات، وبلغ عدد الجهاز الفني المسؤول عن هذه الرحلات العامل في مطار عدن حوالي 70 شخصاً.

يصف الطيار الأمريكي المشارك في هذه العملية إدوار مارتن صعوبة الممر الجوي الذي كانت تسلكه الطائرات بقوله: "كانت الطائرات تنطلق في ممر ضيّق فوق صحراء النقب حتى إيلات ومن هناك باتجاه خليج العقبة حتى البحر الأحمر ثم جزيرة بريم. ومن تلك النقطة تتجه شرقاً على طول الشاطئ الجنوبي للسعودية حتى عدن. وكانت أسمرة في أريتريا محطة للتزود بالوقود"، وفقاً لشيختمان.

تُظهر الصور التي التُقطت من داخل إحدى تلك الطائرات عشرات الأشخاص المنهكين والمتكدسين في مساحة صغيرة لم يعد فيها موطئ قدم. وتذكر كاميليا أبو جبل أن الطائرة الواحدة كانت تُحمَّل بـ125 إلى 145 راكباً، وهذا ما كان يزيد بكثير عن القدرة الاستيعابية للطائرة والعدد المسموح بركوبه في ذلك الوقت، إلا أن وزن اليهودي اليمني الذي لم يكن يزيد عن ثمانين باوند (نحو 36 كيلوغراماً) شجع المسؤولين عن تلك الرحلات على تجاوز القدرة الاستيعابية وقوانين الطيران المعمول بها، إلى درجة أنهم خلعوا مقاعد الطائرات الأصلية ووضعوا بدلاً منها مقاعد خشبية عادية يتسع كل منها لأربعة أشخاص، يوضع حزام أمان واحد حولهم، كأنهم رزمة من الأمتعة وليسوا بشراً، وحتى أن الأطفال كانوا يجلسون على أذرع أمهاتهم أو في سلات خاصة.

انتهت عملية الهجرة الجماعية من الناحية الرسمية في 24 أيلول/ سبتمبر 1950، بوصول آخر طائرتين إلى مطار اللد وعلى متنها 177 راكباً، منهم 26 كانوا قد سافروا من صنعاء إلى عدن على متن طائرة الإمام أحمد الخاصة، والتي وضعت تحت تصرفهم، تعبيراً عن حسن نيته لإتمام هده العملية. وبحسب شيختمان، بلغ العدد الإجمالي لليهود اليمنيين الذي هُجّروا في هذه العملية 47170 شخصاً، ونُفذت هذه العملية عبر عدة مراحل بين العامين 1949 و1950.

ظروف لا إنسانية

لا تزال الوكالة اليهودية الصهيونية التي أدارت عملية التهجير تتفاخر بها وبالزمن القياسي الذي نُفّذت فيه (حوالي سنة) إلى الآن، إلا أن وقائع هذه العملية تلقي الضوء على الجانب البربري والعنصري لمجريات تلك الهجرة التي لا تمتّ إلى الإنسانية بشيء، سوى الحصول بأي وسيلة على طاقة بشرية تلبي طموح استكمال تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.

في ذات يوم انتهاء العملية، أي 24 أيلول/ سبتمبر 1950، كُشف الستار عن مقبرة سرية للمهاجرين اليهود في عدن بالقرب من معسكري حاشد والشيخ عثمان، حوت 600 جثة من نزلاء المعسكرين، ماتوا في ظروف غامضة، بحسب كتاب كاميليا أبو جبل. وأخفيت جثث هؤلاء اليهود اليمنيين المهاجرين، ولم يعلَن عن وفاتهم إلا بعد انتهاء عملية التهجير، خشية تراجع اليهود اليمنيين عن الهجرة إلى فلسطين.

عام 1968، كتبت صحافية إسرائيلية عن منزل لم يتمكن أصحابه من إيجاد مشترٍ له، رغم ما يتمتع به من مزايا، والسبب أن جميع من يسكنون بالقرب منه هم من يهود اليمن، وقالت: "لا أحد يرغب أن يلعب أولاده مع أولاد الجيران اليمنيين"

ولجأت الوكالة اليهودية إلى أكثر الطرق فاشية لدفع يهود اليمن إلى الهجرة مكرهين، من خلال تهجير مئات الأطفال من دون ذويهم، بحجة إنقاذهم من الموت، واعدة ذويهم بالالتحاق بهم في ما بعد.

الكاتب والصحافي الإسرائيلي شلومو بارر ((Shlomo Barer، والذي أرسلته الإذاعة الإسرائيلية إلى مخيم حاشد في عدن، يقول في كتابه "البساط السحري" (The Magic Carpet) الصادر عام 1951: "كان ثمة شيء شرير لا إنساني، استطاع زرع الرعب في قلوب الآباء والأطفال من ذوي السنة والسنتين. إنها يد مجهولة خططت بشكل لم يُفسر". كانت هذه اليد المجهولة هي التي اختطفت أطفال اليهود اليمنيين من معسكري حاشد والشيخ عثمان، لا لتعيدهم إلى أمهاتهم في ما بعد، بل لتبيعهم إلى أُسر يهودية أخرى من يهود أوروبا الأثرياء.

في المجتمع اليهودي اليمني، يحتل الحاخام مكانة خاصة جداً، لذلك ركزت الوكالة اليهودية عليهم، فتحول الكثير من الحاخامات إلى مندوبين فعليين للوكالة، وأعطوا الأوامر لأتباعهم بالهجرة. يقول زكريا نسيم، وهو أحد يهود القرى المحيطة بصنعاء: "لقد أُمرنا من قبل حاخام قريتنا ببيع كل ما نملكه، وأن نقبل بأي ثمن يُدفع، لأن معجزة الخلاص قد دنت. قمنا بما أمرنا به، وكانت الأوامر تقضي بالخروج الجماعي"، بحسب ما أورده جوزيف شيختمان في كتابه.

لم تكن أوضاع اليهود في اليمن مثالية، فقد كانوا يتعرّضون لمضايقات عدة، تختلف حدتها من منطقة إلى أخرى، لكن الثابت تاريخياً أن يهود اليمن لم يتعرضوا لضغوط أو مذابح، كتلك التي حدثت ليهود أوروبا، تجبرهم على الهجرة بطريقة أقل ما يمكن وصفها به هو أنها لا إنسانية.

يهود عدن

"كان يتمتع يهود عدن بقدر كبير من الأمان أكثر مما تمتع به اليهود في أوساط أوروبية، وكانوا يعملون في الحرف اليدوية والصياغة، وكانت منازلهم في المدن الصغيرة تتجمع في أحياء خاصة ليست بعيدة عن الأحياء العربية، وهم يعيشون بسلام مع جيرانهم العرب، ولا يتدخل بأمورهم أحد، كما لا يتدخلون في المنازعات القبلية وكان يمكنهم تملك الأراضي". هذا ما قاله قائد الاحتلال البريطاني في عدن توم هكبوتام، والذي عاش في المدينة قرابة ربع قرن، حسبما نقل عنه شيختمان.

لم يدم هذا الانسجام طويلاً، فقد أدت الأحداث الدموية التي حصلت في عدن عقب إعلان قرار تقسيم فلسطين، بجانب استغلال الوكالة اليهودية لها، إلى انضمام بعض يهود عدن إلى مهاجري عملية "البساط السحري"، فنقل منهم إلى إسرائيل حوالي 1770 شخصاً.

يذكر كتاب "يهود البلاد العربية" الذي ألفه علي إبراهيم عبدة وخيرة قاسمية، وصدر عام 1971، أن عدد يهود عدن تقلص بعد العام 1948 إلى 831 شخصاً، أي حوالي 11% مما كان عليه قبل ثماني سنوات، وفقاً للإحصاء الرسمي لعام 1955. ولم يبقَ إلا 170 عائلة ومدرسة واحدة تضم مئتي طالب. ومع ازدياد التوتر في عدن وقرب جلاء القوات البريطانية منها، راح عدد اليهود في عدن يتقلص سنة بعد أخرى، وفي 18 حزيران/ يونيو 1967، غادر 132 يهودياً من عدن على متن طائرة بريطانية خاصة، أغلبهم ذهبوا إلى بريطانيا وقلة منهم إلى إسرائيل، وبرحيلهم انتهت الجالية اليهودية في عدن.

 حُلم "أرض الميعاد" والواقع المرير

"ما أن حطت أقدام اليهود اليمنيين على سلّم الطائرة التي هبطت في مطار اللد، حتى فوجئوا بسحابة من مسحوق مبيد الحشرات تغطيهم، قبل أن ينزلوا من سلم الطائرة وتطأ أقدامهم ما صُور لهم أنها أرض الآباء والأجداد". هذا ما يرويه الكاتب والصحافي اليهودي الأمريكي الفرد ليلنتال Alfred Lilienthal، في كتابه "ما ثمن إسرائيل" What Price Israel الصادر عام 1969، ويضيف: "كان هؤلاء الذين تدافعوا للركوب على متن طائرات عملية البساط السحري مدفوعين برغبة دينية جارفة لرؤية أرض الميعاد، قد صدموا بالحقيقة المؤلمة التي كانت تنتظرهم في أرض الميعاد هذه، فقد وضعوا في أماكن منعزلة وحُرم عليهم الاختلاط بسائر الرعايا الإسرائيليين، بحجة أنهم أغبياء وقذرون، وغير قادرين على ممارسة أي عمل نافع. وقد اعتُبر هؤلاء مع سواهم من اليهود الشرقيين أدنى منزلة في مستواهم الثقافي والاجتماعي من اليهود الغربيين".

ومثلما نُقلوا على عجل وفي ظروف بعيدة كل البعد عن الإنسانية، أسكنوا بعد وصولهم في مخيمات مزدحمة، كانت تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية ولا تليق بسكن البشر. فما أن وصلوا إلى فلسطين في أواخر الأربعينيات حتى اختارت لهم السلطات الصهيونية أماكن بعيدة ليسكنوا فيها، ضاربين عرض الحائط بالوعود التي قطعوها لهم بعيش حياة رغدة وسعيدة.

وكانت الأسر اليمنية تُنقل من المخيمات المؤقتة بعد أشهر عدة إلى أماكن دائمة مقررة سلفاً لتوطينهم، لكن هذه الأماكن لم تكن أفضل حالاً من المخيمات المؤقتة، فهي في الغالب مكوّنة من أكواخ من التنك والخشب. في حين كان يجري توطين اليهود الغربيين إما في الشريط الساحلي أو في مستوطنات ذات مباني حديثة. تذكر كاميليا أبو جبل أنه بحسب إحصاء أجري في العام 1961، تبين أن اليهود اليمنيين كان يعيش كل أربعة منهم في غرفة واحدة، في أحياء أطلقت عليها الصحافة الإسرائيلية حينها تسمية "أحزمة الفقر".

في الأعوام اللاحقة، وحتى بعد أن استطاع بعض يهود اليمن بناء بيوت لائقة في أماكن أخرى، كانت العنصرية تلاحقهم في كل مكان حلوا فيه في إسرائيل. في 22 آذار/ مارس 1968، نشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" مقالاً للكاتبة والسياسية الإسرائيلية يائيل دايان، تحدثت فيه عن منزل لم يتمكن أصحابه من إيجاد مشترٍ له، رغم ما يتمتع به من مزايا، والسبب أن جميع من يسكنون بالقرب منه هم من يهود اليمن، وقالت: "لم يُبع البيت إلى الآن، لأن لا أحد يرغب أن يلعب أولاده مع أولاد الجيران اليمنيين". وعلى مر السنين بقيت أماكن سكن يهود اليمن في إسرائيل تمثل مظهراً من مظاهر التمييز العنصري الصارخ بين اليهود الشرقيين والغربيين.

عومل اليهود الشرقيون، ومن ضمنهم يهود اليمن، وكأنهم جماعات متخلفة وغير حضارية، ولا تتمتع بالمؤهلات الذاتية للتقدم، وبالتالي يجب على هذه الجماعات البقاء في أدنى درجات السُلّم الاجتماعي الإسرائيلي، لاستخدامهم في عمليات الإنتاج وكمخزون بشري للجيش.

ونتيجة لهذه السياسات الممنهجة، أُفشلت كل المحاولات التي قام بها اليهود الشرقيين لتحقيق المساواة بينهم وبين اليهود الغربيين، حتى بعد أن وصل عدد منهم إلى الكنيست وإلى مناصب عليا في الدولة.

يقول الكاتب والمؤرخ اليمني عباس علي الشامي، في كتابه "يهود اليمن قبل الصهينة وبعدها" (1988): "بعد وصولهم إلى ‘أرض الميعاد’، لاقى المهاجرون اليمنيون البؤس جراء التمييز العنصري الذي عانوا منه نتيجة وضعهم في أماكن معزولة وفي مخيمات نائية ومحاصرة أمنياً، بهدف منعهم من الاختلاط بـ‘الشعب المختار’ المتمثل في اليهود ‘الأشكناز’ الأوروبيين، ودفعهم هذا الأمر للشعور بالألم والحيف مثلهم مثل باقي اليهود الشرقيين عموماً أو ما يسمون بـ‘السفارديم’".

وظلت هذه المشاعر مصاحبة لليهود اليمنيين، واليهود الشرقيين في إسرائيل بشكل عام، ومسيطرة على واقعهم، وكانت من أهم الأسباب التي منعتهم من الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، حتى يومنا هذا.