بسم الشرعية الثورية!
دكتور/فيصل القاسم
دكتور/فيصل القاسم

لا شك أن الثورات وخاصة الناجحة منها جديرة بالفخر والاعتزاز والتخليد. أما الثوار وخاصة العظام منهم فهم بدورهم نباريس ومشاعل تضيء دروب الأجيال، وتلهم الشعوب من أجل نيل المطالب والتحرر من ربقة الاحتلال والقهر والمذلة والفقر والتسلط. لا غبار أبدا على الثوار والثورات طالما هي من أجل أهداف سامية. لكن وللأسف الشديد، فهي، وخاصة في العالم الثالث، ليست دائما من أجل أغراض نبيلة. وإذا أردنا أن نكون أكثر إنصافا لتلك الثورات نقول إنها انحرفت عن مسارها انحرافا خطيرا في كثير من الأحيان، لا بل تحول ثوارها إلى وبال على مجتمعاتهم ، إن لم نقل عبئا أو كابوسا يجثم على صدورها كجبل من الصخر.

فإذا نظرنا إلى عدد من ثوار العالم الثالث نرى أنهم ناضلوا من أجل طرد الاستعمار، لكن ليس ليحرروا بلدانهم من الاحتلال والنهب والسلب والقمع والقهر، بل من أجل أن يحلوا محل الاستعمار كلصوص وطغاة. وبذلك تحولوا من ثوار إلى ما يمكن أن نسميهم بمستعمرين وطنيين. والحجة دائما حاضرة. إنها الشرعية الثورية. فباسم هذه الشرعية اللعينة يجثم هؤلاء الثوار على صدور العباد لعشرات السنين حتى يأخذ الله عز وجل أرواحهم ويخلص الناس من شرورهم.

قلما تجد ثوريا حل محل الاستعمار أو أعوانه يترك عرش الحكم إلا بعد أن يكون قد فعل بشعبه أكثر مما فعله الاستعمار بألف مرة، بحجة أنه حرر البلاد من الغزاة. والأمثلة كثيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ففي هذا البلد العربي أو الأفريقي تجد أن الجبهة التي قادت الثورة ضد المستعمر ما زالت رابضة في مكانها لا تتزحزح. فهي مستعدة لأن تُدمر البلاد كي تحافظ على نفسها. وعندما تسألهم من أعطاكم الحق بأن تبقوا في الحكم كل هذا الوقت يقولون لك: نحن أصحاب الثورة. نحن الذين حررناكم من نير الاستعمار. وعلى هذا المنوال تصبح الشرعية الثورية مصدر استرزاق " لهؤلاء الثوار" وذريتهم. فابن الثائر ثائر حتى لو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وهلم ما جرى. وبقدرة قادر يتحول الثوار إلى تجار. ويصبح الفساد سيد الأسياد. هل سمعتم عن جنرالات السكر والأرز والطحين والكومبيوتر. إنهم موجودون بكثرة في العديد من بلدان العالم الثالث يسلبون وينهبون، وهم يرتدون بز اتهم "الثورية" بألوانها الخاكية الزاهية. وقد توصلت إلى نتيجة لغوية مفادها أن كلمة ثورة هي في واقع الأمر مؤنث كلمة ثور، أي البقرة، والدليل على ذلك أن الثوار الأشاوس يحلبونها إلى آخر قطرة في ضرعها بعد أن تستتب لهم الأمور .

ولو اقتصر الأمر على الثوار لقلنا نتحملهم حتى يولّوا على أمل أن تتحسن الأحوال من بعدهم. لكن من قال إن المصيبة تنتهي برحيلهم إلى جهنم. فالكارثة تستمر حتى بعد زوالهم. فكما ورِثوا جاههم من الاستعمار، فإنهم يورثون ثوريتهم المزعومة إلى ذريتهم حتى وإن كانت أسقط الساقطين. فنرى مثلا أن المنحدرين من نسل أحد الفاتحين أو القادة استأثروا بمقاليد الحكم من بعدهم، وراحوا يتعاملون من بلدانهم في آسيا وأفريقيا كما لو كانت ملك آبائهم وأمهاتهم. ففي إحدى المناطق في هذا العالم الكبير التي ثار أحد أبنائها على المستعمر، وأبلى بلاء حسنا ضده مازال أبناؤه وأحفاده وأحفاد أحفاده يستغلون إرث جدهم في الحصول على أفضل الامتيازات والمناصب، مع العلم أنهم لا يستحقون إلا الركل على مؤخراتهم المفلطحة وكروشهم المتضخمة. فليس من الضروري أن يكون كل أبناء وأحفاد هذا الثائر أو ذاك أناساً محترمين أو جديرين بالتقدير كي يتاجروا باسمه، ويستغلوا مآثره أو بطولاته. ففي هذا المثال بالذات نرى أن القسم الأعظم من ذرية ذلك الثائر هم من الفاسدين قلباً وقالباً. مع ذلك فما زال يُنظر، إليهم وللأسف الشديد، على أنهم وجهاء المنطقة وعلية القوم، لا لشيء إلا لأنهم يحملون اسم عائلة ذلك الثائر. إنه أرخص أنواع استغلال الثورة والثوار.

والأنكى من ذلك أن بعض الدول الثورية ترفض ترشيح شخص لمنصب مهم ما لم يكن قد شارك في الثورة أو ينتمي إلى أسرة ساهمت فيها. وبذلك تصبح الثورة غنيمة تتوارثها الأجيال فتنتقل من يد إلى يد إلى ما شاء الله إلى حد يجعل العباد يلعنون الساعة التي تحرروا فيها من نير المستعمر. فالاستعمار على الأقل معروف الأهداف والغايات ولا يستحي منها، ناهيك عن أنه لا يورث استعماره إلى مستعمر آخر، كما يفعل أصحاب الثورات. كم من الجرائم والمغانم والنهب والسلب والبطش والتعسف يرتكب باسم الشرعية الثورية؟ فعندما شعر أصحاب الشرعية الثورية في إحدى الدول بأن هناك من ينافسهم على عرش البلاد لجئوا إلى كل الأساليب الهمجية بما فيها استئصال منافسيهم عن بكرة أبيهم. لا يهمهم أبدا أن تخسر البلاد مئات الآلاف من شبابها . لا يهمهم أن يُدمر الاقتصاد، وتأتي الحرب الأهلية على الأخضر واليابس طالما أنهم يحافظون على امتيازاتهم التي أباحتها لهم "شرعيتهم الثورية".

وفي بلاد أخرى ترى أن الثورة مستمرة لعشرات السنين. فالشرعية الثورية لا تبيح لأصحابها فقط الإمساك بزمام الحكم من ألفه إلى يائه، بل أيضا المضي في الثورة على طريقتهم الخاصة، بحجة أن أهدافهم لم تُنجز بشكل كامل بعد رحيل المستعمر، ولا بد من إبقاء البلاد في حالة استنفار وعسكرة إلى ما شاء الله. والهدف من ذلك، كما هو واضح، ليس من أجل البلاد بأي حال من الأحوال، بل من أجل إبقاء حالة من التأهب والاستنفار تحميهم من أي تحرك قد تلجأ إليه شعوبهم. فالثورة المستمرة أو المستدامة التي بشر بها مهووس مثل تروتسكي ما زالت، وللأسف الشديد، تسود العديد من البلدان بأشكال عدة. والثورة طبعاً منها براء. فباسم الثورة المستمرة يُقمع الناس، وتُصادر الحريات، وتُكمم الأفواه، ويُشل الاقتصاد، وتُنهب البلاد، وهو عكس الثورة تماماً. فالثورة تحرك وتقلب وتطور. أما الثورات المزعومة التي استمرت حتى بعد جلاء المستعمر وأعوانه فهدفها على ما يبدو إبقاء البلاد والعباد في حالة شلل تام، فلا اقتصاد يتطور ولا صناعة، ولا تجارة، ولا تكنولوجيا، ولا إبداع، ولا من يحزنون. كل ما هنالك مسرحيات باسم الثورة أصبحت مفضوحة ومكشوفة للقاصي والداني.

ولا يختلف الأمر بالنسبة لأمريكا اللاتينية. فهناك نموذج أو نماذج من هذه الشرعية الثورية التي ما زالت تحكم بعض البلدان هناك منذ أكثر من أربعين عاما. والممتع في هذه الثورات أن بينها قو اسم مشتركة كثيرة. فكما أن ثوار آسيا وأفريقيا يريدون توريث شرعيتهم الثورية لأبنائهم وبناتهم كي يظلوا يحلبونها ويسترزقون من ورائها إلى أبد الآبدين عملا بمبدأ الأقربون أولى بالمعروف، فإن ثوار أمريكا اللاتينية سائرون على المنوال ذاته. فبعد أن هرم هذا الجنرال أو ذاك وأصبح يعاني من الآلام وآفات الشيخوخة، أبا إلا أن يُسلم مقاليد " الشرعية الثورية" إلى أقرب المقربين. إنها "الأخوة" في أنصع صورها.

كم من الثوار جاءوا إلى الحكم باسم الثورة. وكم من الملايين أنفقوها على الاحتفال عاما تلو الآخر بهذه الثورة أو تلك! إنهم يذكروننا كل عام بمنجزات ثوراتهم على المستعمر حتى حفظتها الشعوب عن ظهر قلب، لا بل أصبحت تلعن اليوم الذي يصادف فيه عيد الثورة. فنحن لا نسمع عن أعياد الثورات إلا في العالم الثالث البائس. أليس من الأفضل ألف مرة أن تُخصص الآلاف الأمتار من القماش الذي تُكتب عليه شعارات و "منجزات" الثورة، أليس من الأفضل أن يوزع على أصحاب المؤخرات العارية في هذا العالم الثالث الذي يعاني سكانه من كل شيء إلى حد يجعل المرء يتساءل لماذا وصل الأمر إلى هذا الحد من السوء في ظل قادة هذه الثورات وهؤلاء الثوار؟ ألا يكفيكم كذبا وتبجحا "بمنجزات" ثوراتكم؟ إلى متى تلاحقوننا بها وتقحمونها على مرآنا ومسامعنا؟

لكم هو الفرق شاسع بين القائد البريطاني الشهير ونستون تشيرتشل وبين قادة وثوار العالم الثالث! فبينما يحلب هؤلاء الثورة إلى آخر قطرة فيها، ثم يورثون مغانمها إلى أبنائهم وبناتهم والمقربين منهم من الساقطين والفاشلين، نرى أن تشيرتشل تنحى عن الحكم مباشرة بعد انتصاره الكبير على هتلر والنازية في الحرب العالمية الثانية. فلم يظهر تشيرتشل أمام الجماهير البريطانية بعد النصر ليقول لها: "ها أنا انتصرت، ولهذا سأجثم على صدوركم إلى أبد الآبدين". على العكس من ذلك، ما أن وضعت الحرب أوزارها، وذهب البريطانيون إلى صناديق الاقتراع حتى رموا بتشيرتشل خارج الحكم، فلم ينتخبوه، واختاروا بدلا منه شخصاً آخر ليحكم البلاد. ولم يقل تشيرتشل لشعبه إن هذا الشعب خذله، وإنه أي تشيرتشل جدير بالحكم لأنه انتصر على النازية. على العكس من ذلك فقد قبل بخيار الشعب البريطاني عن طيب خاطر، وتنحى جانباً. لكن البريطانيين لم ينسوا فضله فكافئوه يوم وفاته عام 1965 عندما خرجوا شيباً وشباباً لتشييعه إلى مثواه الأخير.( كم من الناس سيخرجون لتشييع أحد ثوار العالم الثالث عندما يفارقون الحياة إلى الجحيم؟) ومن ثم اختاروه أي تشيرتشل في استفتاء آخر القرن كأعظم رئيس وزراء حكم بريطانيا. لقد رأى البريطانيون بعد النصر على النازية أن تشيرتشل ربما كان الشخص الأفضل لقيادة البلاد أيام الحرب ضد هتلر، لكنه، برأيهم، ليس الشخص الأفضل لقيادتهم وقت السلم. لهذا فقد استبدلوه بقائد آخر يعرف متطلبات مرحلة ما بعد الحرب. أما ثوار العالم المتخلف وقادتهم "الأبطال" فهم بقدرة قادر لكل زمان ومكان.


في الثلاثاء 11 سبتمبر-أيلول 2007 08:18:29 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=2512