المأزق اليمني بين الأمس واليوم
بقلم/ د.عمر ردمان 
نشر منذ: 4 سنوات و أسبوع و 3 أيام
الثلاثاء 17 مارس - آذار 2020 07:54 م
 

في عام 1964م وبينما كانت الثورة اليمنية الوليدة تراوح بين الاستقامة والانهيار عقدت قمة عربية في الاسكندرية حضرها الرئيس عبدالله السلال رحمه الله مع وفد جمهوري مرافق له، على هامش القمة التقى الرئيس المصري جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز لتقرير مصير الثورة السبتمبرية بمعزل عن الحكومة اليمنية وعدم علمها بذلك، وكان مما اتفق عليه الرئيس والملك عقد مؤتمر اركويت في السودان للمشاورة والاتفاق على حل الملف اليمني، وهي المشاورات التي حضرتها الحكومة اليمنية مجبرة من قبل الجانب المصري حيث مثلها ابو الأحرار الزبيري بعد أن رفض الرئيس السلال ورئيس الوزراء حضورها بصفتهما الرسمية.

في تلك الفترة كانت مصر هي الساند والداعم لثورة سبتمبر وهي التي لولا مساعدتها وجهودها لما قامت الثورة أو على الأقل لما كتب لها النجاح ولأصبحت اليوم في كتب تاريخنا الحديث مجرد محاولة ثورية تضاف إلى أختاها: ثورة 48 وحركة 55، بينما كانت السعودية هي الداعم والساند للارتدادات الملكية التي ابتدأت من نجران، مع فارق أن الدعم السعودي لم يكن مباشرا كحالة مصر المتواجدة بجيشها ومعداتها؛ بل كان دعما سياسيا وعسكريا وماليا للقيادات الملكية ممثلة بالبدر وابن عمه محمد بن الحسين، وهذه السياسة بدورها مثلت فارقا لصالح الإمامة التي استعطفت أنصارها بأنها تقود معركة وطنية ضد احتلال خارجي.

قبل الحديث عن مخرجات مؤتمر اركويت وما ترتب عليها نذكر طرفتين أوردهما على نحو متطابق كل من القاضي عبدالرحمن الإرياني والاستاذ احمد محمد نعمان في مذكراتهما، وهي أنه أثناء انعقاد قمة الإسكندرية -وهي أول قمة عربية يحضرها النظام الجمهوري المعترف به- رفض السلال إلقاء كلمة اليمن المكتوبة سلفا حيث قال أن عبدالناصر قد قال له بأنه لن تلقى كلمات للزعماء، لكن حين ألقى الرؤساء كلماتهم تناول السلال دوره وارتجل كلمة لم تكن مرتبة وأورد من ضمنها باللهجة الصنعانية (انتو هانا بتتداولوا الحديث بينما إسرائيل بتبرم للعرب كلهم) فلم يفهم الزعماء العرب معنى (تبرم) والتي تعني (تكيد) وراح السفراء يستفسرون من المعنى بعد فعاليات الجلسات. أما الطرفة الثانية فعندما علم الرئيس السلال بأن الرئيس عبدالناصر والملك فيصل يلتقون على انفراد لبحث القضية اليمنية رغم تواجد رئيس اليمن وحكومته في نفس الفندق، قال السلال لنعمان اسكه سير ابسر ما بيقلوا. فقال له الاستاذ نعمان: بطل الفضول البلاد بلادهم والقرار قرارهم احنا مجرد مسرح لتصفية خلافاتهما.

بعد مؤتمر اركويت الذي كانت مخرجاته لا تسر الحكومة اليمنية والتي كانت تنم عن تفاهمات جدية مسبقة بين الجانب المصري والجانب السعودي حول تقرير مصير النظام الجمهوري وإضفاء صفة الشرعية على مخلفات النظام البائد من العناصر الملكية؛ لجأ رجال اليمن وأحراره إلى خيارات شعبية مختلفة أسفر عنها عقد مؤتمر عمران ومؤتمر خمر ونشط قادة الثورة وأحرارها في الالتحام بالشعب والقبائل اليمنية حيث استشهد الزبيري رحمه الله عندما كان في إطار تلك الخيارات الشعبية أثناء تواجده في قبيلة ذو محمد ببرط، وخيارات سياسية منها تشكيل حكومة جديدة برئاسة أحمد محمد نعمان رغم الخلاف الذي قائما بينه هو والقاضي الزبيري والقاضي الإرياني والقاضي عبدالسلام صبره والشيخ عبدالله الأحمر من جهة، وبين الرئيس السلال والعقيد عبدالله جزيلان وغيرهما من جهة أخرى، والذي كان جوهر الخلاف حول الدور المصري المباشر في الشؤون الداخلية اليمنية وكان لكل منهم رؤيته وأسبابه التي يرى من خلالها مصلحة النظام الجمهوري رحمهم الله جميعا.

وفي ثنايا توتر العلاقات بين مكونات النظام الجمهوري وبين داعميه تفاجأ الجميع بوصول مجموعة من مشائخ اليمن ومنهم الشيخ سنان ابو لحوم والشيخ علي القوسي والشيخ أحمد المطري وغيرهم إلى السعودية واللقاء بالملك فيصل والتي تمخض ذلك اللقاء عما أسمي مؤتمر الطائف بين هؤلاء المشائخ وبين الجانب السعودي وكانت مخرجات مؤتمر الطائف تصب في الحل السياسي من وجهة النظر السعودية.

أثارت هذه الخطوة من المشائخ اعتراض كثير من قادة النظام الجمهوري لكن تأثيراتها الكبرى تمثلت في ردة فعل الرئيس جمال عبدالناصر الذي توجه بعدها مباشرة إلى السعودية واتفق مع الملك فيصل على جملة من الحلول للمشكلة اليمنية بالنسبة للطرفين الاقليميين (مصر والسعودية) حيث كانت مخيبة لآمال قادة النظام الجمهوري حيث تضمنت تلك الاتفاقات بين ناصر وفيصل على دفع الطرفين اليمنيين الجمهوري والملكي إلى مفاوضات حرض، وإقامة نظام وسط لا جمهوري ولا ملكي ويتم تسمية اليمن (دولة اليمن الإسلامية) خلال فترة انتقالية يتم خلالها الاستفتاء الشعبي على النظام الجمهوري!!.

لقد كانت مصر في تلك الأيام تعتبر أن وجودها في اليمن قد وضعها في مأزق تريد الخروج منه مهما كانت التنازلات، ويبدو أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية: كثرة خلافات الصف الجمهوري اليمني،،، وتعرض مصر لمشكلات إقليمية خاصة مع اسرائيل جعلتها في حاجة الى جيشها المتواجد في اليمن،،، وإطالة فترة الحرب الجمهورية الملكية التي لم تحسم رغم أن الطرف الأقوى سياسيا وعسكريا هو الطرف الجمهوري المعترف به في الجامعة العربية وهيئة الأمم، لكن ركون الطرف الجمهوري إلى هذا الاعتراف الدولي جعله في مأمن من تغير المواقف، بينما الطرف الملكي والذي كان يوصف دوليا بأنه مجرد تمردات محدودة في بعض المناطق الشمالية قد استفاد من الوقت خاصة وقد امتلك الظهر والسند السعودي الذي لا يخفى على أحد مدى تأثيره الكبير في اليمن حيث في عرف السياسة اليمنية وتاريخها القريب يعد الرهان على غير السعودية رهانا خاسرا.

ومما يؤخذ على قادة النظام الجمهوري حينذاك فشلهم في استمالة الجانب السعودي وطمأنته من مستقبل الثورة وتداعياتها، ولعل ظروف تلك المرحلة وسياقها قد أضعف من قدرتهم على ذلك يرحمهم الله.

لكن هل استسلم قادة النظام الجمهوري لتغير الأوضاع الميدانية والمواقف السياسية للقوى الخارجية أم ظل يدق في الجدار حتى فتح نافذة للضوء نفذ من خلالها إلى الأمام محافظا على مكتسباته؛ غير مهدر لتضحيات ربع قرن من شلالات الدماء والدموع التي سكبها عشرات الآلاف من أنبل وأشرف وأكرم من عرفت اليمن؟

في الحلقة الثانية من هذه التناولة نلخص فيها إن شاء الله خيارات اليمنيين الجمهوريين التي رسمت النهايات لصالح النظام الجمهوري حافظت على مكتسباته وأخرجت حلفائه من حرج المأزق الذي وقعوا فيه. ومدى تشابه واختلاف ظروف الأمس واليوم وإمكانية إعادة تطبيقها ولو بصور مغايرة.

ملاحظة: الوقائع والأحداث التاريخية مستخلصة من عدة قراءات لتاريخ الثورة مما دونه الثوار أنفسهم.