بين «العلمانية هي الحل» و«الإسلام هو الحل»
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 8 سنوات و 4 أشهر و 3 أيام
الخميس 21 يوليو-تموز 2016 10:46 ص
مع تزايد الأعمال الإرهابية التي تحدث هنا أو هناك، ترتفع داخل العالم الإسلامي دعوات صارخة بأن «العلمانية هي الحل»، أسوة بشعارات مقابلة تطرح أن «الإسلام هو الحل».
دعونا نغض الطرف مؤقتاً عن الشعار الثاني، لندردش بشكل خفيف حول الأول. 
يقول من يرفع الشعار العلماني إن الغرب تقدم عندما فصل الدين عن الدولة، بشكل جعل الدين يؤثر روحياً، ولا يتلوث بالممارسة السياسية. مقاربة تبدو معقولة. ولكن الحقيقة غالباً ما تأتي بوجه آخر، وبمجرد أن نغير العتبة التي نقف عليها، فإن المشهد يتغير.
عرف الغرب ـ في الحقيقة – كيف يتعامل مع الحقلين السياسي والديني بنجاعة مكنت «السياسي» من أن يمارس «كوارثه» في حق «الآخر»، من دون أن يتحمل «الديني» مسؤولية هذه الكوارث، لكن هل ـ بفصل المسارات – يكون الديني بريئاً من «جرائم» السياسي؟ هل ـ فعلاً ـ تم الفصل بين الحقلين إلى الدرجة التي لا يكون فيها الديني غطاء لانتهازية السياسيين، ومكياجاً لوجوههم الكالحة؟
في الوقت الذي كانت فيه الطائرات تدك العراق في 1990 و2003، وفي الوقت الذي كانت تلك الطائرات تلقي قنابل الفسفور الأبيض على الفلوجة، كان البابا يخرج ويقول إنه يصلي لأجل العراق وأهله، في تكتيك صُدِّر للعالم على أساس أن الجرائم التي حدثت في العراق وغيره، يرتكبها السياسي الغربي، لا الديني المسيحي، على أساس أن السياسي مرتبط بالجشع الرأسمالي للثروات، والطمع الإمبريالي في السلطات، وعلى أساس أن الديني يسير بثبات على «طريق آلام المسيح»، من دون أن يحيد عنه، كما يراد لنا أن نفهم.
تلك المقاربات ـ في الواقع ـ تسقط في امتحانات كثيرة يمكن على أساسها أن ينظــــر للمســـألة من زاوية أن الفاتيكان يرتكب جرم تحسين صورة الكولونيالية الإمبريالية، أو أن البابا يجمل وجه جورج بوش.
تقوم بـ«عمليات المنتجة» تلك مؤسسات عملاقة تتوزع الأدوار بين الإعلام والاقتصاد، والعمل الخيري، والديني التبشيري، بالإضافة إلى دوائر صنع القرار السياسي، ليتم غسل الجريمة بشيء من الصلاة. لاحظوا مثلاً كيف طغت صورة البابا وهو يغسل أقدام اللاجئين السوريين على ملايين الصور التي أنتجتها آلة الحرب التي كان لـ»الغرب المسيحي» دور بارز في بلورة كارثتها في أغلب المدن السورية، لتقدم الصورة إلى العالم على أساس أن الجرائم التي ترتكب في سوريا هي من فعل «الإرهاب الإسلامي»، وحسب، وأن دور «الغرب المسيحي» يتمثل في إغاثة الهاربين من جحيم «داعش» و»النصرة» إلى «ملكوت السماء» الذي يفصلنا عنه البحر الأبيض المتوسط.
لنقل ـ إذن ـ إن الغرب فصل الدين عن الدولة ـ على هذا الاعتبار- ليعطي للسياسي كامل الحرية في أن يضرب بالسلاح النووي هيروشيما وناغازاكي، ومن ثم يرسل البابا مبعوثيه لمواساة الضحايا، ويعاد تبييض وغسيل تلك البضاعة البشعة التي يمارسها تجار الحروب في العالم. يبدو ـ إذن ـ أن هذا الفصل بين «الديني» والسياسي» لا يعدو كونه فصلاً تكتيكياً مخاتلاً يكون الدين بموجبه مسحوقاً جميلاً تدهن به بشرة تجيد انتقاء ما يناسبها من ألوان متى وكيفما تشاء. وبالإضافة إلى مخاتلة الشعار، يبدو أن «العلمانيين العرب» ـ ومن دون شعور منهم – وقعوا في شرك نصبه لهم ـ من دون قصد – «الإسلاميون العرب»، لأن كل ما فعله هؤلاء العلمانيون هو أنهم عكسوا شعار الإسلاميين المعروف «الإسلام هو الحل»، ووقعوا في شرك «شعرنة» القيم، غير مدركين أن الشعار حتى في نسخته الغربية كان نسبياً، وأن الفصل بين «الديني» والسياسي» كان ولا يزال تكتيكاً تمليه الضرورة والمصلحة، التي لا ترتبط بخير ورفاه الإنسان، قدر ما ترتبط بنزوات رأسمالية وإمبريالية على جانبي الأطلسي.
دعونا نقول بكل صراحة إننا بحاجة ماسة إلى منع «توظيف الإسلام» سياسياً. هذا أمر مفروغ منه، ولا داعي لسرد الشواهد حول النتائج الكارثية لأدلجة الإسلام، وتحويله إلى ما يشبه «الدوغما الآيديولوجية»، بدلاً من «الدعوة الروحية»، تحت شعار «الإسلام هو الحل»، هذا أمر مفروغ منه ـ كما ذكرنا ـ لسبب بسيط وهو أن الإسلام دين لا شعارا.
لنعود بالقول إننا إذا رأينا أن «الفصل العلماني» بين «الديني والسياسي» كان تكتيكياً غربياً، فإن هذا الفصل في نسخته العربية سيكون أكثر تكتيكاً، وأشد التفافاً لخدمة الأهداف السياسية والاقتصادية في السلطة والثروة، بغض النظر عن محتوى المنجز التنظيري في هذا السياق.
لسنا في حاجة إلى شعار جديد يضاف إلى «الدكان». واحدة من أهم الإشكالات التي نعاني منها في هذا الشرق الموبوء بـ»التعلمن» المغلوط، و»التدين» المنحرف تكمن في حقيقة أننا «نكتنز بالشعار»، ونكتفي بامتلائنا «الفارغ» به عن الامتلاء الحقيقي بالممارسات الصافية التي لا تستند إلا إلى خلفية تنموية واقعية، ورفاهية حقيقية.
هناك خشية من أن يذهب دعاة «العلمانية هي الحـــل» الى مذاهب دعاة «الإسلام هـــو الحل»، عندما حول الإسلاميون الدين من «طاقة روحية هائلة» إلى «طاقة آيديولوجية معقدة»» ، سهلت على المغامرين السياسيين، والفاسدين الدينيين توظيف الدين لخدمة أغراضهم النفعية في الوصول إلى السلطة والثروة.
الحل من وجهة نظري ليس في الشعار، إنه يكمن في تلك المنطقة التي يتطلب الوصول إليها تجاوز طروحات الأدلجة العلمانية والإسلاموية.
الإسلام «طاقة» هائلة كان يمكن من دون الشعارات تحويلها إلى «إنارة» مدننا المنكوبة، لكننا فشلنا في ذلك، وقمنا بتحويل هذه الطاقة ـ بفعل الشعارات ـ إلى مواد متفجرة في محطات المترو والأسواق للأسف الشديد، والعلمانية فشلت ـ بدورها – في منع توظيف الدين سياسياً من قبل «السلطة العلمانية» ـ عن طريق علماء السلطة – بما يؤيد حقيقة أن العلمانيين العرب لا يتجاوزون حقيقة كونهم مجموعة من الدراويش، ولكن من دون مسابح ومجالس أذكار.
واليوم ونحن نبحث عن المخرج علينا ألا نغفل عن حقيقة أن كثيراً مما لدينا من الإسلام هو منتج بشري يعود إلى القرون الماضية/الزمن الآخر، وأن الذي لدينا من العلمانية اليوم هو نتاج الحضارة الغربية/الجغرافيا الأخرى، ونحن – لكي نتلمس طريقنا – بحاجة إلى قراءة تأويلية تعيد إنتاج التاريخ في سياقات جغرافية، لنقوم بعملية تصالح استثنائي بين التاريخ والجغرافيا في هذه المنطقة التي يحارب الكل فيها الكل من دون هوادة.