القضاء وملف محاولة اغتيال الرئيس
بقلم/ د.خالد عبدالله علي الجمرة
نشر منذ: 13 سنة
الأربعاء 23 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 04:53 م

بلا شك أن إحالة ملف محاولة اغتيال رئيس الجمهورية، والذي أصيب فيه عديد من كبار رجالات الدولة، إلى النيابة العامة، وفقاً لتوجيهات صادرة من رئاسة الجمهورية، بحسب ما أعلنته مصادر رسمية، يكشف بوضوح أن النظام لم يعد مهتماً بالواجهة السياسية للملف، فالتجارب السابقة تثبت أن إحالة الملفات السياسية للقضاء يعني تهميش هذه الملفات سياسياً وإعلامياً، وتحويلها إلى مجرد قضايا جنائية اعتيادية...

من المعلوم، أن القضاء في اليمن، لا يمتلك قدرات، وحجم كافي، من الاستقلالية، تؤهله لأن يتخذ قرارات جريئة لا يقبلها النظام السياسي والعسكري، ولهذا لم يكن ليكترث المستشار السياسي لرئيس الجمهورية بأحد وهو يهاجم القضاء، ويتهمه بالفساد من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه على حد تعبيره في مناسبة سابقة، حينها مجلس القضاء اكتفى بتفويض رئيسه ليذكّر الدكتور الإرياني أن لديه أقارب في القضاء، وهو تذكير، الإرياني في غنى عنه، لأن هذا الأخير لايألوا جهداً، ولا يجد حرجاً، ولا يتعب، ولا ينسى، في تذكير مجلس القضاء الأعلى بنفسه بذلك، أثناء حركة التنقلات القضائية باستمرار، كما أن الاعتداء على رجال القضاء، أضحى مسلسل، مستمر، يلجئ إليه أصحاب النفوذ، عند الحاجة، لاستعراض قدراتهم، ونفوذهم، للأخرين، وليظهروا للجميع كم هم أكبر من سلطة القانون، وهيبة الدولة، ولهذا فإن أي ملفات سياسية تحال إلى القضاء للنظر فيها جنائياً، أو مدنياً، تتحول في حقيقتها إلى مناسبة للأسف الشديد تضعف القضاء أكثر وأكثر..

 إن إحالة ملف اغتيال الرئيس، للنيابة العامة بهذا الشكل الغامض، هي محاولة اغتيال حقيقية لمعلومات خطيرة، تخفيها هذه الحادثة الإجرامية، فبكل تأكيد لم تتم الإحالة إلا بعد أن أفرغ ملف القضية من المعلومات الحساسة، والمؤثرة التي لا يريدها النظام أن تظهر، هذا هو التفسير القريب للحقيقة لهذه الإحالة الليلية...

نعم كشف منفذي، ومدبري هذه العملية، قد تكون مهمة، لكنها ليست الأهم بلا شك، عملية جريئة مثل هذه، بهذه الطريقة، وفي ظل ظروف أمنية بالغة الاحتياط، والدقة، وبصحن الرئاسة وتحت مٌتكى الرئيس، كلها مؤشرات واضحة إلى أن الموضوع أكبر بكثير من مجرد وضع قنبلة داخل مسجد أريد لها أن تصادر حياة رئيس الجمهورية وتريح خصوم كثيرون منه!!!!، إن كشف هذا المخطط بصفحاته الكاملة دون بتر او إخفاء، سيظهر معلومات دقيقة، تمس حياة الرئيس الشخصية، وأمنه الخاص، وستكشف كذلك، أسرار عميقة، ودفينة، داخل جدران النظام ككل، والعلاقة التي تحكم عناصره الداخلية ببعضهم البعض، هذه التفاصيل بكل تأكيد، أرادها النظام أن تظل في باطن علم الغيب، لأنها الأهم من غيرها...

 كان أيضاً النظام يستطيع أن يوظف هذه الحادثة، توظيفاً، سياسياً، واجتماعياً، مستغلاً ظروف خاصة للتركيبة الاجتماعية اليمنية، لكنه وبإحالته لهذا الملف للقضاء يكون النظام قد عزم الأمر على النحو بهذا الملف منحى أخر، ولعل استعانته بخبرات أمريكية متطورة في التحقيق الأولي التي أجرته الأجهزة الأمنية ذات العلاقة، يجعل من تراجع النظام عن تحويل هذه الحادثة إلى كرت سياسي تراجعاً محسوباً وذكيا، كون الإمريكان سيكونون مطالبون، أخلاقياً، وسياسياً، وقانونياً، بكشف ما توصل إليه خبرائهم من نتائج حول هذه العملية، لا سيما إذا ما قذف النظام الاتهام، ووجهه، نحو خصومه السياسيون والعسكر أطراف المبادرة الخليجية التي يرعاها الأمريكيون أنفسهم.

سنظلم القضاء عموماً، والنيابة العامة بالخصوص، لو تجاوزنا الواقع، وفرضنا ولو افتراضاً، أنها قادرة على تحمل تبعات ملف متضخم باللؤم السياسي كهذا، لا سيما في الوقت الراهن، هذا القول يستند أيضاً على تجارب سابقة؛ فمثلاً مازالت النيابة العامة لليوم تحاول أن تقنع الرأي العام أن محاكمة المتهمون بارتكاب جريمة ماعُرف باسم؛ جريمة، جمعة الكرامة (18مارس)، محاكمة مهنية بكل ما تحمله المهنية القضائية من عدالة، وحيادية، في حين ينظر إليها الكثيرون، وأولهم أولياء الدم، أنها صورية، وتمثيلية، كتلك المقابلات الماسخة التي يقدمها التلفزيون الرسمي مع أشخاص يموتون، ويبعثون أكثر من مره، لا سيما وأن كثيراً من المدرجين بقرار الاتهام ابتداءاً بالمتهم الأول، فارون من وجه العدالة، في حين يشاهدهم كثيرون في الشارع، والمناسبات الاجتماعية، وتتحدث وثائق رسمية عن سفر بعض منهم، إلى خارج الوطن عبر منافذ رسمية لا يُمكن أن تخرج منها علبة كولا دون موافقة الأمن القومي... ولهذا لم يكن غريباً، أن تفشل النيابة العامة، والمحكمة، في إقناع أولياء الدم، أو بعض منهم، بحضور إحدى جلسات المحاكمة، ولو حتى نصف ساعة، لتقديم، وسماع طلباتهم، لتتحول القضية إلى إلى مجرد جلسات نمطية خالية من الروح!!!؟

كذلك مازالت حادثة قتل الدكتور القدسي داخل مستشفى العلوم، تتحدث عن قضاء، لم يستطع أن يلزم الجهات الأمنية بإحضار المتهمين، الذين ارتكبوا جريمتهم، أمام كاميرا مراقبة، سجلت، ووثقت كل شيئ، فنقلت الصورة، والحركة، والألم أيضاً، أو حتى يعري هذه الأجهزة، ويكشف تقصيرها أمام الجميع، وهو تصرف كان يجب أن يقوم به القضاء، ليبرئ به ساحته، ويظهر، حياديته، وعدالته، وقوته.

كما أن مصادمات الحصبة ومواجهات قوات الرئيس، والشيخ الأحمر، وما تعقبها من توجيهات عليا صادرة بإخراج مسلحي الأحمر ممن ألقي القبض عليهم من السجن، بموجب صفقة رعتها لجنة الوساطة، جعلت النيابة العامة في حيرة شديدة، وأوقعتها في خيارات أحلاها مُر فهل تطبق القانون؟ أم تتجاوزه لمصلحة الهُدنة، امتثالاً لرغبات الساسة ولجان الوساطة (الأمنية)، وكيف سينظر النظام، والأحمر والمراقبون أيضاً للقضاء بعد ذلك!!!؟ وكيفما كانت هذه النظرة فإنه بات من المؤكد أن هذه الأحداث ومع عدم معاقبة مرتكبيها رغم إحالتها للقضاء، أو اختصاصه، بتحريكها، ومتابعتها ، أنهكت بشكل عميق سمعة القضاء، واستقلاله..

من الغريب والمضحك انه وقبل أن يجف المداد الذي كتبت به التوجيهات العليا بإحالة ملف حادثة جامع الرئاسة إلى النيابة العامة، كان الإعلام الرسمي ينقل ببلادة تاريخية طلب رئيس الجمهورية من عناصر وصفها بالمتمردة، بتسليم مرتكبي حادثة محاولة اغتياله إلى النيابة العامة، فأين هي الأجهزة الأمنية، والقوات المسلحة بسلاحها الثقيل، والخفيف، لتقوم بهذه المهمة!!!؟ وهل تستطيع النيابة العامة بعد أن عجز الرئيس عن إلقاء القبض على من حاول اغتياله القيام بذلك؟، ولماذا على النيابة العامة أن تواجه مثل هذه المتطلبات العسرة!!؟ التي فشل النظام بدباباته، وصواريخه، ومدافعه، من مواجهتها..

أن نطالب النيابة العامة بأكثر من مقدرتها الحقيقية حديث غير منطقي، وتعجيزي، ولأجل هذا بُح صوت النائب العام وهو يطلب من الجميع إبعاد النيابة العامة من المكايدة السياسية، ومن أنها تقف بمسافة واحدة من الجميع، وذلك عقيب حادثة وضع اليد على مبنى مكتب النائب العام، والاستيلاء على مخازنه من قوات علي محسن القائد العسكري المنشق من النظام، والمؤيد للثورة الذي تردد إسمه كأحد المتهمين في هذه الحادثة على لسان الجندي والبركاني في تصريحات سابقة، مؤرشفة، ومحفوظة، ولا أدري للأمانة كيف سيتقبل النائب العام دعوة الجندي نائب وزير الإعلام له بعقد مؤتمر صحفي يكشف فيه صفحات ملف الإحالة وهو طلب أقل ما يُمكن وصفه بأنه طلب يخلو من اللباقة والاحترام للمؤسسة القضائية....

إن توريط الأجهزة القضائية الضعيفة أصلاً في المواجهات السياسية، والعسكرية، يعني إسقاط ما تبقى لها من قيمة داخل الشعور الشعبي، وهذا أمر مردّه خطر، ولن يُفسر إحالة هذا الملف إلى القضاء بهذا الشكل الذي تم سوا أنه هروباً للنظام من الإحراج المحلي والدولي بعد أن ملىئ الدنيا ضجيجاً، من أن محاكمة منفذي العملية سيخضعون لمحاكمة علنية، في حين اتضح أن ملف القضية المحال للنيابة العامة مجرد أوراق بدون متهمين، نصفها أو يزيد قليلاً للاستهلاك الإعلامي فحسب، وأن المحاكمة لو انعقدت بالتالي ستكون مرافعات قاصرة بمحكمة قفصها سيبدوا مهجوراً. لا يمكن للقضاء الوطني وفق الظروف الحالية، وأمام أطراف عسكرية، وسياسية متناقضة تفرض نفسها بالقوة على الأرض، وأخر ما تحترمه هو القضاء أن يحتضن محاكمات، عادلة، وقوية، للقضايا ذات البعد السياسي...

القضاء للأسف خلال الحقبة التاريخية المنقرضة خضع بفعل بيروقراطية إدارية ومالية معقدة، وأشخاص لا يملكون الشخصية القوية والتجارب الكافية، خضع إلى التوجه السياسي، والحكومي، مما أفقده الكثير من القبول عند الناس وثقتهم، ما يؤكد هذا أن وزير العدل، ووسط كل هذه الأحداث لم يجد حرجاً قبل تقريباً الشهر من الآن في توجيهه لقضاة بعض المحاكم بانتهاج الحيادية، وعدم التورط في إتون المماحكات السياسية، فكون الوزير كما هو معلوم عضو في الحزب الحاكم، وأحد أعضاء حكومة تصريف الأعمال التي يصفها قطاع عريض من القانونيين أنها غير شرعية، وقراراتها باطلة، كونه كذلك أعتبر قطاع كبير من القانونيين والعدليين مثل هذا التوجيه غريباً، وعجيباً، ثم كيف يمكن أن نتحدث عن استقلال للقضاء وعضو في الحكومة يوجه القضاة ويحثهم على انتهاج الحيادية والابتعاد عن السياسة!!!.

 ما يذهب في هذا الاتجاه ويؤكده عملياً هو انضمام مجموعة من القضاة إلى ميادين، التغيير، والحرية، بصنعاء، وتعز، وترك بعضهم لمنصات الحكم، هذه المغادرة التي قابلها مجلس القضاء، ببرود، وحيرة، تأسست وفق ما يقول هؤلاء القضاة على قناعاتهم بحقهم في التعبير عن ما يعانيه القاضي، والقضاء اليمني من تبعية غير معلنة للحكومة، وارتهان واضح لمزاج النظام السياسي، لهذا لم يجد هؤلاء بٌدّ، من إعلانهم الانضمام لميادين الثورة، وهي ذاتها نتيجة طبيعية لقراءة ذلك الانضمام الجريئ.

إن مادعت إليه المعارضة بوقت سابق، من ضرورة إخضاع التحقيق، في هذه الحادثة لتحقيق دولي، مستقل، هو التوجه الوحيد المضمون، والعادل، المقبول من الجميع لكشف ملابسات هذه الجريمة ومرتكبيها ، وتقديمهم لقضاء مستقل لا يخضع قضاته للتعيينات والمُنح الحكومية وضغوطاتها بإغرائاتها وترهيباتها، ولهذه المسببات الواضحة فإنه يتوجب على القانونيين ومنظمات المجتمع المدني احتضان هذه المطالبات الحقوقية العادلة بل والتوسع فيها لتشمل الطلب بإخضاع كل الجرائم المرتكبة بعد الانتفاضة الشعبية ضد نظام الرئيس صالح لتحقيق جنائي دولي مستقل، تشرف عليه الأمم المتحدة، ويخضعه مجلس الأمن، للتنفيذ، وفقاً لبنود الفصل السابع للأمم المتحدة، هذا التوجه، هو السبب الذي من أجله سارع النظام لإحالة هذا الملف وغيره إلى القضاء مؤخراً، وهو تصرف أراد به النظام قطع الطريق على القضاء الدولي لنظر هذه القضايا، على اعتبار أن القضاء الوطني قضـاءاً أصيل، وان اختصاص القضاء الدولي احتياطي يبداء عند عجز القضاء الوطني، إن العجز لا يعني فقط عدم قدرة القضاء الوطني على نظر مثل هذه القضايا لأسباب سياسية وعسكرية وغيرها، فالمحاكمات الصورية لجرائم تدخل ضمن جرائم حرب، أو ضد الإنسانية، أو الإبادة، هو تأكيد لهذا العجز، ومن ثم تأكيد لاختصاص القضاء الدولي في نظر مثل هذه القضايا، هذا والله الموفق...

*باحث في السياسة الجنائية والقانون الجنائي الدولي