|
بعد أوصلت الأحداثُ المتتالية اليمنيين في العقدين الأخيرين على الأقل إلى شعورٍ شبه تام بالتشاؤم حيال إمكانية أن تلتئم الجروحُ التي أحدثت شروخا غائرة وفجوات عميقة في الواقع اليمني بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، نتيجة الوصول إلى انسداد تام في الأفق السياسي، أفرزته العديد من السياسات العشوائية التي مورست من قبل جناح صغير داخل الحزب الحاكم سابقا، سيطر أفراده على القرار والوجهة وتنافسوا بنهَمٍ في ماراثون تسلطي ببعديه المالي والإداري، صارفين نظرهم عن الهدف الرئيس الذي انتُخبوا على أساسه، أو قل إن شئت أقنعوا أنفسهم بأن الشعب انتخبهم ليحققوا أهدافه، ولتتجه وجهة أهدافهم وجهةً إقصائية، فأقصيَ شركاء الوحدة والوطن في مشاهد دراماتيكية أحكم المخرجون فيها الحبكة الفنية والموضوعية دارت أحداثها حول بطل ملهم بفريق منتقى بعناية امتلك من أساليب الدهاء ما جعله يخرج منتصرا - بمقاييسه - على خصومه من أطراف اللعبة وشركاء الوطن، فانتصر في إخراج من طلب الوحدة وسعى بقوة نحوها بغض النظر عن ملابسات ذلك السعي، واستطاع أن يرسم في أذهان الناس صورة مخادعة مفادها بأن الطرف الآخر هو من تجنى على الوحدة وسعى إلى الانفصال، وبالتالي وجب إخراجه من المشهد السياسي، ثم التفت إلى مشهد آخر ليوقع بشريك آخر من شركاء الوطن فشوه رموزه وسعى إلى إفشالهم بطرق شتى وظفت فيها إمكانات الدولة المادية والإعلامية والإدارية لينفرد أخيرا بصنع القرار دون منازع وتنقاد له سائر مؤسسات الدولة وقطاعاتها، وليتفرغ لمشهدٍ تالٍ يختلف عن سابقاته في الحبكة والموضوع ويتفق في الوجهة والهدف، فاندفع بقوة بعد نجاحه في إزاحة شركاء الوطن السياسيين ليهيئ لمرحلة جديدة وعهد جديد عنوانه التوريث، وفي سبيل ذلك فليس من تحد أمامه سوى أن يُحول مؤسسة الجيش أولا من الولاء للوطن إلى الولاء المطلق لأشخاص غير وطنيين، فانبرى لتأسيس جيش بديل رصدت له ميزانيات هائلة في مقابل إيقاف كافة أشكال التجهيز والدعم عن الجيش الوطني، وليزجَ الأخير في أتون صراعات وحروب الهدف منها إضعافه وإنهاكه وإظهار الجيش الجديد بأنه المنقذ والجدير بالبقاء والتطوير، وهو الأسلوب ذاته اتخذه – بالتوازي - مع المؤسسة الأمنية من خلال إحلال جهاز الأمن القومي بديلا عن الأمن السياسي لأهدافه غير الوطنية، وكذلك ما يتعلق بأجهزة مدنية أخرى.
كل تلك المشاهد وغيرها كثير لا يتسع المجال لذكرها أوصلت اليمن إلى انسداد تام في المشهد السياسي يستحيل معه مجرد التفكير أو الحلم في حوار وطني، أو تنتفي معه جدية وجدوى الدعوة –إن وجدت- من رأس السلطة السابقة إلى إجراء حوار سياسي حقيقي.
وفي ظل قتامة هذه المشاهد وسوداويتها بزغت في الأفق بارقة أمل وبصيص من ضوء فجر جديد، انطلقت خيوط ضوئه من تونس فمصر وصولا إلى اليمن، ليكون ذلك الفجر إيذانا بميلاد جديد قلب كل الموازين وبعثر كل الحسابات، نُسجت خيوط ذلك الفجر من دماء الشهداء وأنات الجرحى وحناجر الثوار المزمجرة، فاخترقت جدار الظلمة الكالح لتحيله نورا يضئ جنبات الأرض والإنسان.
ورغم الجروح الغائرة التي خلفها الوضع السابق وبذور الفرقة التي رُويت بسيل جارف من الأساليب الملتوية، ورغم المُفاصلة والحدية الواضحة أثناء الثورة فإن اليمنيين استطاعوا بحكمة أن يسمُوا فوق ذلك كله مغلبين مصلحة الوطن على المصالح الأخرى تاركين وراء ظهورهم مخلفات تنوء بحملها الجبال الراسيات، رغم ذلك كله حكم الجميع العقل وارتضوا أن يجلسوا على طاولة واحدة وتحت سقف واحد، وهذا الأمر في حد ذاته غاية في الإيجابية والحكمة رغم التباينات في المواقف والرؤى والأهداف، تجسدت ملامح تلك الحكمة في أن ينزع الجميع فتيل حرب كانت على وشك أن تقرع طبولها لن يكون فيها مكان لمنتصر والخاسر الأكبر فيها هو الوطن، وهنا لا يمكن أن نغفل الدور الذي لعبته الأمم المتحدة ودول الخليج عبر ممثليهما ابن عمر والزياني الذين لم يدخرا وسعا إلا وقاما به ووقفا بحزم أمام من يتبنى مشاريع صغيرة على حساب الوطن الكبير.
إننا إذ نتابع كل يوم ما يدار في جلسات الحوار التي تعقد في أجواء غاية في الحساسية والدقة فإن التقييم الأولي لذلك يختلف من شخص لشخص ومن طرف لآخر، بين متشائم يرى أن الحوار لن يخرج بحلول عملية تسهم في الانتقال السلمي للسلطة وبناء الدولة المدنية نتيجة لدخول كل طرف بأجندات خاصة لا يمكن التنازل عنها بأي حال من الأحوال، وبين متفائل يرى أنه وإن اختلفت وجهات النظر مهما كانت حدتها ووجهتها فإنه لا يمكن الانحراف عن الهدف الأسمى والغاية الكبرى المتمثلة في بناء دولة مدنية على أسس وطنية وقواعد صلبة ومنطلقات سليمة، وأنه بمقدار الاتحاد في وجهات النظر والتوافق على ثوابت لا يمكن المساس بها وإعلاء كلمة الوطن فإنه سيتم تجاوز هذه المرحلة الحرجة والخروج من عنق الزجاجة.
إن ما يجري في اليمن اليوم ليؤكد وبما لا يدع مجالا للشك في أن اليمن تقف على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخه المعاصر، وحقيقة ظاهرة للعيان هي أن حوارا جادا ارتضاه اليمنيون وانتهجوه يختلف كليا في جوهره وطريقته وأسلوبه عما كان يدار في الفترات السابقة، فشركاء الوطن جميعهم بلا استثناء ممثَلون في هذا المؤتمر، والجميع ارتضى الحوار أسلوبا وحيدا لحل المشكلات العالقة، وهم على قناعة تامة بجدية الحوار وأهمية ما سيسفر عنه من نتائج، فما كان يحلم به اليمنيون بالأمس تحقق واقعا ملموسا اليوم.
في الثلاثاء 02 إبريل-نيسان 2013 10:11:28 ص