رؤية القاضي العمراني لعهد الأئمة.. قصص التحريض عليه
محمد مصطفى العمراني
محمد مصطفى العمراني
 

 لأن القاضي العمراني قد عاصر عهد الإمام يحي حميد الدين ومن بعده الإمام أحمد وألتقى بهم وحدثت له معهم قصص عديدة وتعرض للوشايات من المتعصبين بسبب تدريسه لصحيح الإمام البخاري وكتب السنة في مساجد صنعاء فكان لابد من ذكر هذه القصص الهامة التي توثق لبعض معاناة القاضي التي تعرض لها وجهوده في تدريس العلم الشرعي من كتب السنة في بيئة فيها الكثير من التعصب والجمود ورؤيته في عهد الأئمة وإنصافه لهم ومن خلال أحاديث القاضي العمراني أتضح لي أن التعصب والتحريض كان من العوام ومن بعض الشخصيات من المتعصبين ومثلما كان في الأئمة من المتعصبين كان فيهم من المتفهمين كما سنقرأ في القصص التي يرويها القاضي بنفسه رحمة الله تغشاه . وقد سألت القاضي العمراني : هل كانت الدولة ممثلة بالإمام تشجع نشر وتدريس العلم الشرعي؟

فأجاب القاضي : (لم تكن الدولة تشجع التشجيع الذي يقول عنه أولاد الإمام، ولا كانوا ضد العلم كما يقال الآن كانوا متوسطين وكانوا أيضاً منصفين والدليل على إنصافهم أنني كنت أُدَرِّس في كتب الأمهات وفي بعض كتب الإمام الشوكاني والعلامة ابن الأمير الصنعاني فجاء زعيم المحافظين السيد قاسم العزي وشتم وسب وتهددني أخيراً بأنه سيكتب إلى الإمام أحمد بأنني أخرب المذهب فكتبت في ورقة إلى السيد محمد زباره أرجو منه أن يقدم ورقتي إلى الإمام أحمد وقلت للإمام في رسالتي: إن السيد قاسم العزي يمنع قراءة كتب الحديث ويقول

: إنه حسب إرادتكم فإذا قد كنتم تريدون ذلك فأمروا من لديكم وإلا فامنعوا التدخل بين طلبة العلم وما يريدون أن يقرأوه فلما وصلت الورقة إلى الإمام قال الإمام : عافاكم الله هذا لا يتصور من إنسان عاقل فضلاً عن عالم أن نمنع قراءة وتدريس كتب الحديث ولكن إرغاماً للشيطان وإرضاء للرحمن وقطعاً للسان ما في مانع أن تقرؤوا ما تريدون من كتب الحديث وتقرؤوا شفاء الأمين الحسين في المذهب الزيدي فتجمعوا بين الشيئين وفعلاً بقيت أدرس من كتب السنة ومن هذا الكتاب فهذا دليل على أنهم كانوا معتدلين ولم يكونوا متعصبين جداً كما يشاع عنهم).

◼️ تحريض قاسم العزي على القاضي العمراني ويروي القاضي العمراني ـ رحمة الله تغشاه ـ بتوسع قصته مع قاسم العزي والذي ذكر خلاصتها سابقا ـ وما تعرض له أثناء تدريسه في جامع الفليحي بصنعاء القديمة من مضايقات ومحن : يقول القاضي : ( بينما كنت أدرس طلاباً جاءوا إلى اليمن من المخلاف السليماني من ( صبيا ، وجيزان ، وأبي عريش )

(1) أي من المملكة العربية السعودية ، جاءوا يطلبون العلم على عادة أجدادهم

(2) ، فقد كان هذا المخلاف مرتبطا بحكومة صنعاء قبل ذلك ، وكان الكثير من بيوتات ذلك المخلاف مثل : بيت النعمي ، وبيت الضمدي ، وبيت الحازمي ، وبيت عاكش ، وبيت السميعي وغيرهم ، كانوا يطلبون العلم على يد علماء صنعاء ، مثل الأمير والشوكاني ومحمد بن علي العمراني ( جد شيخنا ) فهؤلاء الطلاب كانوا يقرؤون عندي كتب الشوكاني والأمير وغيرهما ، وكان يرتاد هذا المسجد أصناف من الناس من بينهم زيدية متعصبون لمذهبهم على رأسهم قاسم بن حسين أبو طالب الملقب بالعزي

(3) . وكان هذا الرجل من أهل الوجاهة في الدولة ، وله بين العوام صولة وجولة ، وكانوا يعتبرونه من المقدمين ومن علية القوم ، وكان آية من آيات إيران ( آية الله قاسم العزي ) ، وكنت أحاول أن ألقي الدرس حين غيابه وأحيانا أدخل أنا وطلابي متوارين قبة المسجد حيث ان لها بابا منفصلاً ، ولكن جاءنا قاسم العزي إلى داخل القبة فجأة ونحن متلبسون بنظرهم بجريمة تدريس كتب السنة ، فأقبل علينا يمشي بخطى وئيدة متهكماً قائلاً :

ـ ماذا تدرسون ؟ فأجبته إجابة فيها نوع من التحدي والصراحة من غير مواربة ولا مداراة ، علماً بأنه كان ذو منزلة عالية رفيعة القدر في قلوب العامة في صنعاء ، وكان لكلامه عندهم قدسية حتى لكأنه يتكلم بلسان نبي )!!. ويضيف القاضي العمراني : ( قلت له : هذا كتاب " نيل الأوطار " شرح منتقى الأخبار لشيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني ، وهذا كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام للسيد البدر المنير محمد بن اسماعيل الأمير. فوصلت الكلمات إليه كأنها صواعق مرسلة ، وإذا به يهاجم بكلام ملؤه الغيظ والحنق قد أحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه ، رافعا صوته يبرق ويرعد :

اتقوا الله ـ بصراخ يصدع الرؤوس ـ أو قد نسيتم دخول القبائل إلى صنعاء ، هاتكين الحرمات ، ناهبين البيوت والمتاع ، وأن ذلك كان ـ على حد تعبيره ـ بسبب هذه الكتب ، كتاب أهل السنة المعادية لأهل البيت ، اتركوا كتب الناصبة.

. (4) فظل هكذا يصرخ ويعول حتى قلنا ليته سكت ، ولكن لم أبال به ، فما إن مضى لسبيله حتى عدت لمواصلة الدرس وبدون تلكؤ : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : .. ثم ذهب يتوضأ (يقصد قاسم العزي ) وبعد انتهائه من وضوئه أقبل يبحث عني ، ـ وكنت قد أتممت الدرس وذهبت ـ فما كان منه إلا أن توعد وهدد بأنه سيكتب إلى وزير المعارف محرضا إياه علي توقيف معاشي أو راتبي ، علماً بأن هذا المعاش كان مقابل ما اعطيه من دروس في المدرسة العلمية التابعة إداريا لوزارة المعارف ، أما الدروس التي تلقى في المسجد فعادة العلماء في اليمن وغيرها أنهم يقومون بها لوجه الله لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكوراً .

◼️رد وزير المعارف بصنعاء على تهديد قاسم العزي ويضيف القاضي العمراني ـ رحمة الله تغشاه ـ وبمجرد سماعي لتهديده ووعيده ذهبت مباشرة لمقابلة ابن وزير المعارف ، وكان ولدا ذكيا ليبا متفهما للأمور ، فسردت له قصتي مع قاسم العزي والذي منعني أن أذهب للوزير نفسه أن سمعته كانت سيئة ، والحمد لله فقد كان جواب الولد لي : أن أطمئن واكتب وأكتب ورقة تشرح فيها موضوعك أوصلها إلى أبي ، ففعلت ، وكان الجواب من الوزير ( درسوا ما أردتم ، فنحن لا نصدق أحد ) . لكن قاسم العزي لم يكتف بهذا ، خاصة بعد علمه بجواب وزير المعارف لي ، فهدد بأنه سيكتب إلى الإمام في تعز مبالغة منه في التحريض والتشفي من أهل السنة

، ويومئذ لم يكن الإمام يعرف عني شيئاً فلهذا نصحني كثير من الناس الأفاضل بالذهاب إليه حتى لا يصدق أي وشاية عني تشوه سمعتي سواء من قبل أخيه الحسن بن الإمام يحي الذي كان يعاديني عداء سياسيا حتى أنه سجنني أكثر من مرة ولا أعلم سببا لذلك . ويروي الشيخ علي الفقيه ـ أحد طلاب القاضي العمراني ـ أنه أخبره عن وفاة الحسن بن يحيى حميد الدين فقال

: مقلع .. قال كان يؤذينا.. ويضيف الشيخ علي الفقيه : ( ومن التعبئة المقيتة ضد شيخنا أوغروا بعض المغفلين ضده ولدرجة أنه كان يرسل له من يشتري له احتياجات البيت.. قال أحد الجزارين لمن هذه اللحمة للذي يحب الأوش. يعني الخلفاء الثلاثة أبوبكر وعمر وعثمان.. الأوش كلمة تركية تعني ثلاثة.. وإذا حضر تشييعا كان المتعصبة يرفعون أصواتهم ويلوون أعناقهم باتجاه شيخنا خاصة عند قولهم : " على ولي الله ".. (5) ويواصل القاضي العمراني رحمة الله تغشاه : ( ثم بقيت في صنعاء مدة خائفا أترقب حتى اهتديت إلى شيخي العلامة السيد محمد زبارة فذهبت إليه ، فقلت له ما حدث مع قاسم العزي ووزير المعاف ، واستعطفته ان يكتب لي رسالة إلى الإمام يزكيني فيها ، ويشيد بي عنده ، حتى لا يصدق أحداً يريد تشويه سمعتي ، بمعنى آخر أريد منكم تعريفا للإمام بمذهبي وعقيدتي حتى يعرف الإمام من أنا فقط لا غير . فقال لي : أكتب بيدك رسالة إلى الإمام وأنا أذيلها بسطور تفيد تعريفاً بشخصك ، ففعلت ، وفعل جزاه الله عني خيراً ، وكان مفاد رسالته : ( أن القاضي محمد بن اسماعيل العمراني رجل عالم وفقيه غير متعصب ولا ميال إلى أي مذهب من المذاهب ، وهو يتصف بالإنصاف إلا أنه يخشى الوشاة أن يغرروا عليكم يا مولانا بأنه يريد تخريب المذهب وأنه يناصب أهل البيت العداء ، بل هو ينهى عن ذلك ، وأن له نشاط وهمة عالية في تدريس كتب الحديث والسنة فقط ، فلا تصدقوا قاسم العزي أو غيره

، وتفضلوا بالجواب على العمراني في ظاهر ورقته ) . وكنت قد ذكرت له في الرسالة أن قاسم العزي يمنع تدريس كتب الحديث ويقول هذا بأمر من قبلكم فإن كان صادقا فتفضلوا وامنعوا أنتم وأكتبوا بخطكم ، أما أن يتدخل قاسم العزي باسمكم فلا يرضيكم هذا ، ...إلخ

◼️رد الإمام على شكوى القاضي العمراني فأجاب الإمام أحمد قائلا : ـ ( حماكم الله لا يتصور أحد أن تمنع كتب السنة أن تدرس في المساجد من إنسان عادي فضلا عن عالم من العلماء ، وإذا قيل لكم أن الإمام يمنع هذا فلا تصدقوه ، ولكن أنصحكم إرغاما للشيطان وإرضاء للرحمن أن تجمعوا بين الشيئين ، فتقرؤوا شفاء الأوام للأمير الحسين

(6) وتقرؤوا بالإضافة إلى ذلك من كتب الحديث ما تريدون إما البخاري أو مسلم أو غيرها من كتب السنن والمسانيد حتى تقطعوا عنكم تقولات الآخرين وتدحضوا بذلك الشبهة التي تروج ضدكم بين العوام ، والله يرعاكم والدعاء منكم مستمد كما هو لكم مبذول ) . يقول الدكتور عبد الرحمن الأغبري مؤلف كتاب ( في تعليقه على القصة : ( من الواضح أن جواب الإمام فيه شيء من الذكاء والدهاء حيث أنه عند الخاصة والعامة من علماء اليمن المشار إليهم لا يريد أن يتهم بأنه يمنع كتب أهل السنة ولا يريد أن يثير الدهماء من العوام رعاع الناس على العلماء ، وهو بذلك ينفي عن نفسه التهمة ويمنع وقوع الفتنة ، وكذلك كانت رسالة القاضي العمراني إليه حيث استعمل عقله ودهاءه فأجبر الإمام على أن يجيب هذا الجواب ليرضى جميع الأطراف ). ويواصل القاضي العمراني ـ رحمة الله تغشاه ـ : وما إن وصل الجواب إلى العلامة محمد زبارة ،

فأرسل لي رسولاً فأتيته ، فعرض علي جواب الإمام فأخذته معي ، وبينما أنا في الطريق قابلت كاتب قاسم العزي فقلت له : اقرأ هذا الكتاب ، ثم قلت له : ها قد رأيت بنفسك ، فأخبر قاسم العزي بما رأيت وقل له يدعني وشأني ، فأوصل الخبر إلى قاسم العزي ..!! فثارت ثائرته ، فحث الخطى نحو السيد محمد زبارة وترك وظيفته وشغله حيث كان موكلا بمقابلة القشامين

(7 ) والسنادرة

( 8 ) ، وإذا به يطرق الباب فصعد إليه ، وبعد أن سلم ، وما كاد ينهي سلامه حتى قال : هيا مه يا صنو.

(9 ) محمد قد ذاك القاضي محمد معه أمر من الإمام

(10) !! من الذي أوصل العمراني إلى الإمام ؟ والله ما أظن الوسيط إلا أنتم ) . وأخذ يلوك كلمات لا يفهم معناها متضجراً مما حدث وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على غليان صدره ، حتى طفح منه الكيل ، فأخذ يتألم ويعض أصابع الحسرة ، كل ذلك خوفا من انتشار السنة بين العوام .!! ويبدو ذلك من كلامه مع السيد زبارة ، فأخذ الأخير يهدئ من روعه ويسكن ثائرته ، وأنه متحير مثله وأن العمراني قد جاءه قبله مظهرا نشوة الانتصار ، وقرأ لي جواب الإمام له ثم خرج ضاحكا مسروراً . فإذا بالعزي يقف متسائلاً واضعاً يده على ذقنه متحيرا كيف وصل العمراني إلى الإمام ، فما كان منه إلا أن قلل من كبريائه وغطرسته ومماحكاته لي.

، ثم جاء بنفسه إلي يعض علي أني إذا أردت تدريس كتاب شفاء الأوام فإنه سيخرج لي نسخة من البيت . قال القاضي العمراني : والحمد لله ، بعد أن نصرني عليه ، فكنت بعد ذلك أختار وقتا بين مغرب وعشاء لتدريس كتاب الشفاء ، وبعد الظهر أختار من كتب السنة ما شئت ؛ وهذا من فضل الله علي وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . وما إن انتهيت من مماحكات قاسم العزي إذا بأخ الإمام الحسن يقوم ضدي . وتلك قصة أخرى .. وبخصوص الطلاب من أبناء عريش ونجران الذين كانوا يدرسون عند القاضي العمراني فبعد قيام ثورة 26 سبتمبر توسط لهم القاضي وتم نقلهم بطائرة خاصة إلى مناطقهم . (11) يتبع .. مقتطف من كتابي " مع العلامة العمراني ـ أحداث ومواقف وقصص لم تنشر " والذي سيصدر قريبا بإذن الله . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

1ـ مناطق في السعودية كانت تابعة لليمن أيام الحكم العثماني والدولةالقاسمية أنظر كتاب " تأريخ اليمن الحديث والمعاصر " د حسين عبدالله العمري ـ إصدارات دار الفكر طـ 1

2ـ ذكر هذا القاضي العمراني أثناء الدرس ـ أنظر كتاب " القاضي العلامة محمد بن اسماعيل العمراني ـ حياته العلمية والدعوية ـ د عبد الرحمن الأغبري ـ مكتبة الإرشاد صنعاء طـ 1

3ـ وردت له ترجمة في كتاب " نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر " تأليف محمد بن محمد زبارة تحقيق مركز الدراسات والأبحاث اليمنية صنعاء طـ 1 1989م .

4ـ الناصبة كلمة يطلقها البعض من المتعصبين الزيدية على السنة لأنهم يعتقدون أن السنة يناصبون أهل البيت العداء .

5ـ أنظر ما كتبه الشيخ علي الفقيه بصفحته في الفيسبوك بعنوان " شذرات مختصرة عن شيخنا العلامة العمراني "

. 6ـ كتاب " شفاء الأوام في أحاديث الأحكام " للأمبر الحسين بن بدر الدين وهي أحد الكتب الفقهية المعتمدة لدى الزيدية

. 7ـ القشام من يزرع الفجل والكراث والبصل ويبيعه

. 8 ـ السنادرة جمع سنيدار والسنيدار هو من يقوم بشؤون المسجد .

9 ـ الصنو : الأخ .

10 ـ هيا مه : تعني ماذا حدث ؟ وتقال للاستغراب .

11ـ ذكر هذا الشيخ علي الفقيه فيما كتبه عن شيخنا العمراني .


في الجمعة 06 أغسطس-آب 2021 05:34:08 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=45585