الفتنة الطائفية في مصر والموقف الشرعي منها
حارث الشوكاني
حارث الشوكاني

ما يدور في مصر الكنانة ليس أمراً يهم المصريين فحسب بل يهم العرب والمسلمين جميعاً لأن مكانة مصر والدور الإقليمي الذي تضطلع به ينعكس بآثاره السلبية أو الإيجابية على الدول العربية والإسلامية .

ولقد شعرنا بفرح غامر عندما سقط فرعون مصر (حسني مبارك) بفعل الثورة الشعبية المصرية التي إقتلعت هذا الطاغية في أيام وليس في شهور أو سنوات، وحسب الثورة الشعبية المصرية أنها أبطلت باطل النظام الفرعوني المصري ولو لم تستكمل اليوم أشواطها وأهدافها التغييرية المتعلقة بمرحلة إحقاق الحق بعد نجاحها في مرحلة إبطال الباطل .

وإنه لأمر طبيعي أن تحصل أعراض جانبية سلبية للثورات الشعبية بفعل حالة الركود والجمود التي تعاني منها المجتمعات تحت وطأة أنظمتها السياسية الإستبدادية الطاغوتية وحالة الحراك المتسارع في المجتمعات عقب الثورات الشعبية بفعل التغيير المفاجئ فلكل فعل رد فعل، فمن حالة الركود إلى الحركة ومن حالة اللافاعلية الإجتماعية إلى الفاعلية، ولكن وتيرة هذه الثورات سرعان ما ستنضبط لأن سلبيات الثورات والديمقراطية خير من إيجابيات الإستبداد والطاغوت لأن سلبيات الديمقراطية الآنية تنقلب على المدى الطويل إلى إيجابيات، وإيجابيات الديكتاتورية الإستثنائية سرعان ما تنقلب إلى سلبيات متى تجذرت وضربت أطنابها وجذورها .

وفي هذا السياق يشعر المرء بالخوف على مستقبل مصر من المكائد الخارجية التي قد تستغل حالة الفراغ السياسي الذي أعقب قيام الثورة الشعبية لتغذية الإنقسام الإجتماعي في المجتمع المصري والعمل على إحياء النعرات العصبية والحساسيات الدينية بغية تمزيق الخارطة الإجتماعية والنسيج المجتمعي المصري إلى طوائف ومذاهب وأديان متصارعة متقاتلة، وهذا يقتضي حالة من الوعي من النخب السياسية والقيادات الدينية لحماية مصر دولة ومجتمعاً لأن الإنعكاسات السلبية سيكتوي بنارها الجميع دون إستثناء .

من هذه الزاوية أقول إن أحداث العنف والشغب في مصر إثر هدم إحدى الكنائس في أسوان تحتاج إلى معالجة بحكمة وإنصاف وعدل لأن المؤامرات الخارجية لا تنفذ إلا عبر أخطاء وسلبيات تتم في الداخل ولذلك فإن خير وسيلة لمواجهتها هي إصلاح الأخطاء الداخلية لا إعتبار البعد الخارجي ذريعة لتغطية أخطائنا .

وفي هذا الصدد أستطيع القول بأن هدم الكنيسة والمساس بحرمة دور العبادة خطأ كبير واعتداء ظالم على حرية المعتقد أياً كانت الذريعة لأن تعاليم ديننا الإسلامي قررت حرية المعتقد في كنف الدولة الإسلامية بنص صريح قطعي وهو قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)البقرة256، والإعتداء على الآخرين بهدم دور عبادتهم ظلم فادح ورد النهي عنه في القرآن بدليل قطعي صريح (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ{39} الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{40})الحج، فهذا النص القرآني إعتبر الإعتداء على الآخرين بإخراجهم من ديارهم بسبب الإختلاف العقدي نوع من أنواع الظلم الذي يقتضي النصرة الإلهية عبر سنة التدافع وأنه لولا سنة التدافع لهدمت (صوامع) والمقصود بها صوامع الرهبان والبيع هي كنائس النصارى والصلوات هي كنائس اليهود والمساجد دور عبادة المسلمين كما أشار إلى ذلك علماء التفسير .

كما أن القرآن الكريم دستور المسلمين السياسي أمر بحسن معاملة المخالفين لنا في العقيدة إذا لم يقاتلونا ويخرجونا من ديارنا في قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)الممتحنة8، والبر هو حسن التعامل بل هو أرقى أنواع التعامل (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً)، والقسط هو العدل في الحقوق والمواطنة لقوله تعالى (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)الحديد، والميزان له كفتان كفة الحقوق وكفة الواجبات والقسط هو العدل .

وهذه التعاليم القرآنية الصريحة جسدها الرسول (ص) عملياً والصحابة رضوان الله عليهم والمسلمون عبر التاريخ حيث عاش اليهود والنصارى في كنف الدولة الإسلامية محفوظة عقائدهم ودور عبادتهم مصونة نفوسهم وأموالهم، وأكبر دليل على ذلك المعاهدة التي وقعها الرسول (ص) مع يهود المدينة وهو يضع اللبنات الأولى للدولة الإسلامية، فهذه المعاهدة والصحيفة هي أول وثيقة سياسية تؤكد عدالة الإسلام وسماحته لأنها قامت على قبول التعدد الديني والعقائدي حتى أنه من ضمن ما ورد فيها (اليهود والمسلمين أمة من دون الناس) (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ).

والمعاهدة التي وقعها الرسول (ص) مع نصارى نجران وسأذكر أهم بنودها لأهمية ما جاء فيها في سياق التعامل مع المسيحيين :

أولاً: (هذا كتاب أمان من الله ورسوله، للذين أوتوا الكتاب من النصارى ، من كان منهم على دين نجران، أو على شيء من نحل النصرانية، كتبه لهم محمد بن عبدالله، رسول الله إلى الناس كافة؛ ذمة لهم من الله ورسوله ، إنه عهد عهده إلى المسلمين من بعده. عليهم أن يعوه ويعرفوه ويؤمنوا به ويحفظوه لهم، ليس لأحد من الولاة، ولا لذي شيعة من السلطان وغيره نقضه، ولا تعديه إلى غيره، ولا حمل مؤونة من المؤمنين، سوى الشروط المشروطة في هذا الكتاب. فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه، فهو على العهد المستقيم والوفاء بذمة رسول الله. ومن نكثه وخالفه إلى غيره وبدله فعليه وزره؛ وقد خان أمان الله، ونكث عهده وعصاه، وخالف رسوله، وهو عند الله من الكاذبين ".

ثانياً :

1-  أن أحمي جانبهم – أي النصارى – وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح، حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل ".

2-  أن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا؛ من بر أو بحر، شرقا وغرباً، بما أحفظ به نفسي وخاصتي، وأهل الإسلام من ملتي ".

3-  أن أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني، من كل أذى ومكروه أو مؤونة أو تبعة.وان أكون من ورائهم، ذابا عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء، بنفسي وأعواني وأتباعي وأهل ملتي ".

4-  أن اعزل عنهم الأذى في المؤن التي حملها أهل الجهاد من الغارة والخراج، إلا ما طابت به أنفسهم. وليس عليهم إجبار ولا إكراه على شيء من ذلك ".

5-  لا تغيير لأسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد، ولا منازل المسلمين. فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحال عن ذمة الله ".

6-  لا يجبر احد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام. "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد ".

7-  لهم أن احتاجوا في مرمة – ترميم - بيعهم وصوامعهم، أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها – ترميمها -، أن يرفدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ومنة لله ورسوله عليهم ".

هذه بعض فقرات معاهدة الرسول (ص) مع نصارى نجران وليست كلها وكل ما فيها أكد تعاليم القرآن (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً )

وبهذا يتضح لنا عدالة الإسلام وسماحته وكيف قامت الدولة الإسلامية منذ زمن الرسول (ص) والصحابة والمسلمون من بعدهم على القبول بالآخر والتعددية الدينية والمواطنة المقسطة، وعلى ضوء هذه التعاليم التي أمر بها ديننا الحنيف يمكننا القول بأنه لحل هذه الفتنة التي بدأت بوادرها وهناك خشية من تصاعدها بما يؤدي إلى الإضرار بالنسيج المجتمعي المصري كله لا بد من إتخاذ الإجراءات التالية :

1-  أن يعلن المجلس العسكري في بيان رسمي بأن هدم الكنيسة في أسوان سبب المشكلة الرئيسية هو إجراء خاطئ ويتم تقديم الإعتذار للأخوة الأقباط عن مثل هذا الخطأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)النساء135 .

2-  إتخاذ إجراءات قانونية بمعاقبة المسئولين في محافظة أسوان إذا كانت إجراءات الهدم تمت من قبل مسئولي المحافظة أو ضبط المعتدين على حرمة الكنيسة إن كانوا من الأهالي .

3-  إعلان المجلس العسكري تنفيذ تعاليم القرآن والسنة إلتزاماً بعهد الله وذمة رسول الله بإصدار قانون جديد يؤكد حرية الأقباط الدينية ويسمح لهم بحرية بناء الكنائس دون أي مضايقة بل وتخصيص ميزانية خاصة من الدولة لإعانة أقباط مصر في ترميم كنائسهم وفاء بعهد رسول الله (ص) مع نصارى نجران وغيرهم، هذه المعاهدة غير القابلة للنقض بصريح القرآن وصريح قول الرسول (ص) في المعاهدة نفسها، وأنه قد أوصى بأقباط مصر خيراً بقوله (ص) في الحديث الصحيح: (إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً) أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين .

4-  أطلب من القيادات السياسية الحزبية وبالأخص قيادة حركة الإخوان المسلمين في مصر وعلماء الأزهر إعلان موقف صريح من هذه الفتنة يتضمن الإستنكار التام لهدم الكنيسة واعتبار ذلك فعل إجرامي تم النهي عنه في القرآن وفي السنة العملية لرسول الله (ص) ووقوف حركة الإخوان والأحزاب السياسية مع مطالب المسيحيين .

5-  التأكيد على حق أقباط مصر في التظاهر السلمي مطالبة بحقوقهم وإلى أهمية عدم اللجوء إلى العنف في التعبير عن هذه المطالب .

6-  إذا تنصل المجلس العسكري عن مسئولياته تقوم الفعاليات السياسية الحزبية الإسلامية والمسيحية بالتظاهر ضغطاً على المجلس حتى يتم تحقيق المطالب الآنفة الذكر .

هذه في وجهة نظري طبيعة الأزمة وأسبابها وهذا هو موقف الشرع منها وهذه الإجراءات المقترحة هي السبيل لإحتواء الأزمة والإحتقان الطائفي وقبل هذا وذاك كواجب شرعي وموقف أخلاقي تمليه علينا تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف .

والله من وراء القصد وفوق كل ذي علم عليم .


في الأربعاء 12 أكتوبر-تشرين الأول 2011 11:37:30 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.com/articles.php?id=11941