قصة قصيرة .. زمن للبراءة
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني
  

من يشرب كأسا من الماء على جناح خفاش يحفظ القرآن كاملا ولا ينساه .!

سمعت هذا القول في طفولتي فذهبت إلى الخرابة التي بجوار منزلنا غير عابىء بجدرانها التي يمكن تتهدم فوقي في أي لحظة ، لم أخف مما فيها من زواحف وظلام ، سمعت مرارا أنها مسكونة بالجن ، حكايات كثيرة سمعناها عن جنيات تلك الخرابة وأولادهن ، ورغم ذلك كنا كثيرا ما نذهب نحن الأطفال ونلعب بجوارها .!

 الخفافيش تسكن زواياها المظلمة ، رأيتها مرارا وهي تتدلى من السقوف وتغط في نوم عميق ، وحين نوقظها تطير مرتبكة وتصطدم بنا. 

أمشي بحذر يتبعني أخي الأصغر ، كنا قد أتفقنا بأن عليه أن يصوب ضوء الكشاف نحو السقف فجأة فيما سأقوم بالامساك بالخفاش ، بعد عدت محاولات أمسكت بأحدها ، غمست جناحه في الاناء وسكبت عليه الماء ، بعد دقيقة أطلقته ليعود إلى نومه. ! 

شربت الماء وانتظرت حدوث المعجزة الذهنية العجيبة حيث سيقوم الماء المبارك الذي شربته بتنزيل المصحف كاملا في ذهني خلال دقائق ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث .! 

 هززت رأسي مرارا حتى يشتغل ذهني لكن العملية فشلت ، لم تمض سوى ساعة حتى شعرت بآلام شديدة في معدتي ، وغثيان ، ولم تهدأ الأمي الا بعد أن تقيأت كل ما في بطني .! 

بعد أيام حين كانت جدتي تمضغ القات وتدخن بالمداعة سألتها : 

- صحيح يا جدة الذي يشرب الماء على جناح الخفاش يحفظ القرآن ؟ 

- من قال هذا الكلام ؟ هذه خرافات .

وأضافت : 

- الذي يشرب ماء زمزم وينوي حفظ القرآن هو من يحفظ القرآن خلال شهر واحد .

- وأين ماء زمزم ؟ 

- في مكة 

- وأين مكة هذه ؟

- في السعودية 

- وأين السعودية من قريتنا ؟

- السعودية بعيييد 

- أقدر أروح بكرة وأرجع ؟

- أوف منك ومن أسئلتك .! 

ضجرت جدتي مني وصاحت بأمي : 

- شلي ابنك هذا المزعج بعيد وعمري لي البوري .

نهرتني أمي : 

- روح العب مع الأطفال وخلي جدتك تخزن .

حين خرجت كان الأطفال قد تحلقوا حول سيارة سعيد شعلان القادمة من السعودية ، كانت توزع الرسائل لأسر المغتربين ، لم يكن والدي بالسعودية ولذا لم تصلني رسائل مثل أولاد عمي .

 نقلت زوجة عمي الكراتين التي وصلتها إلى المخزن وأغلقته بالقفل ، حتى أطفالها أخرجتهم ونهرتهم قائلة : 

- مش وقته .

أخذت الكاسيت المرسل لتسمعه لوحدها في غرفتها ، وحين أغلقت الباب كاد الفضول يقتلنا نحن الأطفال ، ترى ما بداخل الكراتين ؟

وتركنا لخيالنا العنان ، أكيد فيها ملابس وهدايا وألعاب ووو .

قال صهيب ولد عمي : 

- تشتوا تسمعوا أبي ايش قال لأمي في الشريط تعالوا بعدي .

حملنا البرميل الفارغ الذي نلعب به إلى تحت النافذة ثم صعدنا عليه بحذر ، كانت عمتي تستمع لصوت عمي وتبكي بحرقة .

فوجئنا ببكائها فتجمدنا مكاننا ، لأول مرة نسمعها تبكي .

وفجأه أوقفت الكاسيت قائلة: 

- واقفون تتسمعوا بعيني لو فاتت لكم .

قبيل المغرب علقنا الزينة العجيبة التي أرسلها عمي ، كانت قناديل صغيرة ملونة بألوان مختلفة ، وحين شغلنا المولد ووضعنا طرفها في الكبس أنطلقت الأضواء تتراقص وتتوهج وتنطفئ بسرعة ونحن في غاية الذهول والدهشة .

بعد المغرب وحين تحلقنا للعشاء قالت جدتي : 

- هاتوا الراديو نسمع بكرة رمضان أو بعد بكرة ؟ 

بعد العشاء أعلنوا في الإذاعة أن غدا أول أيام شهر رمضان فتعالت أصوات الفرحة ، سيظل المولد يشتغل إلى إلى الفجر وسنظل نلعب طيلة الليل . 

جاءت عمتي وهي تخفي حزنها وسلمتني الجواب : 

- أقرأ جواب عمك .

تحلق الجميع حولي وفضضت الجواب بأيدي مرتعشة وبدأت أقرأ: 

- بسم الله الرحمن الرحيم الوالدة العزيزة آمنة 

وأجهشت جدتي بالبكاء فارتبكت وتوقفت عن القراءة فيما سارعت أمي وعمتي إلى تهدئتها وهن يقسمن أن عمي سيعود قريبا ، واصلت بكائها قائلة: 

- له أربع سنين وهو يكذب علي ، متى سيرجع ؟ بعد أن أموت ؟

- ربنا يطول بعمرك يا جدة 

صحنا كلنا بصوت واحد .

هدأت جدتي فواصلت القراءة : 

الزوجة الغالية حبيبة القلب فاطمة 

وأجهشت عمتي بالبكاء .

وعادت جدتي وأمي لمواساتها .

قالت لها جدتي : 

- أنتي معك شريط تسلي نفسك بسماع صوته .

وأضافت : 

- مقدرش يسجل لأمه شريط تسمع صوته مثل مرته ؟!

واصلت القراءة : 

الأخ الشقيق الركن الوثيق عبد الحميد ، الأخت جميلة ( أمي) ، الأولاد جميعا ( وذكر أسمائنا كلنا ) أنا بخير وعافية مشتاق لكم ، والغربة كربة وتعب وعز القبيلي بلاده ، أتمنى أنكم ما أهملتم الأرض ، وأن الأولاد جميعا يروحوا المدرسة ويهتموا بدروسهم فالعلم نور ، لا تغضبي مني يا أمي فأنتي تاج راسي ، وأتمنى أن تكوني بخير وراضية عني وتدعي لي ، وإن شاء أعود إليكم بالعيد الكبير ، وسلامي للجميع. 

عند رؤيتهم لقناديل الزينة جاء كل أطفال المنازل المجاورة للعب معنا تحت أضواء الزينة .

في اليوم التالي جاءت عماتي لقضاء أول ايام رمضان عندنا ، حتى عمتي كرامة جاءت رغم أنها حامل ، كانت تمشي ببطء وتئن ، وبطنها منتفخة مثل كرة كبيرة .

وانضم إلينا أولاد عماتي وتحول منزلنا إلى مهرجان كبير .

بعد أيام أيقظتني أمي من نومي قبيل الظهر قائلة: 

- روح الآن مثل البرق إلى سعيدة يوسف في الظهرة 

- ليش ليش ؟ 

- عمتك تولد وسعيدة يوسف هي من تولد النساء ، تحرك 

مضيت بين المنازل المقفرة ، لا أحد يتحرك سوى بعض الأطفال الذين يلعبون .

طرقت باب سعيدة يوسف ، الأرملة التي تسكن وحدها لكنها لم تجب .

عاودت الطرق حتى استيقظت : 

- عمتي تولد قالت أمي تعالي بسرعة 

- ما جاءتها الولادة الا الآن ؟! 

وعدت تتبعني سعيدة يوسف وعند باب منزلنا سمعت صراخ المولود واستيقظ الجميع وبدأ المهرجان. 

في حفلة طهور المولود جاءت نسوة كثيرات لكن أمي نادتني وأشارت إلى إحدى النساء قائلة: 

- سلم على عمتك مريم 

- عمتي مريم ؟! 

أول مرة أسمع أن لي عمة اسمها مريم .!

- هي أخت أبوك من الرضاعة .

جلست بجوارها ، كانت رائحة الكاذي والمشقر البلدي تفوح منها .

انتظرت أن تعطيني نقودا لكنها لم تفعل .

وحين طال انتظاري بدون جدوى سألتها : 

- أنتي عمتي ؟

- أيوه 

- هاتي لي 100

صاحت أمي : 

- اخرج يا ولد عادك تشتي 100 ريال 

ضحكت النسوة ومدت عمتي يدها إلى جيبها وأعطتني 50 ريالا 

كدت أغادر الغرفة فرحا بالنقود لولا أن رأيتها تناول جدتي قارورة قائلة: 

- هذا ماء زمزم لك يا والدة 

خطفت القارورة من يد جدتي ، طاردتني أمي لكني عدوت سريعا وحين ابتعدت بسملت ونويت حفظ القرآن وشربت الماء كله .

مرت أياما ثم أسابيع وأشهر وأنا انتظر حدوث المعجزة الذهنية العجيبة حيث سيقوم الماء المبارك الذي شربته بتنزيل المصحف كاملا في ذهني دون أن أفتح المصحف أو أحفظ بنفسي حتى صفحة واحدة ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث .! 

 

******


في الأربعاء 14 فبراير-شباط 2024 05:16:00 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=46801