قصف عرش بلقيس
بقلم/ كاتب/علي الغليسي
نشر منذ: 14 سنة و 9 أشهر و 14 يوماً
الأحد 07 فبراير-شباط 2010 01:40 ص

*كما لم يحدث من قبل.. جاءت أكثر من فاجعة لتقصم ظهر التاريخ والحضارة، لا مجال للاستعراض بأعمدة العرش التي خلدت عظمة مملكة السبئيين.. ما الذي يمكن فعله بعد أن صار معبد (برآن) ركاما؟! هل علينا أن نتباكى على ضياع الأمل في الحصول على (تاج بلقيس) من بين الأنقاض؟ أم أن الواجب يقتضي الإمساك بزمام المبادرة لمواجهة القصف الذي تموضعنا بسببه في واجهة الأحداث على إثر التخبط الرسمي الذي أحالنا أحزمة ناسفة وعمالقة التخريب والدمار.

*تابعوا بتركيز.. المخابرات الأمريكية قامت بترجمة مقال محمد أنعم رئيس تحرير صحيفة الميثاق لسان المؤتمر الحاكم.. أحالت الترجمة إلى وحدة التحليل وقسم المعلومات.. الخلاصة ترفع لوزارة الدفاع مفادها (مأرب.. أخطر من تورا بورا ووزيرستان).. هناك أجانب يتواجدون في محيط (عرش بلقيس) ويحتمل أنهم إرهابيون!! ليست المعلومات الرسمية وبلاغات المخبرين وحدها قابلة للنقاش ولها قابلية التصديق، هناك المقالات والتحليلات المنشورة في وسائل الإعلام مصدر مهم لدى أجهزة الاستخبارات، التي على ضوء تقاريرها النهائية تتخذ القرارات العسكرية.

*تخيلوا معي.. الجوال يرن، هناك رسالة جديدة، خبر عاجل (طائرات يمنية وأمريكية تقصف عرش بلقيس الأثري في محافظة مأرب التاريخية).. يا للهول، أمر لا يصدق!! أمريكا وإن كانت قد قتلت (أبو علي الحارثي) في صحراء مأرب، عليها التزامات ومواثيق دولية بعدم المساس بالمناطق الأثرية ولن يسكت المجتمع على فعلتها الكارثية في حق تأريخ سبأ بعد أن غض الطرف عن تدميرها (لحضارة وآثار بابل) بحثا عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وحدها أمريكا ستكون قادرة على امتصاص غضب القوى الدولية وستثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الضربة استهدفت إرهابيي عناصر القاعدة بناء على المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام الرسمية وتصريحات المسئولين اليمنيين، أما حكومة بلادنا فستعلن إرسالها لجنة لـ(تقصي الحقائق وإخفاء النتائج ) الشهيرة.

*لم أقم بسرد هذه التخيلات عبثا، وإنما لكي أصل إلى حقيقة قد تكون غائبة أو مستحيل حدوثها، أو قد تكون نتيجة أو استنتاج أو رؤية جنونية أو نظرية غير منطقية، ولكن في مسلسل الحرب على الإرهاب كل شيء معقول وممكن، وكل الأمور يتوقع حدوثها طالما استمرت السلطة في تقديم بلادنا بشكل عام ومحافظة مأرب بشكل خاص على أنها وكر للإرهابيين وملاذا آمنا لعناصر تنظيم القاعدة، بقصد استجلاب الدعم والحصول على حفنة زهيدة من الدولارات.

*لقد قصفت (مأرب) بما فيها الكفاية، مللنا متابعة الفضاء الإعلامي، توقفنا عن مشاهدة القنوات الإخبارية والصحف المحلية والعربية والعالمية التي تواصل تضخيم الأحداث وتهويل القضايا وحولتنا إلى كتل مفخخة صالحة للنشر في صدارة أخبار الرعب والقتل والدمار.

*على إيقاع طبول الحرب على (عائض الشبواني) ورفاقه تلقت حاضرة سبأ أعنف تشويه إعلامي، لقد سقط (العرش) أكثر من مرة، لا فائدة من تخيل القصف الأمريكي، وتوقع أخطاء الطيران اليمني، ولا جدوى من العويل فوق كومة الصخور التي هدمتها معاول السلطة وأبواق السفاهات التي اعتادت النيل من موطن الحضارة، وتقديم نيران الرصاص وحمم القذائف هدايا سخية مقابل براميل النفط وأطنان الغاز.

*لو كان (هدهد سليمان) لا يزال على قيد الحياة لكفانا المهمة الشاقة لتحسين صورة (مأرب) ولن تكون هناك حاجة للدفاع عنها لأنه يعرفها جيدا.. محافظة تعشق السلام.. أبناؤها مسالمون وينبذون العنف مع أنهم أصحاب قوة وأولو بأس شديد.. هي تضاريس مختلفة تجمع بين بقايا حضارة ماض مندثر وشيء أكثر من التمدن والعصرية، إنها منطقة بترولية لكنها تحلم بالتنمية... المدنية والشورى والديمقراطية هي بالنسبة لهم معان وقيم رضعوها من ثدي (ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون).

*أرهقت قلمي في تدوين خربشات قد يعتبرها البعض هراء، لكنها بالنسبة لي نوع من التنفيس عن مكنون الفؤاد المجروح من التناولات المشبوهة والمسيئة للإنسان المأربي الذي يذبح يوميا بسكاكين السلطة وطلاب المصالح على شاشات الفضائيات وفي الصفحات الأولى لقراطيس الزيف والكذب والمبالغة، غير أنهم و(إن لم يحسنوا الذبحة) لن يصلوا إلى مبتغاهم فالروح التي امتلكها ذلك الإنسان العملاق الذي شيد سد مأرب وهندس معابد وقصور المملكة ورسم بريشته صورة التاريخ، وسافر إلى القدس من أجل السلام هي ذاتها التي تسكن أجيال اليوم، حتى وإن سرقت منهم على حين غفلة فإنها سرعان ما تعود!!.

*المشكلة الحقيقية تكمن في أن السلطة تبحث عن مبررات للهروب من استحقاقات البناء والتنمية وتضمن لها بقاء (مأرب) في ذات المربع الكئيب.. الإنجاز الأكبر عندها تحويل محافظة الخير إلى ثكنة عسكرية تحرس النهب المنظم للثروة من عين الحسود، لا تريد أن ترى في السكان أكثر من مجرد جمهور بائس يتقرفص على (مزرعة) ويكابد من أجل تأمين لقمة العيش، الشعور بالمتعة لديها تحضر حد الهوس حين تتفرج على الصراعات القبلية وهي تتسيد المشهد فوق خارطة تعج بتراكمات الأمراض الجغرافية وتصفية حسابات الماضي مع المستقبل.. الجبال مع الصحراء.. الفقر مع النفط.. لتستبشر بأن رائحة البارود ستظل عالقة في خياشيم الأجيال... وفي آذانهم دوي الانفجارات التي ستدفعهم إلى مواصلة الرقص على إيقاع الثأر والسير بكبرياء وحماقة وجهل لمعانقة أشباح الموت.

*أفكاري لم تكتمل بعد.. لكننا في النهاية اهتدينا إلى من (نكر) عرش بلقيس، وصوره بغير الصورة التي يجب أن يظهر بها، لسنا (إرهابيين) ولا (مخربين) ولا (قطاع طرق).

نفوسنا مصدر التسامح والسلام، وأرضنا منبع الثورة والعطاء، ابحثوا عن ضالتكم في الستين والسبعين ومسيك أولاً.. نحن نبحث عمن ينتشلنا من مستنقع البؤس وواقع الحرمان، صحراؤنا المعطاءة بحاجة إلى من يبنيها لا من يحرقها بالصواريخ والقذائف.. يكفينا ما حل بنا من المآسي والهموم وضياع مستقبل الأجيال في زحمة أسواق الحزن وأحقاد الزبانية والأوغاد.. لا تقتلونا مرتين: بالإهمال، ومطر الطائرات.. اختاروا قصفا واحدا.. قصف الآمال أو قصف التاريخ، دعوا عرش بلقيس كي نفاخر به، اتركوه قصة المجد الفريد الذي ضاع في رحلة البحث عن الحاضر الخاسر بين قصور (النهدين) وأسوار (البونية)!!