متى يتحول التنظير إلى تطبيق عملي؟
بقلم/ أستاذ دكتور/عبدالوهاب بن لطف الديلمي
نشر منذ: 17 سنة و شهر و 3 أيام
الأحد 21 أكتوبر-تشرين الأول 2007 04:10 م

مأرب برس – خاص

لم يكن من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يربيَ أصحابه على منهج بحت؛ بمعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل مهمته في بناء الإنسان السوي مجرد أن يتلو على أتباعه ما يوحى إليه دون أن يعمل على نقلهم من الجانب النظري إلى الجانب العملي التطبيقي؛ بحيث يتم ترجمة ما اشتمل عليه الوحي من أحكام شرعية إلى واقع يعيشه الأتباع، وبحيث يؤتي البلاغ المبين ثمرته في غرس الإيمان وقطف ثماره، وفي تطابق المعرفة مع السلوك، واستواء الباطن والظاهر، ومعرفة مدى تحقيق الغاية التي لأجلها أرسل عليه الصلاة والسلام.

ومـن أجل هـذا الفهـم الصحيح، لِِـما كُلف بـه ـ عليه الصلاة والسـلام ـ من أداء رسالته والقيام بحـق البلاغ على الوجه الأوفى، فـإن الله ـ سـبحانه وتـعالى ـ قال في شـأنـه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيـهِمْ وَيُعَلِّـمُـهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

فـأمَّا تـلاوة آيـات الله ـ سبـحانه وتعـالى ـ فيعـني البلاغ لما أوحي إليه عليه الص لاة والسلام.

وأمّـا تعلـيم الكتـاب والحـكمة فيعـني: حمل الأتباع على حفظ الـعلم المصحوب بالفهم الصحيح لمراد الله ـ سبحانه ـ ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وأما التزكية فتعني: التطهير من رواسب الجاهلية وغرس الفضائل بكل أنواعها. والمتتبع لحياة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أصحابه منذ الأيام الأولى في تاريخ الرسالة يجد الاهتمام البالغ من جانبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تعهده لأصحابه، وحسن رعايته لهم، والارتقاء بهم في مدارج الكمال الإيماني؛ إذ لم يكن بمعزل عن حياتهم اليومية، كما أنه لم يكتفِ بتلاوة الوحي عليهم ثم ينعزل عنهم وينكفئ على نفسه.

ولقد كان أبرز صورة للتزكية والتطهير هي القدوة التي برزت في حياته في أعلى صورها؛ وذلك في تطبيقه لما يوحى إليه، فكان سلوكه ترجمة عملية يعرف من خلالها الآخرون كيف يحوّلون العلم والفقه إلى سلوك، ذلك أن الإسلام لم يكن مجرد جملة من النظريات التي تتلى ويقف المرء عند حد فهمها ومعرفتها؛ لأنَّ هذا وحده لا يغير من الواقع شيئاً. إن الإسلام جاء من أجل صياغة الإنسان صياغة جديدة ليتم من خلال ذلك تغيير الأنماط والأوضاع والتصورات الجاهلية. وبهذا المنهج الذي سار عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجد جيلاً مثالياً أحسن فهم الإسلام وتطبيقه، وحملِه إلى الناس.

واليوم نرى الكثير من الدعاة يهتمون اهتماماً بالغاً بالإسهاب في الجانب النظري، فيكثرون من الكتابة عن الأسـاليب والوسائل التي تنقل الناس إلى السلوك السوي الذي يتمثل فيه التطبيق للنص، والمتأمل في هذه الكتابات يجد الإبـداع في المفهومات التي تطرح، كما يجد حسن الفهم لاستنـباط الكثـير من المعـاني سواء من النص أو من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالتربية العملية، وما تزال المكتبات الإسلامية تتلقى كل يوم أعداداً من مثل هذه المؤلفات.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل صارت مهمة الدعاة والكتاب الإسلاميين منحصرة في مجرد التنظير والكتابة؟ وهل انتهى واجبهم عن هذا الحد؟ وهل كان الحل للواقع المؤسف لأحوال المسلمين وبخاصة شبابهم في هذه الكتابات التي طفحت بها المكتبات؟

وهل يتوقع كل كاتب وهو قابع في مكتبته أن مجرد انشغاله بهذا الجانب يعفيه من أي واجب؟ ثم إذا صار همُّ كل داعية وكاتب أن يكون في مصدر الموجه لغيره في الجانب النظري؛ فمن الذي سيتولى التربية المباشرة لشباب المسلمين؟ ومن يرعاهم؟ ومتى يظهر على الساحة القدوة الحسنة التي يقتفي الناس أثرها؟

إن الناس اليوم لا ينقصهم وجود من يكتب أو يملي عليهم المواعظ والنصائح، ثم ينعزل عنهم ولا يعرف شيئاً عن آثار موعظته ونصائحه، ولكنهم في حاجة إلى بروز القدوة الحسنة التي تتمثل فيها محاسن الإسلام التي كادت تختفي من الساحة الإسلامية، إنهم في حاجة إلى التربية العملية من خلال الصحبة الدائمة والتوجيه المستمر، ومعالجة جوانب الانحراف عند حدوثه، والترغيب في فضائل الأعمال وتطهير النفوس من أدران المعاصي، والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا؛ بحـيث تكون التربـية قائمة على الملاحظة الدائمة والمتابعة التي لا تعرف الكلل ولا السآمة، وبحيث تقر عين كل داعية وعالم بثـمرة جهـده ونتـاج عـمله، وبهـذا المنهـج يبـلغ الدعـاة غـايـة ما يطمحون إليه، وتختفي كثير من السلبيات والممارسات الخاطئة على الساحة، كما تنتشر صورة الفضيلة والخير في الأمة.

وأهم من ذلك أن تبرَأَ ذمتهم أمام الله ـ سبحانه ـ بما يؤدونه من واجب، وما يبذلونه من جهود في إصلاح أوضاع الأمة المتردية يوماً بعد يوم.

إن حدوث الجفوة بين العلماء والعامة بسبب انعزال العلماء وانكفائهم على أنفسهم بحيث أصبحت الساحة خالية من المعلم والمربي ـ إلا ما ندر ـ نذيرُ شؤم يؤدي إلى شيوع الجهل، وبالتالي التباس الحق بالباطل والسنة بالبدعة، ويغيب عن النـاس حُسـن الأداء للعـبادات بمـا يضـمن موافـقة الـشـرع؛ بل يصبح العامة في هذه الحالة فريسة للأفكار التي تحمل كثيراً من الانحراف خاصة مع وجود القنوات المفتوحة وتعدد مصـادر التـلقي، وعـدم وجـود ما يحصنهم من علم يحملونه، أو عالم يُحسن توجيههم، وسوف تكون الكارثة أعظم على الأجيال اللاحقة.

من أجل هذا كله؛ فإني أدعو أهل الغيرة على دين الله وعلى المسلمين أن يشمروا عن ساعد الجد، وأن يبذلوا الجهود المستطاعة في نشر العلم والفضيلة، وفي تربية الأمة، وفي مقاومة كل باطل بالحجة والبرهان حتى تظل الغلبة للحق وأهله.

ومما تجدر الإشارة إليه أن إمامة الصلاة كانت من الوظائف الشرعية التي يتولاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وكان يقوم بها الخلفاء من بعده بأنفسهم، وقد أصبحت اليوم مضاهية للوظائف الدنيوية بعد أن عزف عنها أهل العلم، فصار يتسابق عليها الباحثون عن الجُعل المادي مقابل القيام بهذه الوظيفة، حتى صار يتولاها، في كثير من الأحوال، من ليس لها بأهل؛ إذ أنّ الصفات التي حددها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يقوم بهذه الوظيفة لا يُلتفت إليها اليوم، ولم تعد معياراً للأهلية لمن يؤم الناس، فكثيراً ما نرى في المأمومين من هو أحفظ وأفقه وأعلم وأسن من إمام الصلاة، وحتى صار يُنظر إلى هذه المهمة بنظرة دنيا، وهذه في الحقيقة كارثة عظيمة؛ فكم من واجبات تتبع إمامة الصلاة من الإفتاء، والإرشاد والتوجيه، ومتابعة النصح، وملاحظة سلوك الناس؛ وهي أمور لا يحسنها إلا قليل من الناس؛ لذلك نرى الصلة مبتورة بين جماهير المصلين وبين أئمة الصلاة. وقد يكون من الكوارث أن يتصدر للفتيا من الأئمة بحكم إمامته من لا يُحسن الفتيا خشية أن يُتهم بالجهل.

ومعنى هذا كله أن العلماء يحتاجون إلى مراجعة موقفهم من هذه الوظيفة ذات الشرف العظيم؛ فإن العزوف عنها إحدى الأسباب التي تعمق الجهل في الناس، وعندما يصبح العلماء في عزلة عن جماهير المصلين؛ كيف ـ إذن ـ تتحقق الوراثة النبوية عند أهل العلم؟ وفق الله الجميع إلى مرضاته، والحمد لله رب العالمين.