دولة القانون والدولة السلطانية !
بقلم/ مصطفى راجح
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 16 يوماً
الخميس 05 يوليو-تموز 2012 04:46 م

أهم سمة للسلطنات الفردية التي ميزت النظام السياسي العربي الذي وصل إلى طريق مسدود مع ثورات الربيع العربي في 2011 هي سمة غياب الدولة أو تماهي الحاكم مع الدولة واعتبار إرادته هي العليا فوق الدولة والدستور والقانون .

بعض البلدان مثل اليمن لم تعرف ابتداء مؤسسة الدولة بشكلها الحديث وما كان موجوداً هو بعض الأساليب الإمامية في الادارة ممزوجة مع بعض القوانين والتقاليد والمباني التي خلفها الأتراك في الشمال والانجليز في الجنوب ، وسهل هذا الضعف في بنية الدولة وعدم رسوخ تقاليدها لا في الوعي المجتمعي ولا في تقاليد الحكم ، سهل ذلك من مهمة الاستيلاء عليها من قبل علي صالح وعائلته ، المشروع الذي اكتملت ملامحه عقب حرب 94 ، وتخلي صالح حتى عن تحالفاته الأفقية على مستوى القبيلة وجماعة الاخوان في طريقة نحو اختزال سلطته كلها في الدائرة العائلية الضيقة.

في مصر يختلف الحال كثيراً فقد كانت الدولة موجودة من قبل ثورة يوليو وجاءت السلطة البوليسية والتي تحولت إلى فرد مستبد وتوريث للابن ، جاءت بالطور السلطاني للحاكم لتقلص استقلالية الدولة عن سلطة الأفراد القائمين عليها في لحظة معينة ، ولأن الدولة عريقة هناك فقد واجهت الإرادة السلطانية الفردية لمبارك صعوبات حالت دون الالغاء الكامل لاستقلالية المؤسستين العسكرية والقضائية ، وإن توارتا في حالة من الكمون وعدم الفاعلية ، وحين دفعت الثورة بالتغيير إلى ميدان التحرير خرجت المؤسسة العسكرية من كمونها وسلكت طريق الشعب لا طريق الامتثال لإرادة من يعتقد أنه صاحب السلطة وفوق الدولة ومالك البلد.

الآن ومع إزاحة الإرادة الفردية السلطانية في مصر وتونس وليبيا ، وتجنيبها في اليمن خارج السلطة على الاقل نظرياً بانتظار استكمال إزاحتها ، تبرز الحاجة التاريخية لبناء الدولة الوطنية المدنية ، الدولة التي يتساوى أمامها المواطنون في الحقوق والواجبات بمعزل عن انتماءاتهم ومعتقداتهم ومناطق مولدهم وقبائلهم.

والبداية تكون من صياغة العقد الاجتماعي الجديد المعبر فعلاً عن إرادة كل مكونات المجتمع وفئاته والمعبر عن مصالحهم وإجماعاتهم بخصوص شكل الدولة وضمان الرقابة المركبة على أداء السلطات وتوازنها واستقلاليتها عن بعض ، والأهم من ذلك كله ضمان تفتيت سلطات الرئاسة وإعادة توزيعها وتحديد آلية ممارستها ، فمن داخل قصور الرئاسة السلطانية ، والرئيس الذي لا يختلف عن السلطان المطلق الصلاحيات ، وهي السمة التي سادت في العقود الماضية كطابع للنظام السياسي العربي ، من داخل هذه القلاع السلطانية وفي ردهاتها نسجت البرامج التدميرية للشعوب العربية وخطط لسلبها إرادتها والعبث بحاضرها ومستقبلها.

وفي كل الجمهوريات الوراثية تعامل السلاطين الجمهوريون باستخفاف يصل إلى مستوى الاحتقار مع الدستور ؛ الذي يفترض أن يكون العقد الاجتماعي الملزم للجميع وأن تعلو أحكامه ومقتضياته على إرادة الحكام ونزواتهم ومشاريعهم لاختطاف السلطة وتأبيدها في الفرد وسلالته.

في اليمن قذف بدستور دولة الوحدة عرض الحائط وترجم المنتصرون في حرب 94 المشؤومة هيمنتهم في التعديلات الدستورية التي عبرت عن شبق الاستئثار بالسلطة ، وتبعتها تعديلات متواترة مع كل خطوة عملية يقطعها السلطان ونظامه لإنفاذ سيطرتهم على ارض الواقع ، حتى تجاوزت خلال عشر سنوات مافعله الآخرون بدستورهم خلال مئات السنوات ، وبدا الدستور في نهاية المطاف مرقعاً مهلهلاً ومعبراً عن إرادة المستبد السائد ومزاجه ومصلحته الفردية العائلية أكثر من تعبيره عن ارادة الشعب ومكوناته وفئاته ومصالحه.

وفي سوريا عدّل الدستور بصورة مستعجلة خلال ساعات عقب وفاة السلطان الأب ، وكان غرض التعديل قصقصة مادة السن القانونية للرئيس لكي تكون مفصلة و«لابقة» على الطبيب الذي استدعي على عجل ليرث ملك أبيه ؛ بلداً وشعباً.

تبدو الفرصة التاريخية سانحة لمحاولة بناء الدولة ابتداء في البلدان العربية ، وهي مهمة ربما تستغرق خمس سنوات بدأت بالربيع العربي 2011 وستتضح الرؤية عن المرفأ النهائي لعاصفة الشعوب العربية بعد انزياح الأسد واستكمال الموجتين الثالثة والرابعة لتشمل المغرب العربي وممالك الخليج التي سيكون لها شكل الاحتجاج والتغيير الخاص بها والمعبر عن العوامل الموضوعية المتحكمة بوجودها.

الفرق بين دولة قانون ودولة يسيرها مزاج الحاكم السلطان ومزاجه ، هو الفرق بين رئيس يخضع للرقابة والمحاسبة والمساءلة ويصعد للحكم ابتداء بالاختيار الحر للشعب ، ورئيس يغتصب السلطة ويعمل بمقولة لويس السادس عشر “ أنا الدولة والدولة أنا» ويختطف البلد ويصبح استرجاعها من بين يديه ومخالبه مهمة شاقة ومتعبة ومكلفة ، تماماً كحال طائرة مختطفة بركابها من قبل إرهابي مجنون ومفخخ ويهدد المركبة بمن فيها ، وما الدماء التي سالت من طرابلس إلى صنعاء ، ودمشق التي لا زالت غارقة فيها إلا ملمح من ملامح هذا الثمن الفادح للتحرر من الديكتاتورية وسلاطين العصر الحديث.