أمـة يتيمة على موائد اللئام
فهمي  هويدي
فهمي هويدي

حين وقعت علي أحدث صورة للمشهد العربي‏,‏ وأتيح لي أن أتعرف علي قسماتها التفصيلية عن قرب‏,‏ لم أجد تعليقا عليها أجدر من العبارة التالية‏:‏ أمة يتيمة علي موائد لئام آخر الزمان‏.‏

‏(1) هذه الخلاصة لها قصة‏,‏ إذ كنت قد عكفت في الآونة الأخيرة علي جمع معلومات عن دور مصر في العالم العربي‏,‏ ضمن الإعداد لمحاضرة كان مطلوبا مني إلقاؤها علي أعضاء جمعية الدارسين والمتدربين المصريين في بريطانيا‏,‏ وخرجت من هذه التجربة بمجموعة من النتائج والانطباعات لست في وارد التفصيل فيها الآن‏,‏ لكن أهمها أن ذلك الدور في تراجع مستمر‏,‏ وبعد يومين من المحاضرة‏,‏ قدر لي أن أشارك في اجتماعات المؤتمر القومي الإسلامي‏,‏ الذي انعقد في الدوحة خلال يومي الخميس والجمعة الماضيين‏(21‏ و‏12/22)‏ ولأن الذين اشتركوا في المؤتمر كانوا‏270‏ شخصا من المثقفين‏,‏ الذين قدموا من مختلف الأقطار العربية‏,‏ فإن اللقاء وفر لي فرصة التعرف علي العديد من القسمات التفصيلية للمشهد‏,‏ الذي وجدت العالم العربي فيه جسما بلا رأس‏,‏ أكثر من ذلك فإنني رأيت الجسم ينزف من مواضع عدة‏,‏ بعض النزيف دم‏,‏ وبعضه دمع هتون‏!.‏

مما قرأت في أوراق المؤتمر وسمعت من المشاركين فيه‏,‏ لاحظت أمورا ثلاثة هي‏:‏

*‏ أن الجميع يستشعرون الحيرة ويقلقهم المستقبل‏,‏ من جراء تغول قوي الهيمنة وغياب الظهير من داخل النظام العربي‏,‏ ومنهم من قال إن العالم العربي صار سفينة بلا ربان‏,‏ وأن الأمة تيتمت حتي أصبحت بلا معيل أو كفيل‏,‏ فأنفرط عقدها واستباح الطامعون عرضها‏.‏

*‏ أن نبرة الغضب كانت عالية إزاء الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا‏,‏ الأمر الذي جاء تصديقا للاستطلاعات التي تحدثت عن تنامي مشاعر العداء والكراهية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين‏,‏ التي تجاوزت‏90%‏ في أغلب الأقطار العربية‏,‏ كما كان تعبيرا عن اتساع الفجوة الهوة بين العرب والمسلمين وبين الغرب‏,‏ وليس تضييقها‏.‏

*‏ ان الشعور بالقلق أو الخطر جعل ممثلي القوميين والإسلاميين يخفضون كثيرا من سقوف تطلعاتهم‏,‏ فما عادوا يتحدثون عن الوحدة العربية أو نموذج المجتمع الإسلامي المنشود‏,‏ إذ عد ذلك ترفا لا تحتمله الظروف الراهنة‏,‏ وبدا أن الشاغل المهيمن علي الجميع هو كيفية صد الغارات واطفاء الحرائق وانقاذ السفينة من الغرق‏,‏ فاذا كانت وحدة القطر الواحد علي المحك في لبنان والعراق وفلسطين والسودان ـ وذلك تراجع كارثي بامتياز ـ فلا محل للحديث في مثل هذه الظروف عن الوحدة العربية مثلا‏,‏ الأمر الذي يعني أن الفجوة لم تتسع فقط بين العالم العربي والغرب‏,‏ وانما اتسعت أيضا في محيط الأمة ذاتها بين واقع العرب وأحلامهم أو طموحاتهم‏.‏

‏(2)‏ لا يظن أحد أن المؤتمر حل مشكلات العرب‏,‏ وأن أحوال الأمة بعده ستكون أفضل مما كانت عليه قبله‏,‏ الي غير ذلك من المعاني التي أثارتها أسئلة بعض الصحفيين‏,‏ وعبرت عن السذاجة حينا والتخابث حينا آخر‏,‏ ذلك أن المؤتمر في أحسن فروضه لم يكن سوي نداء جدد الدعوة الي الاستنفار والاحتشاد في مواجهة المخاطر المحدقة من الداخل والخارج‏,‏ ان شئت فقل إنه بمثابة جرس انذار حاول أن يلفت الانتباه الي ما تمارسه الذئاب المتربصة بالجسد العربي ـ فضلا عن أنه واصل جهاده لتثبيت فكرة الأمة‏,‏ التي أصبحت استحقاقاتها ومفرداتها معرضة للملاحقة والمطاردة‏,‏ في ظل دعوات الانكفاء والانعزال المسمومة التي بشرت بها بعض شرائح النخبة‏,‏ تلك التي رفعت شعارات من قبيل نحن أولا ولا شأن لنا بغيرنا والعولمة هي الحل وتكملة الأول التي تعلن حينا ويتم اخفاؤها في أحيان كثيرة هي‏,‏ لتذهب قضايا المصير العربي الي الجحيم‏,‏ وأولها قضية فلسطين‏,‏ أما الثاني فهو يستنبط دعوة ملحة الي اللحاق بالمركبة الأمريكية والإذعان لما تمليه واشنطن‏,‏ حتي اذا كان تعبيرا في الإدارة الإسرائيلية‏.‏

كان تحرير حال الأمة هو الهاجس الأساسي للمؤتمر‏,‏ لأجل ذلك فإنه وجه اهتماما خاصا الي ملفات ستة هي‏:‏ العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصحراء الغربية والمغتربات العربية والإسلامية‏,‏ وهي مناطق الحرائق القائمة أو المرشحة‏,‏ وبعضها مما يستمر فيه نزيف الدم‏,‏ والبعض الآخر مما تتفاعل فيه مؤشرات التوتر بدرجة أو أخري‏,‏ وبرغم أن حوارات ممتدة دارت حول هذه الملفات في داخل اللجان الفرعية‏,‏ فإنني أزعم أن الحوارات التي جرت خارج اللجان وفي أروقة المؤتمر كانت لا تقل أهمية‏,‏ فضلا عن أنها كانت أكثر صراحة‏.‏

إزاء ذلك‏,‏ فلعلي لا أبالغ اذا قلت إن المؤتمر لم يحل شيئا من مشكلات الأمة‏,‏ لكنه وفر للمشاركين فيه صورة أشعة حديثة لحال الأمة في ختام العام السادس من الألفية الثالثة‏.‏

(3)‏ هو عام الأفعال السياسية الفاضحة‏.‏ كانت تلك هي الخلاصة التي خرجت بها من محاولة تشخيص حال الأمة‏,‏ في الحوارات التي جرت داخل اللجان وخارجها‏,‏ ولكي أكون أكثر دقة فلعلي أقول إن تلك قراءة لمجمل الحال من زاوية معينة‏,‏ لا تتعارض مع أية خلاصة مغايرة ترصد الحال من زاوية أخري‏,‏ كما سنري بعد قليل‏.‏

تستطيع أن تدرك أكثر مدي انفضاح الوضع العربي اذا قارنته بالحاصل في أمريكا اللاتينية‏,‏ الواقعة في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة‏,‏ اذ في حين تشهد تلك المنطقة من العالم صحوة مشهودة‏,‏ هبت في ظلها رياح التمرد علي الهيمنة الأمريكية‏,‏ واسفرت حتي الآن عن انتخاب ثمانية أنظمة رافضة لتلك الهيمنة‏,‏ فإن الحال علي العكس تماما في العالم العربي‏,‏ فرغم أنه علي بعد آلاف الأميال من الولايات المتحدة‏,‏ فإن الهيمنة الأمريكية علي مقدراته تتسع وتزداد احكاما‏,‏ فالتمرد هناك يقابله انصياع هنا‏,‏ وحراك الشعوب هناك الذي أحدث التغيير في الاتجاه السياسي من النقيض الي النقيض‏,‏ يقابله في العالم العربي جمود مطبق‏,‏ لم يفرز أي تغيير يذكر‏,‏ كأنما التغيير صار خطا أحمر‏,‏ لا يسمح إلا بالحديث عنه والتشوق إليه‏.‏

تسوغ لنا هذه المقارنة أن نقول إن أمريكا اللاتينية مارست بشجاعة حق الخلع من الهيمنة الأمريكية في عام‏2006,‏ أما العالم العربي فلايزال أسير بيت الطاعة الأمريكي مستمرئا زيجة كرهتها الشعوب‏,‏ وهتكت في ظلها أعراض بعض الأقطار‏.‏

اذا لم تصدق هذا الكلام‏,‏ فقل لي بربك بماذا يوصف الذي يجري في العراق‏,‏ الذي تعرض للاحتلال منذ ثلاث سنوات‏,‏ ومنذ ذلك الحين استبيح عرضه وتمارس بحقه مختلف أشكال الاغتصاب‏,‏ الحقيقي والمجازي‏,‏ وذلك كله تم علي مرأي ومسمع من الدول العربية؟

لقد دمر العراق ونهبت ثروته وأبيد من أهله أكثر من‏600‏ ألف مواطن‏,‏ ثم تعرض للتفتيت الذي افتتحه الأكراد‏,‏ وحذا بعض قادة الشيعة حذوهم‏,‏ الذين تحدثوا بدورهم عن فيدرالية تضم‏9‏ محافظات في الجنوب‏,‏ ولتكريس ذلك فإن حملة وحشية واسعة النطاق تجري الآن لتهجير أهل السنة من مدنهم وقراهم‏,‏ في حملة للتطهير العرقي‏,‏ هي جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس‏,‏ ذلك كله يحدث‏,‏ وأكثر منه قادم في الطريق‏,‏ حيث ترشح بغداد ذاتها للسقوط في ايدي الغوغاء من دعاة التعصب المذهبي‏,‏ والدول العربية واقفة تتفرج‏.‏ حتي الأزهر لم تسمع له كلمة في الموضوع‏.‏

لقد نسي الناس أن الاحتلال هو الذي أشعل نار الفتنة منذ جاء‏,‏ وأقدم علي تشكيل مجلس الحكم الانتقالي علي أساس طائفي وعرقي‏.‏ وفي نظر كثيرين فإن المعركة لم تعد تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي‏,‏ ولكنها صارت حماية أهل السنة من زحف المد الشيعي‏,‏ وسمعت من بعض العراقيين أن الخطر الأخير الذي ينسب الي إيران دعمه وتأييده بات مقدما علي خطر الاحتلال‏,‏ بعدما أوصلتهم التجربة الي حد المفاضلة بين الدفاع عن النفس والدفاع عن الوطن‏.‏

سألني الشيخ حارث ضاري رئيس هيئة علماء المسلمين الذي كان مشاركا في المؤتمر‏:‏ هل خطر ببال أحد يوما ما أن يحدث ذلك كله للعراق‏,‏ وأن يقابل بصمت من العالم العربي؟

نفس السؤال سمعته من الدكتور عصام نعمان السياسي اللبناني المعروف‏,‏ الذي قال إن صمت أكبر الدول العربية علي حصار لبنان وعزله إبان العدوان الإسرائيلي‏,‏ يظل لغزا مدهشا يحتاج الي تفسير‏.‏

السؤال ذاته سمعته من السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس‏,‏ الذي قال لي إنه لايزال غير مصدق أن أغلب الدول العربية بادرت الي مقاطعة الحكومة الفلسطينية الجديدة وشاركت في عمليات تجويع الشعب الفلسطيني‏,‏ امتثالا للضغوط الأمريكية والإسرائيلية‏,‏ وأن تلك الدول ظلت علي موقفها العاجز برغم قرار مجلس جامعة الدول العربية بإنهاء المقاطعة وكسر الحصار‏.‏

أفاض أبوالوليد في هذا الحديث في جلسة امتدت الي ما بعد منتصف الليل‏,‏ وطرح في ثنايا حديثه ملاحظة قال انها تحيره وتدهشه‏,‏ خلاصتها أن الفراغ الحاصل في رأس النظام العربي‏,‏ أغري بعض اللاعبين الصغار بمحاولة تصدر الواجهة وتسديد الأهداف في الاتجاه المغلوط‏,‏ الأمر الذي دفعه الي التساؤل‏:‏ لماذا يعزف الكبار عن النزول الي الساحة‏,‏ علي الأقل لكي يحولوا دون تسديد الأهداف في ذلك الاتجاه البائس؟ ـ وهو سؤال لم تكن اجابته عندي‏,‏ لكنني فهمت انه رسالة لغيري‏.‏

(4) لا يتسع المجال لاستعادة بقية الأسئلة التي سمعتها من مثقفي بقية الأقطار العربية‏,‏ خصوصا تلك التي عبروا فيها عن مشاعر الحيرة والقلق والخوف من المستقبل‏,‏ في ظل استمرار حالة الانكفاء العربي وغياب المرجعية أو الرأس للجسم العربي‏,‏ التي وصفها بعضهم بحالة اليتم التي تعاني منها شعوب الأمة‏.‏

في هذا السياق‏,‏ ذكر بعض المثقفين المشاركين أن الأجواء الراهنة ليست كلها سلبية لسببين رئيسيين‏,‏ أولهما أن السياسة الأمريكية ذاتها تعاني من التراجع والهزيمة في أنحاء متفرقة من العالم‏,‏ تتجاوز العراق وأفغانستان الي أمريكا اللاتينية‏,‏ وهو ما دعا ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الي كتابة مقالته الشهيرة التي تحدث فيها عن انتهاء الحقبة الأمريكية من العالم‏,‏ في الوقت ذاته فإن إسرائيل فقدت هذا العام علي وجه التحديد قوة الردع التي طالما خوفت بها العالم العربي‏,‏ بعد هزيمتها في عدوانها علي لبنان‏,‏ فضلا عن أنها تعاني الآن فراغا في القيادة ظهرت معالمه في الآونة الأخيرة‏.‏ ومن وجهة النظر العربية فإن هذا هو الظرف المناسب‏,‏ ليس فقط للممانعة‏,‏ وانما أيضا للضغط والتشدد في الدفاع عن الحقوق‏,‏ وربما رفع سقف الطلبات أيضا‏,‏ وعدم إدراك هذه الحقيقة‏,‏ والذهول عن الإفادة منها يعد دليلا علي المدي الذي بلغه تدهور الوضع العربي‏.‏

الإيجابية الثانية أن النظام العربي حين تهاوي وتخلي عن دوره‏,‏ فإن الشعوب أثبتت أن رصيد العافية والمقاومة لديها لم ينفد بعد‏,‏ وهو ما أثبتته شواهد الواقع في فلسطين والعراق ولبنان علي الأقل‏,‏ الأمر الذي يجدد السؤال‏:‏ من يستنهض‏,‏ ويستثمر ذلك الرصيد ويوظفه في الاتجاه الصحيح الذي يصب في وعاء النهوض بالأمة وليس العكس؟ ـ للكلام بقية في الأسبوع المقبل بإذن الله‏..‏

* الأهرام المصرية


في الأربعاء 27 ديسمبر-كانون الأول 2006 06:13:11 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=886