مواقع التواصل… هل تحوّلت إلى ساحات مجاذيب؟!
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 4 سنوات و 3 أسابيع و يومين
الأربعاء 04 مارس - آذار 2020 07:27 م
 

لم يعد الطبيب النفسي في بلادنا في حاجة ماسة إلى زيارة مستشفى الأمراض العقلية للوقوف على أكثر العقد النفسية شيوعا في المجتمع، كما لم يعد الباحث في علم النفس الاجتماعي مدعوا كما كان في السابق لكثيرمن الدراسات والبحوث الميدانية حتى يعرف الخصائص المزاجية السائدة. ما عليه سوى الدخول إلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وخاصة «تويتر» و«فيسبوك» ليرى كل ذلك وهو على أريكته في بيته!!

من فيروس «كورونا» المقلق.. إلى الوضع في إدلب.. إلى بشار الأسد وما يفعله.. إلى تركيا وأردوغان.. إلى قضية المهاجرين واللاجئين ومعاناتهم., إلى إيران وسياساتها في سوريا وتجاه الجوار.. إلى الأزمة الخليجية وحصار قطر.. إلى ما يجري في ليبيا بين حكومة الوفاق وجماعة حفتر، إلى من يقف وراء هذا وذاك ويرفع عقيرته برفض التدخل الخارجي في الشأن الليبي.. إلى مصر والسيسي.. إلى اليمن وعبثية القتال الدامي هناك، إلى السياسات السعودية الداخلية والخارجية.. إلى الحراك في العراق ومحاولة كسر النظام القائم منذ 2003، إلى حراك الجزائر الذي لم يكل أو يتعب، إلى صيغة الحكم المعقدة بين العسكر والمدنيين في السودان.. إلى المد والجزر في حراك اللبنانيين ضد المعادلات الطائفية المحنطة، إلى تونس والمحطات الصعبة لتشكيل الحكومة.. إلى ترامب وسياساته.. إلى «صفقة القرن» وإسرائيل والسلطة الفلسطينية..إلى التطبيع مع إسرائيل.. إلى الخلاف بين «فتح» و«حماس».. إلى حزب الله وأدواره في سوريا والداخل اللبناني.. إلى حركة الإخوان المسلمين في أكثر من ملف… والقائمة طويلة.

الايجابي في خوض الناس في كل هذه القضايا هو أن الملفات الكبرى التي تؤثر في حياة المواطنين ومستقبلهم لم تعد حكرا على نخبة معروفة هي من يقرر ويفرض. هذا طبعا تطور هام بات يؤخذ بعين الاعتبار من قبل صناع القرار لتعديل سياسات أو إلغاء قرارات أوالتراجع عن خطوات، غير أن الغالب في مستوى النقاش واللغة المستعملة هو التردي والبذاءة مع بعض «الشطحات» الغريبة الخارجة ليس فقط عن كل ذوق أو أدب للحوار بل والخارجة عن أي منطق سليم أو عن أي حد أدنى من التماسك واحترام العقل.

في المشرق العربي موقع «تويتر» هو المتسيد بلا منازع أما في المغرب فهو «فيسبوك» لكن السمات المشتركة في طبيعة التدوينات والتعليق عليها تكاد تكون واحدة. تجلت الخيبة الكبرى بالخصوص في كثير ممن يصفون أنفسهم بـ«قادة الرأي العام» سواء كانوا من السياسيين أو مستشاريهم أو المحسوبين عليهم أو من شيوخ الدين الذين أدخلوه في مزادات ما أنزل الله بها من سلطان أو من الكتاب والصحافيين والجامعيين الذين خاض جميعم تقريبا في كل ما أشرنا إليه من ملفات شائكة فتورط غالبيتهم بــ «إصابات»مختلفة من خفيفة إلى متوسطة إلى خطيرة. لم يكن المشكل في مدى انخراط هؤلاء في ما يطرح من قضايا، إذ كان من الصعب حقيقة أن يظلوا غير عابئين بما يجري حولهم أو صامتين أو على حياد مفتعل في أغلب الملفات، لكن المشكل تجلى في المستوى غير اللائق الذي ظهر به كثير منهم أمام قطاع واسع من الجمهور الذي كان ينظر إليهم بقدر لا بأس به من التقدير والاحترام ولافائدة هنا من استعراض بعض النماذج الصادمة لتغريدات أوتدوينات لأنها كثيرة جدا ومن كل الأطراف المتقابلة وفي كل الملفات التي جرى الخوض فيها طوال هذه السنوات.

وإذا كانت «النخبة» المفترضة هي على هذا النحو، إلا ما رحم ربك طبعا، فكيف يمكن أن يكون حال «الدهماء» عندما ينزلون إلى هذه الساحات وهم غير معروفين وبالتالي فهم لا يقيمون وزنا لا لسمعة يودّون الحفاظ عليها ولا هم بحريصون على جمهور يهمهم ألا يفقدوه. هنا كانت الطامة الكبرى، بات الكل يخوض في كل شيء بلا معرفة ولا ضوابط في الغالب فاختلط الحابل بالنابل. المشكل أن كلا الجانبين بات مهووسا بزيادة عدد المتابعين وعدد المعجبين بما يكتبونه أكثر من الحرص على جودة ما يُكتب ووجاهة ما يُعبر عنه من آراء ومواقف. هذا التمشي خلق في النهاية مجموعة من «النجوم» أصابهم عدد متابعيهم في «أنستغرام» أو غيره بحالة سكر معقدة فصدّقوا فعلا بأن لهم قيمة متميزة وإضافة نوعية في تحديد نقاشات سياسية كبرى في بلدهم رغم تهافت ما يقولونه بل وتفاهته.. ولا فائدة هنا أيضا في استعراض أسماء أو أمثلة.

وطالما أن المرء لا يملك فكرة دقيقة عن بقية المجتمعات وسلوكياتها في مواقع التواصل فليس بإمكانه الجزم بما إذا كانت المعضلة ذاتها قائمة في أمريكا مثلا أو آسيا أو أوروبا لكن الأكيد أن عقودا من الكبت والديكتاتورية في بلادنا العربية أفرزت في النهاية هذا التدافع بهذا المستوى الهزيل الغالب في مواقع التواصل. وإلى أن تتعدّل الأمور وتترسخ قنوات التعبير المؤسساتي في أنظمة الحكم لدينا علينا أن نصبر ونتحمّل.. وهل من خيار آخر؟!