الشاذ لا حكم له .. يا حبيشي
مشعل المهدي
مشعل المهدي

هكذا تقول القاعدة الفقهية في كنزنا الفقهي والفكري، وإن كان ذلك لا يسر الحبيشي ولا يعجبه، وقد تجد كتابات في يمننا يمن الإيمان والحكمة تغرد خارج السرب؛ حيث لا يغرد الجميع؛ فلا يسعنا أن نعنون لها إلا بمثل هذه القاعدة الفقهية التي سارت مثلا في البلاد غربها شرقها، ولست أعني في هذا المضمار إلا كتابات الحبشي؛ فهي وحدها التي تغرد خارج السرب.

فالمتابع لكتاباته يجده وكأنه يتحدث عن القرون الوسطي؛ حيث تجده يتحدث عن ترهات فهمها بتصوره القاصر على غير وجهها؛ ثم تراه ينسبها إلى الفكر الإسلامي، وهي لا تعدو أن تكون ترهات لا تجد لها مكانا ولا مقاما ولا سياقا إلى في (اللا عقل الحبشي) وفي خياله وحده؛ وأكثر هذه الترهات تجدها في مقاله الذي عنون له بـ [إنهم يريدون أسلمة رواسب الجاهلية]، ذلك المقال الذي بناه على كثير من المغالطات، وسوف أشير إلى بعضها فيما هو آت.

وهو في مقاله الجديد المعنون بـ ( من صدمة الحداثة الى تحديات ما بعد الحداثة ) يتحدث عن نفس الترهات؛ فتجده يتحدث عن اصطدام حصل بين الفكر الإسلامي والحداثة، والحبيشي وحده في الحقيقة هو من شعر ويشعر بذلك الصدام الذي حصل ويحصل بين الحداثة وبين الفكر الإسلامي، وقد سرد كلام طويلا وفي محصلته وخلاصته أن الفكر الإسلامي وجد لغاية الصدام، ثم يحاول أن يربأ بنفسه عن النقد، ليقول بأن غلاة الحنابلة هم من جعل ذلك الفكر صداميا ودمويا، وهو ما يفهم من عبارته [سعير حرب] ولا أدري أين ذهب المعتدلون من كل المذاهب برأيه، وما علاقة الفكر الإسلامي بالغلاة ؟؟ لكي تعرف أن الرجل إنما أتى بعبارة (غلاة) ليربأ أو يسلم من النقد، وإلا فقد سرد إلى جانب هذه العبارة جميع أأمة العلم. حيث تلكم عن غلاة، وإلا فإنه يقصد بهذا الحكم على الفكر الإسلامي ككل .

وسحبنا أن نقول هنا بأن ما يتحدث عنه الكاتب هو صدام متوهم لم يسمع ضجيجه أحد سواه؛ فهو وحده من يعاني صدمة الحداثة وضجيجها، أما نحن فلا ندري عن أي حداثة يتكلم، وعن أي صدامات خلت وعن أي صدمات معاصرة في الوقت الراهن بين الفكر الإسلامي وما يسميه الحداثة، ويكفيني من خلال هذا المقال أن يعرف القراء من خلال ما سأعرضه من مغالطاته بأن كتاباته شاذة وليست ذات قيمة يحتذي الناس بها.

فقد بهر الرجل بحادثة الغرب إلى درجة أنه حصل له غسيل دماغي جعله يتنصل عن فكره ودينه ليتهمه بالرجعي والمتخلف، ولم يعد يرى في الفكر الإسلامي في مخيلته إلا أنه فكر صدام وعداء للآخر، ثم تجده يغالط ويدلس ثم يتهم غيره من أمثال أبي الحسن الندوي بذلك التدليس وسمى سؤالهفي منتصف الخمسينات سؤالا ً هروبيا ً هو : ماذا خسر العالم بتوقف المسلمين عن المساهمة في صنع حضارتهم ؟ مع أن ما قصده الندويكان واضحا وجليا وليس فيه أي تدليس؛ حيث تحدث عن حضارة ماهرة في صناعة الموت؛ لأنها كانت مجدبة من ناحية القيم فكيف فهم هذا الذي في عقله دخن سؤال الندوي ؟؟ وعن أي حضارة يتحدث وهي لا تقيم للقيم ولا إلى ما يمت إليها بصلة أي وزن إذا ما تعلق الأمر بالعالم الإسلامي والعربي؛ وأظن أنه يكفي ما يحصل في العراق وفلسطين و.. و.. الخ. فقد جعلت هذه الحضارة - التي بهرت صاحبنا - العالم الإسلامي مكانا تجد فيه ضالتها، كما هو أنت وجدت ضالتك في النيل من الفكر الإسلامي ودس سمومك فيه لأجل الحصول على لعاعة من الدنيا ومثلك كمثل ناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأهوى قرنه الوعل. فقد كان قصد الندوي من سؤاله أن هذه الحضارة ينقصها الإسلام وقيمه ومبادئه حتى تستفيد من حضارتها فيما ينفع الناس ولا تتحول حضارتها إلى صناعة الموت وشلالات الدماء في العالم الإسلامي والعربي، ولم يكن هروبا من الوقع الذي أوصلنا إليه أمثالك وأسيادك الذين تطبل لهم وتهلل.

هذا هو مفهوم الحداثة عند الحبشي، مختصرا له في عصر الآلة، وإن كان لآلة الموت فيه النصيب الأعظم؛ الآلة التي حصدت وتحصد الملايين من المسلمين. وهل تعتقد بأن العالم الإسلامي ليس فيه تلكم الكوادر من العلماء المسلمين وفي شتى التخصصات أنت تعرف ذلك وتعرف لم هم منفيون في خارج أوطانهم وبلدانهم وكان عليك أن تسأل أسيادك لماذا هم خارج بلدانهم بدلا من أن تطبل لهم وتزمر

فعن أي صدام تتحدث ومتى حصل تأريخ هذا الصدام وما المصدر الذي رجعت إليه. وما نعرفه فقط أن الحبشي أثبت ذلك الصدام الدموي في مقاله هذا، وكأنه يرجع إلى كتاب (ألف ليلة وليلة) كمصدر تأريخي وحيد يأخذ عنه تأريخنا المشرق؛ ليتحدث عن أنه تأريخ مليء بالصدامات والصراعات بين علماء المسلمين ببعضهم، ثم صدامات دموية أخرى بين الفكر الإسلامي والحداثة وهي صدامات لم نسمع بها إلا مخيلته وفي اللا عقل الحبشي، ثم هو يريد أن يقنعنا بها ليتحدث عن الإسلام وفكره وكأنه فكر صدام لا يعترف بأي فكر آخر، ولا يحاوره أو يجادله.

يقول: "فيما العالم العربي والإسلامي ما يزال عاجزاً عن الإجابة على أسئلة صدمة الحداثة الأولى التي داهمته قبل مائتي سنة، ولا ريب في أن هذه التحديات تقتضي تشغيل مفاعيل الإستجابة لها كضرورة يستحيل بدونها عبور الفجوة الحضارية التي تحول دون الحضور الفاعل للمجتمعات العربية والإسلامية في هذه الحقبة من تطور العصر والعالم" .

وأنا أتحدى الحبيشي أن يستطيع ذكر السبب الحقيقي من وراء ذلك التراجع الذي حصل في العالم الإسلامي، لأنه مرتبط بمن يكيل لهم المدح والثناء، إن الفكر الإسلامي في الحقيقة لا يتصادم مع الحداثة الايجابية ألبتة ولست أرى ذلك التصادم إلى في رأس الحبشي الدخن، وأظنني هنا سوف أكتفي بالتمثيل لأثبت صحة ما أقول وكذب ما قاله الحبيشي حينما أرجع التخلف والتراجع إلى الفكر الإسلامي وسوف أثبت لك أخي القارئ الكريم بأن هذا الرجل ينقل من كلام الآخرين ولا يعي حتى من ينقله بيد أن الحبشي وجدن نفسه وسطهم من دون علم أو روية؛ لذلك تجده يهرف بما لا يعرف؛ فتراه يرجع التخلف الحاصل في العالم العربي والإسلامي إلى المفكرين والفقهاء أو من سماهم - سم الله بدنه – ( بمهندسي الثقافة السلفية الموروثة عن حقبة الانحطاط والتراجع ) وهو لا شك سرق هذا المصطلح كذلك من ذلكم الكتاب الذين نقل عنهم.

أقول للحبيشي هنا لأبطل أباطيله ومغالطاته التي لا تنطلي على أحد ألا من يحمل عقلية كعقليته، ما شأن تركيا الإسلامية الآن، وشأن اقتصادها، في الجسد الأوروبي المنهك اقتصاديا، وكيف كان وضع تركيا العلمانية التي تخلت عن الفكر الإسلامي وعن كل ما يمت إليه بصلة، وقد كان الجميع كيف كان حال تركيا العلمانية، وكيف هو حال تركيا الإسلامية الآن، والذي يقارن بموضوعية وحياد تام يدرك بأن الفكر الإسلامي هو سبب نهضة تركيا الإسلامية الحديثة، وهي تختلف من كل النواحي عن تركيا أتاتورك.

فما صنعت تركيا العلمانية والفكر العلماني الذي تخلى عن الإسلام وفكره، ولغته، وحجابه، وتخل عن كل القيم، لقد كانت في الدرك الأسفل من كل النواحي، وفي جميع المجالات، وها هي الآن تركيا الإسلامية بفكر قادتها الإسلامي بزغ بل برز نجمها من جديد في كل المجالات عندما اختطت الفكر الإسلامي لها بديلا عن العلمانية.

فهل فهمت الآن بأن السبب لا يرجع إلى الفكر الإسلامي، وليست المشكلة فيه؛ بل هي في فكرك أنت، وفي فكر من يقف حاجزا وسدا منيعا من انطلاق الفكر الإسلامي ممن تنقع لهم وتطبل وتزمر، فها هي تركيا تقف كفرس رهان بين من يدعون ظلما وزورا بأن الفكر الإسلامي هو سبب تخلف الأمم العربية والمسلمة، وبين من يقول بعكس ذلك. فها هي اليوم برزت كقوة اقتصادية في يوم تراجع الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني هو والعالم أجمع من جراء تلك الأزمة، بيد أن تركيا نراها في تقدم ملموس في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والعلاقات الخارجية، وهي تبرز كقوة إقليمية في الغرب والشرق تتحكم في سير اتجاه السياسات عالميا.

وإن الذين يرجعون ذلك البروز لتركيا الإسلامية الحديثة لنزعات قومية فهم واهمون أشد الوهم، فتركيا لم تبلغ إلى ما بلغت إليه إلا على أساس ديني، وهو الأساس نفسه التي قامت عليه الأمة الإيرانية، وكذلك دولة إسرائيل. 

فعن أي فكر تتحدث وعن أي إسلام تتحدث وعن أي حداثة تتكلم وعن أي صدام وهمي تريد أن تقنع الناس به عندما تتحد عن الفكر الإسلامي وكأنه فكر الصدامات قديما وحديثا وكأن فكرنا الإسلامي وجد لغاية ذلك التصادم الذي هو في مخيلة الحبشي، وهو يغالط ويدلس عندما يتحدث عن (غلاة) تارة ثم يذكر بينهم أأمة العلم والمفسرين تارة أخرى؛ مما يجعلك تتيقن بأن الرجل غير متزن في طرحه وفي عقله – بالتأكيد – دخن؛ حيث تجده تارة يتحدث عن غلاة في المذهب الحنبلي من دون تحديد أسماء، ثم تجده تارة أخرى يسرد الجميع ومن كل المذاهب، وفي طريقه المرتبك والمتخبط يجر معه المفسرين ليجعل الجميع في سلة الغلاة، فتتأكد بأن الرجل ينقل مقاطع مجتزأة من كتابات معادية للفكر الإسلامي ويريد أن يثبتها لنفسه فيختلط عليه الحابل بالنابل فتجده كحاطب ليل. 

ويكفي أنه في مقاله (إنهم يريدون أسلمة رواسب الجاهلية) أقام أقاويله فيه على روايات مجتزأة من سياقاتها، وبناه على كثير من المغالطات المفضوحة، ثم هو يقيم حججه على بعض الإسرائيليات المبثوثة في بعض كتب التفاسير ثم تجده يعمم الحكم ويلصقه في جميع المفسرين، ليثبت لك – بما لا يدع مجالا للشك – بأنه باحث من الطراز الأول الذي لا يعرف القواعد المنهجية البسيطة التي يجب أن تتوفر في الباحث.

ولنفترض - جدلا - أن أحد المفسرين قال شيئا لا يحتمله العقل ولا النقل؛ فهل يصح أن نجمع كل المفسرين في بوتقة واحدة؛ لأن أحدهم شذ في تفسير لفظ ما بغير مدلوله ؟ أو أن هذا اللفظ من الإسرائيليات المبثوثة هنا وهناك في بعض التفاسير، وهو ما وقع فيه الحبيشي كما سنرى لاحقا، وسوف أجعلك أخي القارئ تطلع عليه؛ لتعرف أنه بنى ويبني كتاباته كلها على وهم كبير وعلى كثير من المغالطات المفضوحة يستطيع كشفها كل من يعرف القراءة والكتابة فما بالك بالمتعلمين. بما يشعرك أنك أمام كاتب لا يفقه شيئا عن أبجديات المنطق والحوار النقاش والنقد، فتجده يتحدث عن الفكر الإسلامي وكأنه فكر جامد لا يقبل الفكر الآخر برمته، بل سفاح دموي وتتخيل مشهد ذلك السفاح في عبارته عن بعض غلاة المذهب الحنبلي بأنهم [سعير حرب]. ثم يجعل في قائمة الغلاة كل علماء الإسلام.

فهل من العقل والمنطق في شيء، أن يتحدث باحث فاهم بأصول البحث وقواعده عن (غلاة) ثم ينصبهم بديلا عن الفكر الإسلامي بل عن الإسلام كله، فالغلاة هم الإسلام والإسلام هو ذلكم الغلاة على حد تعبيره، ثم لماذا يقيم نتائجه على بعض الغلاة الذين هم في مخيلته وفي فكره؛ وأين ذهب المعتدلين والوسط، وأين الغلو من الفكر الإسلامي وتجد فيه مذاهب أربعة، وما تلك المذاهب وتعددها إلا أكبر دليل على رحابة الفكر الإسلامي وسعة صدره ولينه ومرونته في التلاقح والتحاور مع الفكر الآخر الايجابي.

وإذا ما انتقلنا إلى نصه الذي تحدث فيه عن الغلو ستجده كلاما مرسلا ليس فيه دليل ملموس أو شاهد عيان صدر عمن سماهم بـ (غلاة المذهب الحنبلي) والذي بسببهم اصطدم الفكر الإسلامي كله بالحداثة فلم تقم له قائمة منذ مائتي عام، وعندما تنظر إلى قائمة ذلكم الذين وصفهم بـ (الغلاة) ستجده لا يفهم شيء في المذهب الحنبلي فإذا به يضعك على سعير حرب شنها الحنابلة على العلماء المسلمين أنذاك ولا أرى كل ذلك إلا في مخيلته فقط يقول: " سعير الحرب التي شنها غلاة الفقه الحنبلي ضد العقل منذ القرن الخامس الهجري ، مهّدت لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وغروب شمس الحضارة العربية والإسلامية، وكان من بين ضحايا هذه الحرب المسعورة كبار علماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق والفلسفة ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ابن رشد وابن سيناء والفارابي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الإسلامي، التي ترجمت أرسطو وأفلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم".

والحقيقة هو وضع من سماهم بـ (الغلاة) شماعة، وإلا فإنه يقصد الفكر الإسلامي كله، وهو ما يفهم من ربطه لعلماء الإسلام بترجمات كتب الإغريق وفلاسفة اليونان؛ من أمثالأرسطو وأفلاطون ، وهو يريد من ذلك أن يوعز إلى ذهن القارئ ما مفاده: إن علوم علماء الإسلام في المجالات المختلفة والتي كنا نتشدق بها في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية لم تكن نتيجة الفكر الإسلامي وحضارته؛ بل كانت نتيجة اطلاع العلماء المسلمين على ترجمة كتب الإغريق. وإلا فإن الفكر الإسلامي فكر رجي وكهنوتي بتعبيره وليس هو دين علم وفكر ونهضة علمية؛ بل هو دين تخلف ورجعية ودين صدامات مع كل ما يمت للعمل بصلة.

فتفهم من مقاله أنه يركز على تلكم العلاقة بين العلماء المسلمين وكتب فلاسفة اليونان والإغريق قبلهم. كما نجده يجعل من الغلاة الوهمين في عقله الدخن شماعة ليغرس خنجره في الفكر الإسلامي ككل، فيرى من جهة أن ما وصل إليه العلماء المسلمين في عصور النهضة لم يكن بسبب الإسلام بل كان بسبب تلك الكتب التي ترجمت إلى العربية فقط، كما يرجع سبب تخلف المسلمين في تلك الحقبة هو وقوف غلاة (عقله الخرف) في وجه العلماء ولم يسمع أحد بأن ذلك حدث في تأريخ الإسلام إلا إذا كان الكاتب يأخذ التأريخ الإسلامي عن كتاب (ألف ليلة وليلة).

 إذا فالحبشي يريد أن يقول بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين لكنه لم يكن شجاعا كمعاذ حيث قال الأخير بكل صراحة [صححوا مصاحفكم] بيد أن الحبشي في كل مقالاته لم يتحدث عن المصاحف، بل عن العلماء وتحت مسوغ وهمي هو أنهم بشر يصيبون ويخطئون، وأنهم لم يحسنوا فهم القرآن ولا السنة، والحبشي وحده هو عالم عصره وفقيه دهره الذي فهم ويفهم نصوص القرآن والسنة على الدوام بما لديه من الثقافة، ليقول عن ذلك الكنز الفقهي والفكري (رواسب جاهلية) وكأنها لا تمت إلى الفهم الصحيح للإسلام بأي صلة، فمن قالوا بها هم بشر وهم يخطئون ويصيبون وخطأهم عنده أكثر من صوابهم، أما هو فليس ببشر وكلامه لا يعتريه الخطأ بل كله صواب في صواب.

هذه هي ترهات االحبيشي وإن استساغ بعضهم أن يسمها ثقافة، ويصفه بالمفكر الشجاع الذي يحاول الانقضاض على المألوف أو المحظور النقدي بمعاول الهدم، فها هي إحدى ترهاته الكثيرة التي تملأ كتاباته ولا أدري كيف فهمها؛ وكيف استدل بها على أن المفسرين أهانوا المرأة، وهي بتصوري لا تنم إلا عن أنه مثقف يأخذ تفسيراته، ومعلوماته التاريخية عن الإسرائيليات تارة وعن عقله الدخن تارة ثانية، وعن كتاب (ألف ليلة ولية) كمرجع تأريخي تارة ثالثة وفي مجالس القات إن كان من المخزنين.

يقول الحبشي بأن المفسرين - هكذا جمعهم من دون وعي - وصفوا المرأة بـ (النعجة) والمفسرون بذلك قد أهانوا المرأة، كلام سخيف يدل بالفعل لا بالقول على باحث لا يفهم شيء عن البحث، فيكتفي برواية قد تكون من الإسرائيليات التي تملأ بعض كتب التفاسير، بيد أنه يبني عليها حكما مفاده بأن المفسرين أهانوا المرأة ولا يعرف هذا المتقول أو المتفيقه بأن المرأة لم تلق الحظوة والتكريم في دين كدين الإسلام فقد كرمها بنتا، ثم زوجة ثم أما ولست هنا بصدد استحضار سيل من الأدلة على ذلك. لكن هذا المتقول تراه بعد ذلك يصطاد نصوصا وينتزعها من سياقاتها من دون فهم لها ليثبت كذلك بأن ليس المفسرين وحدهم من أهان المرآة بل كل الفقهاء والمفكرين من أمثال الغزالي والنووي وابن تيمية وغيرهم حيث أحصى الجميع ليجعلهم كلهم في سلة غلاة المذهب الحنبلي وفي سلة من أهانوا المرأة. ثم يصور المرأة وكأنها أمة أو عبد في نظر المفسرين، وعلى ذلك يبني حججه على كثير من ترهاته. وما عرف ذلك (المتفيقه) بأن المذاهب الأربعة تنص - وبالإجماع - بأن خدمة المرأة لزوجها غير موجبة شرعا وهي تقوم بتلك الخدمة بكامل رضاها وبدون تكليف شرعي أو إجبار يوجب عليها القيام بذلك.

وتضحك أشد الضحك عندما تجد الكاتب يقول بأن النووي أهان المرأة !! وتكاد تأخذ الدهشة بتلابيب عقلك عندما تجد مثل هذا حديث ممن يقال بأنه مثقف فإذا به يتصيد نصا وينزعه من سياقه؛ ليقول: إن النووي خلع وصف مركوب على المرأة، وهو بذلك قد أهانها. وإذا ما رجع إلى سيقا وصف النووي لا شك أنه يجده في أثناء حديثه عن الزوجة في فراش الزوجية والمعاشرة الجنسية، والمرأة في هذا السياق لا شك أنها تكون (مركوب) فما العيب في ذلك وأين تكمن الإهانة يا متفيقه وهنا لا بد من أن نلتمس العذر للكاتب، لأنه أولا لا يعرف أهمية السياق ولا قول العرب بأنه لكل مقام مقال من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد يكون له مذهبا خاصا في ذلك يخالف به كل المذاهب وكل الأعراف، وأظن أنه شأنه لوحده في هذه الحالة إذ يرى في هذا الوضع ظلما للمرأة ومن باب المساواة عنده أن تكون مركوبا تارة وراكبا تارة أخرى. فمفهوم المساواة متسع عنده ليشمل حتى المعاشرة الجنسية فلا ضير أن يكون مركوبا.

ثم تجد هذا الرجل – وذلك حاله – يقول في مقاله: ( إنهم يسعون الى أسلمة رواسب الجاهلية ) "ولا نبالغ حين نقول ان (حجة الاسلام) الامام الغزالي و(نور الاسلام) الإمام الذهبي و(شيخ الإسلام ) الامام بن تيمية وأضرابهم وأتباعهم من فقهاء التشدد ومهندسي الثقافة السلفية الموروثة عن حقبة الانحطاط والتراجع التي تغلبت فيها البيئة البدوية والصحراوية على البيئة الحضرية، وسيطرت خلالها السلالات والعصبيات القبلية والشعوبية ،والعناصر البويهية والسلجوقية والطولونية والمملوكية والبربرية على مقاليد السياسة والحياة في المجتمع الإسلامي .. إن هؤلاء جميعاً خالفوا القرآن الكريم في الكثير من احكامهم الفقهية ، والمدهش ان المتطرفين يتعاملون مع هذه الأحكام على أنها إحياء وصحوة لصحيح الدين"

فالحبشي هو وحده الذي يعرف تفسير القرآن والسنة وهكذا تجد نفسك أمام مغالطات يقنع بها نفسه فقط ثم يصدق ما يقول وأنا أراهن بأن الطالب في المرحلة الابتدائية سوف يضحك من طرحه ويفهم مغالطاته المفضوحة ولن تنطلي عليه.

فإذا به في مقاله الأخير يتحدث عن الحداثة وتأخر المسلمين ويرجعه إلى نفس السبب، فالفقهاء الغلاة - وجميعهم غلاة في تصوره وليس هناك وسطية ألبتة- هم من ظلم المرأة وهم من احتقرها وهم من أهانها، وهم أنفسهم من وقف حائلا وسدا منيعا في وجه العلم، وهو لا يقصد الفقهاء فسحب بل يقصد الإسلام كله. ونسى بأن أول سورة نزلت من القرآن اسمها سورة القلم، والقلم هو زمر العلم في التداول القرآني، وكون أول ما ينزل من القرآن يدعو إلى القراءة وتسمى أول سورة منه سورة القلم؛ فإنه لا شك دين العلم ودين العقل، ودين الفكر، ودين الحوار بالتي هي أحسن مع الآخر ، فمن أين جاء ذلك المثقف بتلك الترهات يا ترى ؟؟؟ ليقول - متحدثا عن العلماء المسلمين: "قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث، حيث تم حصر صفة (أهل العلم والعلماء) على الفقهاء والمشتغلين في الخطابة بالمساجد"

فلا أدري متى حصل هذا التحقير والتسفيه والاضطهاد في أي عصر ومن أي مرجع أم مصدر استقاه؛ حيث لم ير ولن يرى العالم أجمعه، دينا مجد العلم والعلماء مثل الدين الإسلامي، ولن يروا كذلك دينا دعا إلى استخدام العقل والفكر كهذا الدين العظيم، لهذا كانت اغلب الفواصل في القرآن الكريم، لعلكم تعقلون، لعلكم تفكرون، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون. وأنت نفسك تقول ذلك في مقالك : ( من صدمة الحداثة الى تحديات ما بعد الحداثة ) "حيث نزل التكليف الالهي لعموم المؤمنين بالقراءة وتعلم أمور الدين بواسطة كلام الله في القرآن الذي نزل ليقرأه قوم يفقهون ويتفكرون ويتدبرون ويعقلون "

المشكلة ليست هنا بل المشكلة في تصوره الدخن؛ الذي يرى من خلاله بأن جميع الفقهاء والعلماء لا يفقهون القرآن والسنة لأنهم بشر، وما يقولونه اجتهاد يخطئون فيه ويصيبون، وهو وحده الذي ليس ببشر، وهو وحده الذي يفقهه ويصيب ولا يخطئ هل ترى بأن لدى هذا الرجل ذرة من عقل أو فكر ؟ أنا لا أرى فهل توافقني القول أيها القارئ ؟؟ .


في السبت 29 مايو 2010 09:06:09 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=7212