|
على الرغم من كثرة الكتابات التي تتحدث عن القضية الجنوبية، إلا أنها تبقى غير قادرة على تعريفها بشكل واضح، حيث يتم التورية عنها بقضايا كثيرة من قبيل التمييز والاستبعاد، ونهب الأراضي وتسريح الموظفين العسكريين والمدنيين وقضية الهوية والفساد وغيرها من القضايا الحقيقية أو التي يتم المبالغة في حجمها. في نفس الوقت يتم اختصار حل كل هذه المشاكل بحل واحد ووحيد وهو استعادة دولة الجنوب وانتهاء دولة الوحدة. الأمر الذي يجعلنا نستنتج بأن القضية الجنوبية ليست سوى استعادة دولة الجنوب السابقة، أو بما يسمى من قبل المعارضين لها “الانفصال”.
وبما أن الآمر على ما ذكرنا، فإن من الممكن إرجاع بدء القضية الجنوبية إلى الفترة التي أعقبت قيام الوحدة مباشرة، وليس إلى ما بعد حرب 1994 كما يتم ترديده، فمنذ انتهاء سكرة الوحدة، بعد أشهر عديدة من قيامها، أتضح للطبقة السياسية التي كانت تحكم الجنوب أنهم قد دخلوا في مشروع خاسر. حيث تبين لهم أن قرار الوحدة الاندماجية كان متسرعا وخاطئا، وأن مسألة بقائهم في الحكم غير مضمونة، إذ أن منطق الأمور يتجه نحو السيطرة الدائمة للأغلبية الشمالية، ومن يمثلها، على حكم الدولة الموحدة. وقد تأكد هذا الأمر بشكل عملي بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ابريل 1993، إذ أكدت هذه الانتخابات توقعات الطبقة السياسية الجنوبية، خاصة أولائك الذين لم يكونوا متحمسين للوحدة الاندماجية، من صغر نفوذ الطبقة الحاكمة الجنوبية وطغيان نفوذ الطبقة الحاكمة الشمالية. فنتيجة تلك الانتخابات أظهرت الحجم الحقيقي لحصة الطبقة الحاكمة الجنوبية من كعكة الحكم، إن جاز التعبير، في دولة الوحدة، والتي لم تتعدى 20 % من عدد مقاعد مجلس النواب ( حصل الحزب الاشتراكي وحلفائه على ما يقارب 54 مقعدا من أصل 301 مقعد) ونتيجة لهذا الوضع فقد كان مشروع العودة عن الوحدة هو ما كان قادة الجنوب يتحركون باتجاهه في الفترة التي سبقت حرب 94، والتي سميت بالأزمة السياسية، التي قادت إلى الحرب. وهي الحرب التي أدت إلى إخماد مؤقت لمشروع الانفصال، أو استعادة دولة الجنوب كما يحلوا لأصحاب المشروع تسميته، - وهو ما سوف أستخدمه في هذه الورقة -
إن القضايا التي يتم طرحها من قبل أصحاب مشروع استعادة الدولة الجنوبية، كمبرر للانفصال، من قبيل رفض الوحدة بالحرب وتسريح الموظفين الجنوبيين العسكريين والمدنيين، والتمييز في المواطنة، والهوية، ونهب الأراضي، والفساد، والاستبداد كل هذه القضايا رغم وجاهتها، إلا أنها ليست القضية الجنوبية أو سبب وجودها، كما هو رائج. لأن جميع هذه القضايا، تقريبا، لم تكن موجودة قبل حرب 94، ورغم ذلك كان مشروع استعادة الدولة قائما في ذلك الوقت، وهو ما يؤكد أن القضية الجنوبية ليست سوى مرادف لمشروع استعادة دولة الجنوب. فأصحاب هذا المشروع يؤكدون بأكثر من طريقة بأن حل جميع تلك القضايا، لا يعني حل القضية الجنوبية. فحل هذه القضية لن يكون إلا بانتهاء الوحدة وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل وحدة 22 مايو 1990. أكان بشكل فوري كما يطالب به فريق علي سالم البيض – دعاة فك الارتباط – أو المرحلي كما يطالب به أنصار الفدرالية. فالفريقان لا يختلفان في الهدف وإنما في الأسلوب.
ولإيضاح النتيجة التي توصلنا إليها دعنا نناقش القضايا التي تثار وتبدو وكأنها الأسباب التي أدت إلى وجود القضية الجنوبية، وسنبدأ بمناقشة قضية رفض الوحدة بالقوة.
ظهرت هذه القضية عقب انتصار القوات الموالية للرئيس صالح - والتي ضمت عناصر جنوبية وشمالية - على القوات التي كانت تتبع علي سالم البيض. ومنطوق هذه القضية يقوم على فكرة رفض الوحدة بالقوة، ورغم أن هذا الفكرة تبدو صائبة من وجهة النظر الأخلاقية إلا أنها غير صحيحة تاريخيا، وغير واقعية سياسيا. فمعظم دول العالم إن لم يكن جميعها تأسست بفعل القوة ولم تتم وفق اتحادات طوعية بين مكوناتها، باستثناء عدد قليل من الدول كدولة الإمارات العربية المتحدة مثلا. فبنظرة بسيطة لخارطة العالم والمنطقة العربية تحديدا سنجد أن حدود هذه الدول قد رسم بواسطة القوة ذات المنشأ المحلي أو الخارجي. وحتى قيام دولة اليمن الجنوبي فإنها تمت عن طريق استخدام القوة، فهذه الدولة تشكلت بعد أن أسقطت الجبهة القومية – الطرف الذي حكم اليمن الجنوبي بعد الاستقلال - بالقوة العسكرية حكومات السلطنات ألـ 23 التي كانت قائمة قبل تأسيس دولة اليمن الجنوبي. وخلال فترة حكم اليمن الجنوبي وحتى الآن، ظلت الطبقة الحاكمة الجنوبية وأنصارها يتفاخرون بقيامهم بهذا الفعل ويعدونه من أهم انجازاتهم. إذا فتشكيل الدول عن طريق القوة ليست بدعة أو خطوة شاذة في التاريخ البشري ولكنها استمرار لنموذج بشري سائد، وإن كان مرفوضا أخلاقيا.
القضية الثانية التي تثار كسبب لنشوء القضية الجنوبية هي قضية تسريح الموظفين العسكريين والمدنين الذين كانوا تابعين لحكومة اليمن الجنوبي وإحلالهم بموظفين شماليين وجنوبيين مواليين لنظام علي عبدالله صالح، ورغم أن هذه القضية تبدوا ظالمة من الناحية الأخلاقية، إلا أنها تعد منطقية تماما في ميزان السياسة. فقد كان من الطبيعي لنظام الرئيس صالح أن يفكك مؤسسات الحكم الجنوبي، وخاصة مؤسستي الجيش والأمن، فمن غير المنطقي لأي سلطة كانت، أن تبقي هذه المؤسسات على حالها بعد أن خاضت معها حرب وجود وهزمتها. وهذا التصرف يعد منطقياً تماما في عالم السياسة، وجميع النماذج المشابهة تصرفت بهذا الشكل وفي الغالب أسوا منه، بما فيها السلطة التي حكمت اليمن الجنوبي السابق. فتاريخ هذه السلطة، يشير إلى أنها قامت بتفكيك الجهازين المدني والعسكري للسلطات التي تغلبت عليها بشكل أسوأ بمراحل مما فعله نظام صالح. فبعد الاستقلال شرعت الحكومة الجنوبية بحل جميع المؤسسات العسكرية والأمنية التي كانت تابعة لما كان يسمى بالدولة الاتحادية أو السلطنات. ومارست الإقصاء الوظيفي والتصفية الجسدية للكثير من منتسبي تلك المؤسسات، خاصة العناصر القيادية منها، ولم تبقي إلا من انظم لها وأصبح ضمن تشكيلاتها الحزبية والسياسية. ونفس الأمر اُتبع تجاه القوات التي كانت موالية للرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد بعد هزيمته في أحداث 13 يناير 1986، حيث تعرض الموالون له من المدنيين والعسكريين للاضطهاد والملاحقة ومصادرة الأموال وحتى التصفية الجسدية بعد هزيمتهم.
وحين نورد هذا المثل لا نقصد هنا التشهير بالنظام السابق في الجنوب أو التبرير لما قام به نظام صالح، ولكن لإظهار أن منطق السياسة يشير إلى أن الحروب تؤدي إلى اضطهاد المهزوم من قبل المنتصر، وهذا ما يتم في جميع دول العالم، والفارق هنا هو في درجة الاضطهاد ونوعيته وليس في وجوده من عدمه.
لهذا فإن ما قام به نظام صالح من تفكيك لمؤسسات دولة الجنوب السابقة كان أمر يتماشى مع طبيعة المرحلة، وللأمانة العلمية فإن حجم الاضطهاد الذي مورس ضد عناصر القوى الأمنية والعسكرية الجنوبية من قبل نظام صالح كان معتدلا إلى حد كبير، قياسا بما يتم في دول شبيهة باليمن، إذ إنه لم تحدث اعتقالات واسعة لعناصر هذه المؤسسات بعد الحرب، كما أنه لم تسجل حالات إعدام لأي من عناصر هذه المؤسسات بعد انتهاء الحرب، إضافة إلى أن صالح قد قام بتعيين بعض من القادة الأمنيين والعسكريين في مناصب قيادية، وإن كانت صورية، وهذه الأمور تحسب لنظام صالح، وتعد من إحدى حسناته القليلة.
أما قضية نهب الثروات في الجنوب من قبل نظام صالح فإن هذا الأمر مرتبط بطبيعة النظام أكثر من ارتباطه بقضية الوحدة، فنظام صالح الذي يقوم على تسخير الثروة العامة لصالح بقائه في الحكم، استخدم ثروات الجنوب مثلما استخدم ثروات الشمال لنفس الهدف. ففي داخل العاصمة صنعاء، يقوم الرئيس صالح بتوزيع الأراضي التابعة للدولة - على قلتها- لأهداف سياسية، وقد استفاد من ذلك شماليون وجنوبيون وحتى صحافيون أجانب كما تحدثت بعض الأخبار. والفرق هنا يكمن في أن معظم أراضي الجنوب تمتلكها الدولة، وهو ما مثل للرئيس صالح موارد ضخمة أستخدمها في تعزيز سلطته، وقد استفاد من ذلك قلة من الشماليين والجنوبيين، فليس كل شمالي حصل على حصة من أراضي الجنوب وليس كل جنوبي حُرم من هذه الأرض. فالتوزيع لهذه الأراضي تم للموالين للرئيس صالح جنوبيين وشماليين.
أما ما يتعلق بقضية عدم المساواة في المواطنة، فإن هذا الأمر يرجع هو الآخر إلى طبيعة النظام السياسي، فالنظام الاستبدادي يقوم على مبدأ التمايز في الحقوق والواجبات، وهو ما يعني التمييز في المواطنة بلغة أخرى. فكلما كان الفرد قريبا من الحاكم، أسريا أو مناطقيا أو سياسيا أو عرقيا أو قبليا، كلما حصل على امتيازات أفضل من الأبعد منه. فوفقا لهذا النظام، نجد أن أبناء الرئيس في وضع أفضل من أبناء عمهم وأبناء العم أفضل من بقية الأسرة وأبنا الأسرة أفضل من أبناء القبيلة وهكذا الحال حتى نصل إلى الأبعد الذي سيكون الأقل حظا في الثروة والسلطة. ووفقا لذلك، نجد أن جميع المواطنين في ظل هذه الأنظمة، بما فيهم المقربون من الحاكم، يشعرون بوجود درجة ما من التمييز ضدهم. وفي الحالة اليمنية نجد أن هناك أحساس لدى كل اليمنيين تقريبا بأنهم غير متساوون في الحقوق والواجبات، غير أن هناك جماعات قبلية وجهوية تشعر بالتمييز المركب، فعلى سبيل المثال يتشارك الجنوبيون مع الشماليون في الإحساس بالتمايز العام الناتج عن النظام الاستبدادي، فيما يزداد هذا الإحساس لدى الجنوبيين بشكل إضافي فيما يمكن تسميته بالتمييز المركب. فهم من جهة يعانون من التمييز العام الناتج عن طبيعة النظام الاستبدادي، ومن جهة أخرى هناك تمييز خاص ضدهم كونهم جنوبيين يتم لصالح الشماليين، وهو أمر قد يكون مبالغا فيه، إلا انه أحساس شائع لدى الكثير من الجنوبيين.
ومن القضايا التي تثار كسبب للانفصال القمع والاستبداد السياسي، فأصحاب مشروع استعادة الدولة الجنوبية، يبررون طلبهم هذا كرد فعل على ما يقولون إنه قمع واستبداد سياسي من طرف صالح ضدهم، وعلى الرغم من أن القمع والاستبداد السياسي سمة من سمات أي نظام غير ديمقراطي كنظام الرئيس صالح، إلا أن الواقع يشير إلى أن الجنوبيين أو معظمهم على الأقل، قد شعروا بتحسن نسبي في مجال الحريات بعد عام 1990 وكذلك بعد حرب 1994 قياسا بما كانوا عليه قبل الوحدة، فهامش الحرية والديمقراطية الذي ساد في اليمن منذ ما بعد الوحدة كان أفضل بمراحل عن الوضع الذي كان سائدا في اليمن الجنوبي قبل الوحدة. إذ إن الحريات العامة، وحتى الخاصة، كانت منتهكة في ظل النظام الشمولي الذي كان يـٌحكم به اليمن الجنوبي السابق، فالنظام الشمولي ذاك لم يكن يسمح بأي نشاط سياسي أو فكري أو أي نشاط عام خارج إطار النظام السياسي الممثل بالحزب، وكان الاعتقال السياسي وحتى التصفية الجسدية دون محاكمة، إحدى سمات ذلك النظام خاصة في أثناء الصراعات العنيفة التي كان يشهدها ذلك البلد بشكل دوري. فلم يكن بالإمكان القيام بأي مظاهرة أو تجمع سياسي ضد نظام الحكم خلال تلك الفترة، كما أن النظام السياسي بحكم طبيعته الشمولية، والتي تجعله مختلفا عن النظام الاستبدادي الذي كان سائدا في اليمن الشمالي، كان يقمع كل من كان لا يبدي ولاء للحزب الحاكم، وهذا هو ذروة الاستبداد السياسي الذي تتصف به النظم الشمولية.
فهذه النظم تعتبر عدم الولاء للنظام السياسي والاختلاف مع فكر وإيديولوجية الحزب الحاكم جريمة يتم معاقبة مرتكبها. فيما النظام الاستبدادي غير الشمولي على نمط نظام صالح قبل الوحدة وبعدها يحصر القمع بالأشخاص والقوى التي تعارضه وتشكل خطراً على حكمه. وعلى هذا الأساس نجد أن درجة القمع ونوعيته التي كان يتعرض لها المواطنون في اليمن الجنوبي قبل الوحدة هي أكبر بكثير من درجة القمع التي تعرضوا لها بعد حرب 1994. وعلى هذا الأساس فإن الاستبداد السياسي لا يعد وحده سبباً يدعو للانفصال، كون الاستبداد الذي كان يمارس قبل الوحدة أكبر مما أصبح بعدها. ومع ذلك فإن رفض الاستبداد بعد الوحدة يبقى مشروعا ومن حق المواطنين الجنوبيين أن يقاوموه، فالقمع والاستبداد قبل الوحدة مهما كان حجمه لا يبرر للقمع والاستبداد بعد الوحدة. وذكر هذه المقارنة هنا، يهدف إلى التأكيد على أن قضية الاستبداد السياسي، رغم أهميتها، إلا أنها لم تكن المحرك الأساسي للقضية الجنوبي وإن كان قد صور كمبرر لها.
تطرح قضية الهوية بأنها من أسباب بروز القضية الجنوبية، فوفقا لأصحاب القضية الجنوبية، فإن نظام علي صالح الشمالي يعمل على إلغاء الهوية الجنوبية بما تحمله من رموز ودلالات تاريخية وثقافية وفكرية، بهدف طمس الهوية الجنوبية وجعلها تابعة ومدمجة بالهوية الشمالية. ويدللون على ذلك بما حدث من تغيير لبعض أسماء الشوارع والمرافق العامة، وطغيان بعض الأزياء والمعمار الشمالي في المناطق الجنوبية، وإعادة كتابة التاريخ بطريقة يغيب فيها التاريخ الجنوبي لصالح الطرف الشمالي. والحقيقة أن هذه الادعاءات صحيحة إلى حدا كبير، غير أني أعود مرة أخرى إلى منطق السياسة والتاريخ، الذي يقول لنا بأن أنظمة الحكم المنتصرة غالبا ما تقوم بطمس أو إضعاف هوية النظم التي هزمتها والثقافة التي كانت تستند عليها. فعلى سبيل المثال نجد في معظم دول العالم أن أسماء الشوارع والمرافق العامة وحتى المدن، كما حدث في العصر السوفيتي، والثقافة العامة وكتابة التاريخ، تتغير بعد التغيرات السياسية في هذه الدول. والجنوب على سبيل المثال، حين تأسست الدولة على الإيديولوجية الاشتراكية، قامت السلطة حينها بما يمكن تسميته بثورة ثقافية، قريبة من تلك التي حدثت في الصين، فخلال تلك الفترة تم إلغاء تسمية المحافظات بالأسماء التي كانت تُعرف بها، وتم استبدالها بأرقام، من قبيل المحافظة الثانية والثالثة وهكذا، وتم تغيير أسماء الكثير من المرافق الحكومية والشوارع لتتوافق مع التوجهات الثورية الاشتراكية، ولم تسلم من ذلك الألقاب والتسميات الاجتماعية، على اعتبار أنها من مخلفات البرجوازية، كما أن التاريخ كُتب بالطريقة التي كانت تخدم مصالح النظام السياسي آنذاك.
والحقيقة أن المسألة الثقافية تبقى قضية شائكة ومعقدة، فعلى سبيل المثال، حين تم تغيير أسماء بعض المرافق الحكومية في الجنوب من تسمياتها التي كانت ترمز للاشتراكية والعهد السابق من قبيل “النجمة الحمراء” مثلا، واستبدالها بمسميات من التاريخ العربي الإسلامي، لا يمكن الجزم بأن هذا الأمر تم بتخطيط واع من قبل نظام علي عبدالله صالح، وإن لم يكن مستبعدا، فمثل هذه الظواهر لا يمكن عزلها عن الحراك الثقافي والاجتماعي العام الذي طال اليمن والعالم العربي والإسلامي. فظاهرة الاسلمة مثلا، التي يعزوها البعض إلى نظام صالح، غير مقتصرة على المناطق الجنوبية بل أنها ظاهرة عامة تشمل اليمن وغير اليمن. ومع ذلك فإن التغيير في الهوية الجنوبية بعد حرب 1994 مرتبط بطبيعة النظام السياسي وثقافته ونهجه. إلا أن الأمر الذي يتوجب ذكره هنا، أن الهوية الجنوبية لا تعد هوية منفصلة تماما عن الهوية في المناطق اليمنية الأخرى، لأنه لا وجود لتمايز عرقي أو لغوي أو ديني أو مذهبي يميز الجنوب عن الشمال، بحيث يكون هناك ثقافة جنوبية خالصة وثقافة شمالية خالصة، فالتاريخ والجغرافيا خلقت نوع من التفاعل والسمات المشتركة للهوية الجنوبية والشمالية قبل الوحدة وبعدها، لهذا كله فإن قضية الهوية تبقى ملتبسة أكثر من غيرها من القضايا، وإن كان أنصار القضية الجنوبية يسعون إلى جعلها قضية رئيسية لأسباب سياسية واضحة.
وبما أن القضية الجنوبية لا تعدو – من وجهة نظري على الأقل - من أن تكون انتهاء الوحدة وإعادة الدولة الجنوبية السابقة، فإن كل المعالجات للمشاكل التي يقال إنها سبب القضية الجنوبية لن تؤدي من وجهة نظر المطالبين باستعادة الدولة الجنوبية إلى انتهاء القضية الجنوبية، فهؤلاء وإن كانوا لا يصرحون بهذا الأمر بشكل واضح قضيتهم الأساسية، هي استعادة نفوذهم السابق والذين يعتقدون أنه لن يتم في إطار دولة الوحدة وإنما باستعادة الدولة التي كانوا يحكمونها. والحقيقة أن هذا الأمر لا يقتصر على الحكام السابقون للجنوب بل إنه يشمل جزء معتبراً من النخبة السياسية الجنوبية، بمن فيهم القوى التي كانت مناوأة لحكام الجنوب السابقين. فجميعهم يشتركون في الإحساس بأنهم سيبقون أقلية دائمة في الشمال وأن الحكم سيبقى بشكل دائم تحت سيطرة الشماليين بسبب كثرتهم العددية. إلى جانب الاعتقاد الشائع بثراء الجنوب وفقر الشمال، وسهولة إدارة الجنوب وصعوبة إدارة الشمال، وهي أسباب إضافية للتمسك بالانفصال.
يحاول أنصار مشروع استمرار الوحدة، والذي يأتي معظمهم من الشمال، القول بأن حل المشاكل، التي يعتقدون أنها خلقت القضية الجنوبية، يتم من خلال إصلاح النظام السياسي الذي يتضمن تغييراً في شكل الدولة وآلية الحكم، على اعتبار أن هذا الإصلاح كفيل بإقامة دولة المواطنة المتساوية للجميع والتوزيع العادل للثروة والسلطة. وعلى الرغم من وجاهة هذا الطرح، إلا أن أنصار القضية الجنوبية لا يقبلون به ولا يعتبرونه حلاً للقضية الجنوبية. ولهذا فإن من المتوقع أن تبقى القضية الجنوبية مشكلة رئيسية ضمن مشاكل اليمن الكثيرة.
في الإثنين 20 فبراير-شباط 2012 06:22:39 م