الزواج في البكور..!!
بقلم/ منير الغليسي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 14 يوماً
السبت 08 مايو 2010 06:40 م

الاختلافُ ممدوح . . والخلافُ خلافُه :

كثر الجدل حول تحديد سنّ لزواج الفتيات في أيامنا هذه ، وليته كان دائراً بين طرفين متضادين ، فكراً وروحاً في كثير من الأمر ، طرفٍ شرقيّ وآخرَ غربيّ. . إذنْ لقضي الأمر الذي فيه يستفتيان ، ولكن الجدل دائر بين إخوة يجمعهم دين وعقيدةٌ وهمٌّ مشتركٌ .

لقد سُوّدت عشراتُ الصحف بمئات من الصفحات ، إن لم تكن آلافاً ، واكتظت المطابع بها . . وليتها خرجت بنتائج بيضاء ! !

وقد عُقدت ندواتٌ في قنوات إعلامية مختلفة المناهج ، متنوعة المشارب ، وبوتيرة عالية وهمّة دؤوبة نطمح إليهما في أمور كثيرة . . وليتنا خرجنا بنتائج مرضية ! !

وقد اهتزّت منابرُ مساجدَ بعشراتِ الخطب المسجوعة ، ولكنها لم ترْبُ ، ولم تثمر من كلٍّ زوجين اثنين بهجةً وسعادةً ، وألفة وانسجاما .

وقد حشد كل طرف ما استطاع حشده من النساء ، وساقهن إلى مجلس نوّاب الشعب سوقاً ، كمبرّر حيّ وحجّة داحضة تسعى على الأرض ؛ ليفنّد حجج ونظريات الطرف الآخر في قضية استهلكت مساحة زمنية واسعة ، وجهدا وأرقا ، لو أعطيت قضايا أخرى – وما أكثرَها – الزمنَ نفسَه ، والجدّ عينَه ، والهمّةَ ذاتَها ؛ لانفرجت زواياها الضيقة على المواطن العربي . وما الزواج في بكوره عند أناس ، وغلسه لدى آخرين ، وشروق شمسه من الغروب عند سواهما . . إلا جزءاً من هذه الزوايا الضيقة في حياة مجتمعاتنا العربية ، ومنها بلادنا . والتي منها كذلك : الطلاقُ ، والتفكك الأسري ، والفقر المدقع ، والتعليم السيّئ ، والصحة المعتلّة ، فضلاً عن ذلك الفساد المالي والإداري المستشري في أرجاء المؤسسات والوزارات ومفاصلها .

نعم ؛ لو أعطيت هذه القضايا - وسواها كلٌّ على حدة - مثل تلك المساحة الزمنية ، و ذلك الجدّ وتلك الهمّة. . لأصبحنا في نعيم مقيم ، وجنّة عرضُها عرضُ أوطاننا وطولُها طولُها ، ولن تنفتح علينا قضيةُ زواج ذي بكور ، ولا زواج ذي غلَس ، ولن نسمع أو نرى من بلغ من العُمر عتيّاً ومات كمداً في قفص العزوبية ، أو مَن مسّه طائف من شيطان الهوى ؛ فصار يهذي هذيان من أصابته الحُمّى ، أو أصابته لُوثةٌ من جنون العشق ؛ فساح في الأرض هائماً لا يلـوي على شيء كمجنـون ليلى . . ولا سوى ذلك من القضايا والهموم إلا بمقدار يمكن تداركُه أولاً فأولا .

أقدّر جدا الطرفين كليهما ، وأحترمهما جدا على حرصهما على مصلحة الفتاة والمجتمع من الفوضى الاجتماعية الأسرية ، التي ينظـر إليها كـل طـرف بحسـب منظـاره ، ولكني لـم أقــدّرْ كثيـرا منهما . . لأنهم لم يَرْبُوْا بأنفسهم عن السقوط في هاوية الطعن في النيات ، والذمّ غير الممدوح بألفاظ مقذعة لا تليق بمقام إنسان سويّ ، فضلا عن أن يكون كاتباً مثقفاً ، مستنيرا بنور دينه ، يحمل في فكره رسالـة نبيلـة ، وفي قلبه همّا جميلاً . . أو شيخَ دين لسانُه رطبٌ بذكر الله ، وقلبُه عامرٌ بنور اليقين ؛ لغرض تشهير كل منهما بالآخر! ! . . لم أقدّرهم في ذلك لذلك ؛ ولأنهم حرفوا القضية عن مسار دورانها حول مجالها الأساسي : الاختلاف العلمي ، إلى مجال انتقادات شخصية ممقوتة ، وخطاب عدواني متبادل ، فيه من التهكم والسخرية ما فيه ؛ انتصاراً للذات .

كنت آمُـل أن يكون هناك خطاب متزن من الطرفين كليهمـا ؛ للوصول إلى توافق وإجماع ، أو شبـه توافـق وإجماع ، في هذه القضية الشائكة ، وفي هذا الزمن الذي فيه من وسائل إغراء وإغواء الشباب ما فيه . . فالاختلاف ممدوح ، ولكنّ الخلافَ خلافُه .

رفقـاً بالقـواريـر :

لا ينكر أحدٌ ظلمَ كثير من أولياء الأمور لأبنائهم في جوانبَ مختلفة ، منها هذا الجانب المرتبط بقضية الزواج. .فإنّ منهم مَن جعل الله على بصره غشاوة ، فلا يرى لبناته – أو من هنّ تحت ولايته– في زواجهنّ إلا ما يرى ، إما جهلاً بالقضية بجميع زواياها ، وإما هروباً من واقع مؤلم يعيشه ، وإما طمعاً وجشعاً أمام تجارة هي تبور .

ومنهم من ختم الله على سمعه غشاوة ، فيأبى أن يستمع إلى همّ بناته ، وينصت إلى آهاتهن وأناتهن ، ويصغي إلى خفقان توجّسهن وخوفهن وقلقهن .

ومنهم من ختم الله على قلبه راناً ، فلا يرقّ لحالهن ، ولا يخشع لدموعهن . . فتراه يلقي بالواحدة منهن جزافاً إلى حضن رجل كيفما اتفق ، إن حضناً فحضنٌ ، وإن قبراً فقبرٌ ! !

ومنهم من جمع بين تلك الظلمات الثلاث : ظلمة عمى البصر عن أن يرى الواقع وشواهدَه ، وظلمة عمى البصيرة عن الإحساس بالألم والشعور به ، وظلمة الصّمم عن سماع صوت الحق وبيّناته .

هذه الثلاث إذا اجتمعت في رجل واحد ؛ فقد جمع إليه الشرّ كله ، فيا ويحه من رجل جمع بين قسوة القلب وعَمَاه ، وصمم السمع وصداه ، وعشى البصر وغطاه ! ! 

لا يحتكم لمعيارَي قبول الرجل زوجاً لابنته ، واللّذَين أوصى بهما دينُه ونبيُّه : ((من ترضون دينه وخلقه فزوجوه . . .)) . . لأن من دين المقبل على الزواج وخُلقه أن يطلب لنفسه الفتاة البالغة عقلاً وروحاً وجسداً ، الواعية بحقوق الزوجية فكْراً وهمّا ، التي تكون شريكاً له ولأولادهما ولمجتمعهم في صناعة الحياة الآمنة المستقرة المطمئنة ، لا أن تضيف عبئاً ثقيلاً عليه إلى أعبائه ، ولا أن يضيف هو عبئاً عليها فوق العبء الذي تحمله دون وعي ، إذ لا تدرك شيئا من هذه الحقوق سوى اسمها إن كانت على غير صفات الزوجة الواعية ! ! . . فيضيفان كلاهما عبئاً وهمّا على المجتمع الذي يعيشان فيه ؛ فتكون النتائج وخيمة أكثر من المقدّمات ، ولكنْ أكثرُ وقعها على هذه الفتاة التي لا تملك من أمرها حيلة ! !

 كذلك الحال بالنسبة لهذا الولي ، فمن دينه وخلقه أن يتقيَ ربّه ، فيمن تحت يده من الأرحام ، ويقدّر المنزلةَ التي أنزله الله إياها ، وهي منزلة المسؤولية والأمانة التي اؤتمن عليها ، كراع مسؤول عن رعيته مؤتمن عليها ؛ فالزواج لا يتوقف عند تمام عقد الزواج ، ولا بمجرد زفّ العروسين إلى عشّهما إن لم يكن هذا العشّ قبواً يتم فيه أنواع التعذيب النفسي والجسدي . . . ، الزواج معايشةٌ ومعاشرةٌ ، آمالٌ وآلامٌ ، أفراحٌ وأتراحٌ . . الزواج إما جنّةٌ من جنان الأرض وملكٌ يبلى ، وإما نارٌ من نيرانها تحرق القلوبَ ، والتي لا يطفئها ماءٌ باردٌ أو حارٌّ بعد أن يتمكّن أوارُها من قلب المحروق ، وتتطاير شظاياها لتصيب كلَّ من كان سبباً رئيساً في ذلك الزواج ! ! . . والواقع يفيض بالوقائع .

احذروا . . الضربة المباشرة ! !

لكن بالمقابل ، فإن هذين الطرفين المخلصَين – أحسبهما كذلك - لا أظن أنهما قد عميا عن رؤية طرف ثالث أشد خصومةً وأنكى ، له من هذه القضية ومثيلاتها مآرب أخرى . وإذ أجزم بهذا ، فمن واقع الحال وصريح المقال ، فمن يدعو لتحديد سنّ ثماني عشرة سنة أو أكثر لزواج الفتيات(1) ، وفي الوقت نفسه يدعو لحرية منفتحة وعلاقات منفتحة - بين الفتيان والفتيات - فهذا هو الطرف الذي يدعو إلى شوط إضافي ، ويتمنى استبدال اللاعبين ؛ لعله يحظى بضربة مباشرة لتسديد هدفه المنشود ، في شبك المجتمع المتمسك بعفته وطهارته ، المتماسك في بنيانه . . هو الطرف الذي يصطاد في الماء العكر ، ويخلط الأوراق البيضاء بالحمراء والصفراء . . يسعى جاهداً بشتى الطرق والوسائل - لا يهمّه الوسيلةُ بقدر ما يهمه الغايةُ - ليلوّث عفّة مجتمعه ، وطهارة أبنائه باسم التقدم والتطور ومسايرة العصر . . وهل كان ذلك إلا في الدعوة إلى هذا الجانب وأمثاله من السفور والانحطاط الأخلاقي ، وترك ما من شأنه رفعة المجتمعات أخلاقياً وعلمياً في مجالات شتى , وأبواب عديدة مغلقة على الانفتاح ؟ ! . . عجباً لأمره ! !

إن هذا الطرف كما أنه ينبغي التنبّه إلى خطره على قيم المجتمع وأخلاقـه ، ينبغي كذلك أن يُتعهّد - من قبَل العقلاء الحكماء - بالحجة والبرهان والنصيحة والبيان ، سراً وعلانية ؛ لعله إلى رشده يوماً يؤوب ، من قبل أن يأتي يوم لا خلة فيه ولا شفاعة .

لذلك كان خليقاً بهذين الطرفين اللذين أهمهما أمرُ فتياتنا ، نساء المستقبل ، وصانعات الأجيال . . بدلا من المناظرات العقيمة والمراء الذي يزيدنا فُرقة وشقاقا ، ويفرّق بين أبناء الوطن الواحد أكثر مما يوحّدهم ، وقد جرّبناه بما فيه غُنيةٌ وكفاءٌ . . أن يتوجها بالهمّ الواحد ليتبنّيا مشاريعَ عملاقةً ومؤسساتٍ رائدةً(2)في مجال الأسرة تثقيفاً وتربية وتعليماً ، ويتبنّيا مناهج أسرية تربوية في المدارس والجامعات ، باستشارة مخلصين محبين لدينهم ومجتمعاتهم ، وبدعم وطني عربيّ خالص ، قبل أن تتمكّن من ذلك منظماتٌ وجمعياتٌ غربيةٌ تخلط السمّ في العسل . . ليس رحمةً بنسائنا ولا لحَوَر عيونهنّ وسوادها ، بل هو فضلٌ – مدفوع الثمن - تؤتيه من تشاء متى تشاء ، وتنزعه ممن تشاء متى تشاء ؛ لغرض كان بالأمس في نفوسها ، فأصبح اليوم علناً في قوانينها واتفاقياتها وتحركاتها . . مستخدمة في ذلك أسلوب (العصا والجزرة) مع أنظمتنا وحكوماتنا العربية ؛ لـ((تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى)) . . في ((الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية . . .)) تارة باسم ((. . . تنقيح كتب الدراسة والبرامج المدرسية)) ، وتارة باسم ((التعليم المختلط وتكييف أساليب التعليم)) ، طَوراً تحت مسمّى (رياضة المرأة) و حقها ((في الاشتراك في الأنشطة الترويحية ، والألعاب الرياضية ، وفي جميع جوانب الحياة الثقافية)) ، وطَوراً آخرَ تحت مسمّى ((القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل ودور المرأة على جميع مستويات التعليم...)) . . . إلى غير ذلك مما تصبو إليه نفوس القوم .

القـــانـــــون . . وإحكام عزفه :

لذلك ينبغي أن تتوجّه الجهود والطاقات إلى جذور قضايانا عامة ، ومنها هذه القضية (الزواج المبكر) أو (زواج الصغيرات) ، والذي توسّع خرقها على الراقع ، وقامت الدنيا فجأة من أجلها ولمّا تقعد عن حلول لجذورها وسيقانها وأغصانها .

اهتممنا بالثمرة التي طابت عند قوم دون أن يُعنوا بها تهذيباً وتثقيفاً ورعاية ، ولم تطِب عند قوم آخرين دون أن يعتنوا بها – كذلك – من مهدها ! !

فللطرفين ، قبل أن تتذوّقا حلوَ الثمرة أو مرّها :

إنْ تجتمعا سويّة اجتماع مصلحة ، وتبدآ باختيار التربة الصالحة ، ومن ثمّ تسوية الأرض والاعتناء بها وببذورها . . يستوِ لكما سوقُها ، وتزكُ نفوسُها ، ويطِبْ لكما ثمارُها ، وتطِبْ هي نفساً ، وتحلُ طعماً . . وحينذاك لا نقول إلا : هنيئاً مريئاً .

ولكن . . ولأن هذه الرعايةَ الناضجة نفتقد إليها في زماننا هذا ، ومجتمعاتُنا العربيةُ تنضح بمشكلات التفكك الأسري وفوضى الأخلاق(3) . . فأرى أنه لا مانع من تحديد سنِّ للزواج للجنسين كليهما .

وعلى المؤسسات الحكومية بمختلف توجهاتها ، وخصوصا : الدينية والتربوية والاجتماعية والإعلامية . . ألا تألو جهداً فيما من شأنه الحفاظ على نسيج المجتمع أخلاقياً وتربوياً ، وتماسك بنيانه ، وأن تتوجه إلى هذه الفئة العمرية بالذات – فئة ما قبل الزواج – بالتوعية الكاملة بالمخاطر التي تحيط بها وبمجتمعها في عصر (عولمة) انحلال الأخلاق وتفسّخ القيم . . وإلى جانب هذه التوعية المستمرة قوانينُ وضوابطُ للآداب العامة تحفظ الأخلاق والقيم . . وبالحكمة والموعظة الحسنة . . على أن يكون هذا القانون وتلك الضوابط متلازمين كتلازم الروح والجسـد. . وإلا فلتُـتركُ مكةُ لأهلها ، فهم أدرى بشعابها . . وإن شقّ عليهم بعضُ منعرجاتها ، فذلك أهون عليهم من السقوط في هُوّة مسخ القيم .

كما أتوجّه إلى قلوب أصحاب القرار وضمائرهم ، في المؤسسات والمنظمات الحكومية والأحزاب ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدنية ، إلى أن يُقَرّ هذا القانون بقرار وطني خالص ، لا علاقة له بحهات غربية ؛ فلا ينضووا تحت مبدأ التدرّج مجاملة ، أو باسم المصالح المتبادلة ؛ ليصلوا بقضايانا إلى (أمم متحدة) على انحلال الأخلاق ، فيما يخص العلاقة بين الجنسين ، المفتوح بابها على مصراعيه . . ولا يولُّوا وجوهَهم شطرها ؛ ليعقدوا اتفاقيات معها بهذا الشأن أو مثيل له . . فلنا ديننا ولهم دينٌ .

وتبقى المصلحة بيننا وبينهم فيما لا ضرر فيه على ديننا وأخلاقنا وقيمنا الجميلة .

الحاشية :

1- العجيب في الأمر أن الغرب الذين جرّموا الزواج تحت سنّ الثامنة عشرة ؛ بحجة أن الجيل الذي تحت هذا السن أطفالٌ ، وأن الفتيات (الأطفال) لا يُطقْن تحمّل الرجال . . أجازوا لـ(الطفلة) تحت هذا السن أن تمارس الجنس منذ صغرها ، وتتحمّل الرجال على مختلِف الأشكال والأوزان والأعمار ! ! . . وما خبر أصغر أُمّ في العالم في العام 2009م - التي بثته قنوات إخبارية - عنا ببعيد ، وهي فتاة بريطانيـة في الثانيـة عشـرة من عمـرها – إن لم تكن أصغـر مـن ذلك – وسـواها مـن الأمـهـات (الأطفال) بالملايين ! ! !

2- ثمة بوادرُ في ظهور مثل هذه المؤسسات في بلداننا العربية ، منها بلادنا اليمن ، إلا أنها مؤسسات قائمة على جهود فردية ، لا تزال بحاجة إلى مزيد رعاية وتشجيع ودعم من الجانب الحكومي والخاص ورجال الخير .

3- خصوصاً في السنوات العشر الماضية ، والسنونَ القادمةُ حبلى بمزيد من ذلك إن لم يتدارك الأمرَ أهلُ الرأي والمشورة وأصحاب القرار .