للأقصى رجال يحمونه
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان

الانتفاضة الاولى بدأت لتحرير الاقصى، والثانية احتجاجا على تدنيسه، والثالثة، التي بدأت تكبر ككرة الثلج، جاءت لحمايته في مواجهات تقويضه، تمهيدا لتهويده، وفضح التواطؤ العربي، الرسمي والشعبي، المتمثل بالصمت الكامل وادارة الوجه الى الناحية الاخرى.

المرابطون في القدس المحتلة يدافعون عن مقدساتهم بأيديهم.. بحناجرهم.. بصدورهم العارية.. باعتصامهم.. بتحدي الرصاص الحي قبل المطاطي.. مرفوعو الرأس.. مستعدون للشهادة.. لا يبحثون عن اعذار.. ولا يؤمنون بالواقعية.. ولا يخشون الفارق الكبير جدا في موازين القوى.

يفضحون 'سلطة رام الله' التي تطلق قوات أمن دايتون لمنع المقاومة، بل لمنع كافة اشكال التظاهر السلمي ضد تهويد الحرم الابراهيمي ومسجد الصحابي بلال بن رباح، وتقبل بالعودة الى المفاوضات غير المباشرة في ظل الاستفزازات الاستيطانية المهينة، وتلغي احتفالا باطلاق اسم الشهيدة دلال المغربي على ميدان في مدينة البيرة تنفيذا لاملاءات اسرائيلية.

السلطة الفلسطينية منهمكة في استقبال المبعوثين الامريكيين الذين يريدون مفاوضات فلسطينية ـ اسرائيلية غير مباشرة، لتحسين الوجه الدموي العنصري لحكومة نتنياهو امام العالم، وعرب الاعتدال منهمكون في تقديم الاغراءات المالية والنفطية للصين للانضمام الى الحصار الاممي القادم ضد ايران.

المدافعون عن الاقصى يفجّرون انتفاضتهم هذه في توقيت من يستشعر الخطر على ارضه وعرضه ومقدساته، فالحكومة الاسرائيلية اعلنت عن بناء خمسين الف وحدة سكنية في القدس المحتلة، ومستوطنوها يستعدون يوم الثلاثاء القادم لاطلاق يوم عالمي من اجل بناء الهيكل الثالث على انقاض المسجد الاقصى، يقتحمون خلاله باحته، ويضعون حجر الاساس، ويقدمون قرابين الفصح العبري.

لم يعودوا يستنجدون بالحكام العرب، ولا حتى بالشعوب العربية والاسلامية، فقد ملوا من ذلك، وقرروا ان يخوضوا المواجهة لوحدهم، مسلّمين بأقدارهم، ومعتمدين على انفسهم وخالقهم.

نحن امام تقسيم جديد للمنطقة العربية يذكرنا بنظيره الذي حدث بعد غزو القوات العراقية للكويت، فهناك نغمة جديدة يرددها بعض المسؤولين بوتيرة متصاعدة، تقول اذهبوا انتم عرب الشمال وحاربوا اسرائيل وحدكم، فهذه مشكلتكم، وخذوا من شئتم من 'المخدوعين' من اهل الاتحاد المغاربي، وفقراء اليمن والسودان، اما نحن فلنا عدونا، لنا ايراننا، ولكم اسرائيلكم.

سيدنا محمد رسول البشرية (صلى الله عليه وسلم) عندما اسرى ليلا الى المسجد الاقصى، لم يأت اليه من نابلس او غزة او دمشق، وانما من المدينة المنورة عاصمة النور والهداية، ومقر الدعوة المحمدية، والبابليون جاءوا الى القدس من ارض السواد، والايوبيون من ارض الكنانة.

لا نعطي دروسا في التاريخ، ولا نلقي المواعظ الدينية والاخلاقية، ولكننا نذكّر من يحاول ان ينسى او يتناسى، ويريد جرّنا الى حروب مدمرة في المكان الخطأ مرة اخرى، يختارها لنا الامريكيون والاسرائيليون، مثلما جرّونا الى حرب العراق تحت اكاذيب وحملات تضليل ما زالت المنطقة تعيش نتائجها الكارثية.

يرسلون الوفود الى روسيا والصين، بتعليمات امريكية، لاغرائهما بالوعود السخية بصفقات رخيصة من النفط والغاز، ومئات المليارات من الاستثمارات المستقبلية، مقابل عدم التصويت ضد قرار بفرض حصار خانق على دولة مسلمة، وكل ما سيحصل عليه هؤلاء في المقابل هو المزيد من المستوطنات والتهويد للمقدسات الاسلامية في فلسطين، التي من المفترض ان تكون مقدساتهم ايضا.

تواطأوا في الحربين الاولى والثانية ضد العراق، ودمروا هذا البلد العربي الذي حماهم من 'التسونامي' الاسلامي القادم من الشرق، ليحصدوا الشوك، والفتنة الطائفية، واختلال التوازن العسكري والجغرافي، ونظام حكم اكثر عداء وتهديدا لهم من سابقه.

الحصار الخانق على العراق، واغراق الاسواق بالنفط الرخيص، واستفزاز القيادة العراقية في كبريائها وعرضها، دفع بها الى كارثة احتلال الكويت، وما ترتب على ذلك من نتائج معروفة ما زلنا نعيش تداعياتها، ولكن هل فكر الذين يسعون لفرض حصار خانق على ايران، وحشد القوى العالمية في وضح النهار للمشاركة فيه، بردود الفعل التي يمكن ان تترتب على خطواتهم هذه؟

ماذا لو قرر الايرانيون الانتقام من الذين يحاصرونهم بطرق ووسائل شتى، اقلها 'الارهاب' وتحريك الخلايا النائمة كخطوة اولى، يتلوها القصف وحرق الآبار والبنى التحتية كخطوة لاحقة، هل نستطيع ان نتحمل ذلك، او نوفر الحماية لمواطنينا وناطحات سحابنا وابراجنا؟

لماذا 'الواقعية' مقدسة عندما يتعلق الامر باسرائيل واسلحتها النووية الجبارة، واحتلالاتها لأرضنا وتهويدها لمقدساتنا، ولكن هذه 'الواقعية' تتبخر تماما عندما يتعلق الامر بدولة عربية او اسلامية، ونبدأ فورا بقرع طبول الحرب واشهار سيوف الحصارات؟

في الوقت الذي يتدفق فيه الآلاف من ابناء القدس المحتلة وعرب فلسطين المحتلة عام 1948 لحماية المسجد الاقصى، نرى اكثر من 'مسجد ضرار' يبنى في عواصم عربية للترويج للتحالف مع الاسرائيليين وتوثيق عرى الصداقة معهم، باعتبارهم الانصار الجدد للعدو الآخر على الامة والمنطقة.

اهل القدس يقاومون ويستبسلون لانهم خارج حدود السلطة في رام الله، ولا يُحكمون من قبل اي نظام عربي، فهم يحاربون العدو مباشرة، وليس من خلال وكلائه العرب، وهذا هو سر جبروتهم واستعدادهم للتضحية بالارواح من اجل الحفاظ على الهوية الاسلامية العربية لمقدساتهم وارضهم.

انهم يعرّون النظام الرسمي العربي، وجامعته في القاهرة، ويفسدون الخطط لنسج التحالف العربي ـ الاسرائيلي المتنامي، ويعيدون الصراع في المنطقة الى منابته الحقيقية دون اي رتوش.

هؤلاء المجاهدون البررة، نقطة الضوء الوحيدة المشرقة في ظلام هذه الامة الحالك السواد. ودماؤهم الطاهرة التي تنزف دفاعا عن المقدسات، وحماية لها، وتمردا على الخنوع العربي والاسلامي الذليل هي الاشرف والانقى، ومبعث الفخر والكرامة والعزة.


في السبت 13 مارس - آذار 2010 05:27:54 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=6667