في الصراع الطائفي القاتل والمقتول قتيل
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 5 سنوات و 5 أشهر و 26 يوماً
الأحد 30 سبتمبر-أيلول 2018 08:12 م
 

دعونا نعترف أن سرطان الطائفية كامن في العديد من البلدان العربية ذات التعدد الديني والمذهبي منذ أكثر من قرن. وهو يضرب جذوره عميقاً في التاريخ، ويعود إلى الفترة التي تلت وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. هذا بالنسبة للصراع بين الشيعة والسنة الذي ما زال يفتك بالمسلمين حتى هذه اللحظة، وزاد خطره بعد الثورات إثر تدخل إيران المذهبي الشنيع في المنطقة وظهور جماعات دينية سنية متطرفة كالقاعدة وداعش والنصرة وغيرها. أما بالنسبة للتمييز بين الطوائف فقد بدأ بشكل صارخ بعد كتابات ابن تيمية الذي حرض الأكثرية على كل الطوائف والأقليات. ومنذ ذلك الحين وكثيرون من أتباع «شيخ الإسلام» يطبقون تحريضه الفاشي ضد الآخرين بحق أو بغير حق. والساحة الآن مليئة بملايين المسلمين الذين ما زالوا متشبثين بأقوال ابن تيمية كما لو أنه أحد المرسلين الذي لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه.

وبينما اتحد الأوروبيون فيما بينهم وأصبحوا كياناً واحداً من خمس وعشرين دولة شهدت فيما بينها حروباً طاحنة حرقت الأخضر واليابس، وسحقت ملايين البشر وخاصة فيما يسمى بحرب الثلاثين عاماً بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا، إلا أن الكثير من المسلمين ما زالوا يعملون بتعاليم ابن تيمية في نظرتهم لكل المذاهب والطوائف التي تعيش في المنطقة، كما لو كانت عدوهم اللدود. لم يتعلم هؤلاء لا من الأوروبيين الذين دفنوا صراعاتهم الدينية، وتربعوا على عرش الحضارة الحديثة، ولا من الصينيين الذين ليس لديهم دين أصلاً. لقد أصبحت الصين ثاني أقوى قوة اقتصادية بعد أمريكا، مع أن أكثر من تسعين بالمائة من الصينيين بلا دين، بينما ما زال المسلمون الذين يعبدون إرشادات ابن تيمية ليل نهار يقبعون في ذيل الأمم اقتصادياً وتكنولوجياً وحضارياً.

لا شك أن الآخرين الطامعين بثروات العرب والمسلمين وببلادهم التي تقع في قلب العالم سعيدون جداً بهذا الصراع الإسلامي الإسلامي، ولا شك أنهم عملوا ويعملون على تعميق الشروخ بين المذاهب الإسلامية من جهة، وخاصة بين الشيعة والسنة، وبين المسلمين وبقية الأقليات من جهة أخرى. وقد استغل ضباع العالم وكلابه الثورات العربية وحولوها إلى حروب أهلية وطائفية ودينية، بدل أن يعملوا على نقل الشعوب العربية من تحت ربقة الظلم والطغيان إلى فضاء الديمقراطية كما فعلوا مع الأوروبيين الشرقيين. وقد لاحظنا كيف تحول العراق وسوريا واليمن إلى ساحات دموية لتصفية الحسابات المذهبية والطائفية بين سكان تلك البلدان، ففي العراق صار الصراع الأبرز بين الشيعة والسنة. وقد لعب الغزو الأمريكي دوراً محورياً في تغذية هذا الصراع لنهب خيرات بلاد الرافدين وترك سكانه يذبحون بعضهم البعض على الهوية الطائفية.

وفي سوريا بدل أن تنتقل البلاد إلى حياة سياسية جديدة بعيداً عن الديكتاتورية الأمنية والعسكرية، تحول الصراع إلى صراع طائفي بغيض لم يجلب للسوريين سوى الدمار والخراب والتهجير. فإذا كان النظام يقاتل من منطلق طائفي كما يتهمه معارضوه، فلا شك أن المجاميع الإرهابية الإسلامية المتطرفة رفعت بدورها شعارات دينية مقيتة، لا بل إنها أطلقت على نفسها أسماء دينية كانت الغاية منها تنفير كل من هو ليس مسلماً في المنطقة واستعداءه، وبذلك جعلت بقية الأقليات تقف مضطرة في المعسكر الآخر خوفاً من الهجمة الدينية المتطرفة التي اجتاحت سوريا وغيرها. وقد شاهدنا ما فعل مغول العصر الدواعش في السويداء السورية قبل فترة وجيزة، حيث دخلوا عشرات البيوت ونحروا سكانها الأبرياء وخطفواعشرات النساء بطريقة وحشية، مما زاد في حدة الصراع الطائفي في سوريا المنكوبة

في كل صراع هناك قاتل ومقتول إلا في الصراع الطائفي فهما قتيلا

لقد درج كثيرون في السنوات الماضية على إلصاق تهمة الطائفية حصراً بالأقليات. لكن هل الأكثرية يا ترى سويسرية وديمقراطية في نظرتها إلى الآخرين في المنطقة؟ أليس ما فعله الدواعش مثالاً صارخاً على الفكر التكفيري الذي يغذي هؤلاء الهمجيين؟

لا شك أن الأكثرية المسلمة تضررت كثيراً في المنطقة وتشرد الملايين منها، لكن أليست الجماعات المقاتلة باسمها في غاية الطائفية مع الآخرين؟ ألا تعتبر تلك الجماعات بقية الأقليات على أنها كافرة وجديرة بالاستئصال؟ ألا ينظر عتاة المتطرفين إلى العلويين والدروز والمسيحيين والاسماعيليين والشيعة على أنهم مرتدون. ألم يقاتلوهم على أساس طائفي أيضاً؟

كثيرون من أبناء الأقليات تضامن وتعاطف ووقف مع الأكثرية المسلمة في المنطقة لما عانته من دمار وقتل وتهجير بسبب الجماعات التكفيرية الظلامية التي زعم تمثيلها، وواجه الأنظمة، لكن في اللحظة التي يوجه فيها هؤلاء المتعاطفون معها نقداً بسيطاً لتلك الجماعات، تلجأ فوراً إلى وصفهم بالنصيريين والدروز والكفار.

طالما أنت معهم مائة بالمائة فأنت كافر مقبول يغضون الطرف عنك مرحلياً، وفي اللحظة التي تنتقدهم فيها نقداً بسيطاً تصبح فوراً كافراً جديراً بالسحق والذبح. وإذا كان بعض أبناء الطوائف طائفياً فعلاً، فمن الذي يجب أن يستوعب الآخر، الأقليات الصغيرة أم الأكثرية؟

لماذا لم يتعلم الجميع من محنة لبنان التي استمرت ستة عشر عاماً، وذبحت الطوائف بعضها بعضاً على أساس ديني ومذهبي وطائفي؟ ماذا كسب اللبنانبون من حربهم؟ هل قضى المسلمون على المسيحيين؟ هل قضى الدروز على الشيعة؟ هل قضى الشيعة على السنة؟ هل قضى الموارنة على الدروز؟ لا أبداً، بل عادوا ليتعايشوا مع بعضهم البعض. لا يمكن مطلقاً أن يتمكن طرف من القضاء على طرف آخر في هذه المنطقة ذات التركيب الفسيفسائي. ورغم كل ما حصل في سوريا من معارك طائفية ومن تحريض وتجييش مذهبي وطائفي من الجميع، فلم ينتصر أحد، ولا بد أن يعيد الجميع النظر في مواقفهم المتشجنة وغيرالعاقلة، ولا بد من العودة عن الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الجميع، ففي النهاية لا بد من التعايش بين كل مكونات سوريا وغيرها. فليكن الدين لله والوطن للجميع، ومن لا يتعلم من تجاربه الفاشلة، سيكررها مرات ومرات بنفس الأسلوب الفاشل والقاتل. وقد صدق الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي عندما قال: «في كل صراع هناك قاتل ومقتول إلا في الصراع الطائفي، فهما قتيلان».