التسوية السياسية.. هل تعني تعميداً ثورياً لمشروع التوريث..؟
بقلم/ حسين اللسواس
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
السبت 13 أغسطس-آب 2011 04:56 ص

بين خياري الحسم الثوري والتسوية السياسية، تتأرجح النهاية المُفترضة للمرحلة النضالية الراهنة من عمر الثورة الشبابية الشعبية المجيدة.

بالنسبة لقطاع واسع من القوى الثورية ظل خيار الحسم السلمي فضلى الخيارين، غير ان استعصاءه على مدى الأشهر المنصرمة تسبب في انحساره الجزئي لصالح خيار التسوية السياسية.

في الواقع، لم يكن هذا الاخير –خيار التسوية- غائباً في يوميات الثورة، إذ ظل احتمالاً وارد الحدوث وتحديداً منذ استعانة النظام الصالحي بخيار الأقلمة واستجدائه عون الخليجيين الذين منحوه –بمبادرتهم في نسخها المتعددة- هامشاً للمناورة وحالوا دون بلوغه مرحلة الاختناق.

يتشاطر الخياران –رغم اختلافاتهما الجوهرية- درجة الاستعصاء ذاتها، فكما ان خيار الحسم (السلمي او العسكري) يبدو عصياً على التحقق كنتاج لتشبث الأسرة الحاكمة او ما بات يُعرف بـ(بقايا النظام) بالسلطة، كذلك يبدو الامر مع خيار التسوية الذي ظل انجازه محل استعصاء مماثل لذات التعليل وتعليلات اخرى.

وفق متغيرات الواقع تتفاوت درجات الحضور والانكفاء بالنسبة للخيارين، غير انهما مؤخراً أخذا يتقاسمان درجة الحضور ذاتها..!

اشتداد المواجهات في كل من أرحب وتعز بين قوى الثورة وحرس العائلة الحاكمة، بقدر ما بات يعزز حضور فكرة الحسم في الأذهان، غير انه لم يفلح في تغييب فكرة التسوية التي لازالت حاضرة بالتوازي وذلك رغم فشل مهمة مبعوث امين عام الأمم المتحدة في تقريب وجهات النظر بين ساسة الثورة وبقايا النظام.

تعليلات أنصار التسوية

ثمة من بات يرى في التسوية المستعصية خياراً مثالياً لنهاية المرحلة النضالية الحالية من عمر الثورة.

بسبق إصرار او دون ذلك، تتعالى تلك الأصوات في محاولة لتخليق قناعات ثورية بعدم جدوى فكرة الحسم الثوري واستحالة انتاجها دون كلفة باهضة من التضحيات.

يسوق أنصار فكرة التسوية انماطاً شتى من التعليلات لتبرير انسياقهم المستميت، فتارة يتحدثون عن اخلاق الفرسان كمبرر لتسويق فكرة التسوية، وتارة يستعذبون العزف على وتر المخاوف من خيار الحسم، غير انهم يجانبون الخوض في تفاصيل التسوية وسيناريوهاتها حتى لا يبرزوا كمدافعين عن بقاء الأسرة الحاكمة.

حتى لا أقع في فخاخ التشكيك بالآخرين التي أضحت فعلاً منبوذاً وغير مقبول بين الثوار، سألزم جانب النقاش الموضوعي في عرض المثالب الراهنة لخيار التسوية.

بالقطع لست مناوئاً لهكذا خيار كنهاية افتراضية للفعل الثوري الراهن، غير انني في الوقت عينه لا أحبذ إبرام اي تسوية لا تحقق الحد الأدنى من التطلعات الثورية المتمثلة في إقصاء صالح وأسرته مقابل بقاء المؤتمر الشعبي العام كشريك بالمناصفة في التركيبة القيادية لنظام مابعد الثورة.

التسوية وتعميد التوريث

في واقعنا المعاش، يبدو الحديث عن فكرة التسوية السياسية محض دفاع عن بقاء ووجود الأسرة الحاكمة، إذ حسب معطيات هذا الواقع، ليس بوسع اي مسارات تفاوضية إنتاج تسوية تحقق غاية إقصاء هذه الأسرة او على الأقل تجعل من رموزها الخمسة موظفين قابلين للعزل والنقل والمحاسبة.

لنكن صرحاء اكثر، ولنعترف بأن التسوية السياسية وفق ماثل المعطيات تجسد تعميداً ثورياً لمشروع التوريث وإسقاطاً جزئياً لرمزية الثورة وإلتفافاً بائناً على غاياتها واهدافها.

ليت الأمر يبدو مقتصراً على ذلك فحسب، إذ ان التسوية ستضفي على وجود هذه الاسرة مشروعية ظلت تفتقر إليها منذ شروع الرئيس صالح في تنفيذ مشروع النظام البديل وانتاج دولة التوريث الموازية –في مؤسساتها واجهزتها وهيئاتها- للدولة الوطنية التقليدية.

الشراكة المستحيلة بين الثورة والاسرة

حين نتحدث عن التسوية السياسية في ظل معطيات الواقع الراهن، فذلك قطعاً يعني تنازلاً عن غايات واهداف ثورية ذات طابع جوهري.

بوسعنا هنا تفريع اهداف الثورة السلمية الى فسطاطين، فهنالك اهداف يُجسد التخلي عنها انتقاصاً من الفعل الثوري والتفافاً عليه وهي هنا الاهداف الجوهرية، وهنالك اهداف لا يُجسد التخلي عنها تقويضاً للفعل الثوري او تحجيماً له وهي الاهداف الثانوية.

تاسيساً عليه، يمكننا القول ان الثورة السلمية لم تكن تتغيا اسقاط شخص الحاكم فحسب، إذ كان اسقاط نظامه الأسري دافعاً رئيسياً وغاية جوهرية ايضاً.

وبالتالي فقبول الثورة بإقصاء الرئيس صالح مقابل بقاء رموز التركيبة القيادية للاسرة الحاكمة يعني ببساطة ان الثورة لم تحقق غايتها الجوهرية، اذ ليس في وسع الثورة ان تساوم على دماء شهدائها الأبرار، وليس بمقدورها تمرير اتفاقات تجعل من قتله أبناءها ومرتكبي جرائم الحصار والارهاب والتجويع في حق ثوارها، شركاء لها في مرحلة البناء التالية لمرحلة النضال.

التسوية خيار مثالي ولكن

ينبغي الاعتراف هنا ان فكرة التسوية لا تبدو مرفوضة من حيث المبدأ على الصعيد الثوري، بل انها تعد خياراً مثالياً، ولكن هل ثمة سيناريوهات تنفيذية لفكرة كهذه يمكنها ان تحقق للثورة ادنى تطلعاتها المتمثلة في اقصاء صالح وأسرته مقابل بقاء المؤتمر الشعبي العام كشريك بالمناصفة؟

وفق المعطيات الماثلة، لايمكن انجاز اي تسوية يمكن ان تحقق ادنى التطعات الثورية، تلك هي الحقيقة الماثلة.

فالمؤتمر الشعبي العام كتنظيم سياسي ليس قادراً في تموقعه الحالي ان يتخلى عن الاسرة الحاكمة او ان يقبل بإزاحتها كثمن لبقاءه شريكاً نصفياً في نظام ما بعد الثورة، السبب ببساطة يكمن في سيطرة هذه الاسرة واستحواذها على المؤتمر لدرجة ان قياداته ليسوا سوى موظفين لدى هذه الاسرة.

وبالتالي لا وجود لأي تسوية يمكن ان تحقق ادنى التطلعات إذ إن الاسرة الحاكمة وتحديداً رموزها الخمسة احمد وعمار ويحيى وطارق وخالد، تجسد العائق الابرز دون امضاء خيار كهذا.

هل سيتخلى الاولاد عن ثرواتهم ومناصبهم؟

في تكتيكات مسوقي خيار التسوية ثمة حضور طافق لفكرة (التنازل من اجل البلد)، كأسلوب للإقناع والترويج.

حسب هؤلاء، فتنازل الطرفين (الثورة والأسرة) هو الحل الوحيد لتجنيب البلاد منزلقات التصادم ومتاهات الحروب!

رغم ان طرحاً كهذا لايبدو مقبولاً على الاطلاق من الناحية الثورية، إلا انني سأفترض جدلاً ان الثورة قبلت بتقديم تنازلات جزئية، عندها هل ستعيد الاسرة الحاكمة أموال البلاد في البنوك الاقليمية والدولية التي تقدر بمليارات الدولارات؟ وهل ستقبل هذه الاسرة بالتنازل عن المناصب السيادية الحساسة التي يشغلها رموزها الخمسة في الجيش والامن مقابل بقاءهم كموظفين إداريين قابلين للعزل والنقل والمحاسبة او سياسيين ليس لهم اي نفوذ في الجيش والامن والتجارة؟

وفق ذات المعطيات، لا أظن ان احمد علي عبدالله صالح يمكن ان يقبل بان يكون وكيلاً لاحدى الوزارات المدنية كبديل لموقعه العسكري، ولا اظن ايضاً ان الكولونيل يحيى محمد عبدالله صالح سيتنازل عن منصبه الامني وملياراته وقصوره واستثماراته في الخارج مقابل بقاءه كوكيل لوزارة السياحة مثلاً.

هؤلاء الفتيان المدللين اعتادوا ان يكونوا رموزاً وقادة، ولا يمكن ان يقبلوا بالتخلي عن سلطاتهم المطلقة وسيادتهم الكاملة ليصبحوا موظفين عند الشعب اليمني وليس سادة عليه.

رفع الغطاء الدستوري عن الاسرة

يدرك ساسة الثورة جيداً ماذا يعنيه الطرح الآنف، غير انهم –لذات تعليلات انصار التسوية- لا يريدون لهذا الخيار ان يتلاشى لصالح خيار الحسم.

يناضل ساسة الثورة في اللقاء المشترك خلال جولاتهم التفاوضية من اجل تثبيت نجاح الهدف الثوري الاول المتمثل بإقصاء الرئيس صالح عبر نقل سلطاته الى نائبه وفقاً للمادة (116) من الدستور.

يظن بعض ساسة الثورة ان تحقيق غاية كهذه سيجسد بداية السقوط للأسرة الحاكمة.

في الواقع، لم يعد الرئيس صالح سوى ورقة ضغط تستخدمها الاسرة الحاكمة (الاولاد بالاضافة الى العمين محمد وعلي صالح) لفرض تسوية تحمي وجودها، وعليه فالرئيس الجريح لم يعد له من الامر سوى ما يُملى عليه من هذه الاسرة التي لن تقبل بإقصاءه سوى باتفاق سياسي يُعمد وجود رموزها كشركاء –وليس موظفين- في التركيبة القيادية القادمة.

يعتقد بعض ساسة الثورة ان إقصاء صالح ونقل السلطة الى عبدربه منصور هادي سيؤدي الى رفع الغطاء الدستوري عن الاسرة الحاكمة وهو ما يفتح الباب لإنهائها وإقصاءها عملياً.

طرح كهذا يمكن ان يكون دقيقاً لو ان عملية النقل تمت دون إبرام اتفاق تسوية، غير ان معطيات الواقع تؤكد حتى الان ان فعل النقل لا يمكن ان يحدث دون إبرام اتفاق تسوية مع بقايا النظام وهو ما يعني اغلاق الباب امام اي فرصة لانهاء هذه الأسرة عبر العملية السياسية.

سيناريوهات مفترضة للتسوية المنتظرة

الحديث عن اي تسوية، لا يمكن ان يكون منطقياً دون التعريج على تفاصيلها وسيناريوهاتها المتوقعة.

بوسعنا هنا تقديم سيناريوهين تنفيذيين لتسوية معقولة، غير انها لن تكون مقبولة ايضاً لمبررات سنبينها تالياً.

لنفترض –كسيناريو اول- ان اتفاقاً للتسوية تم ابرامه بين المشترك وبقايا النظام يقضي بإقصاء صالح ونقل السلطة إلى عبدربه منصور هادي مقابل تشكيل حكومة وحدة وطنية بالمناصفة مع المؤتمر الشعبي العام يرأسها المشترك، على ان تتم إعادة هيكلة الجيش والامن وفق اسس وطنية تكفل تحويل رموز الأسرة الحاكمة الى موظفين قابلين للعزل والإقالة والنقل والمحاسبة.

تسوية كهذه تعني ان نصف الحكومة الوطنية ستظل تحت سيطرة الاسرة الحاكمة كنتاج بديهي لهيمنتها على المؤتمر الشعبي العام، وهو ما يعني ايضاً تعميد بقاء الأولاد بإتفاق سياسي وإنهيار العملية الثورية.

سيُقال هنا ان إعادة الهيكلة ستكفل تحجيم سيطرة الاولاد على الجيش والامن، وهو طرح لا يبدو دقيقاً البتة، إذ لا يمكن لإعادة الهيكلة ان تتم دون أمرين، الأول: فاصل زمني قد يمتد الى عام كامل يبقى خلاله الاولاد في مناصبهم، والثاني: توافق داخل الحكومة الوطنية بوصفها الادارة الفعلية لدولة ما بعد الثورة، وبما انهم –اي الاولاد- لازالوا مهيمنين على المؤسسات السيادية التي يديرونها بذات درجة هيمنتهم على المؤتمر الشعبي العام فإن عملية الهيكلة لا يمكن ان تحدث إطلاقاً في ظل إعتراض نصف أعضاء الحكومة الوطنية على تنفيذها..! وهو تموضع يعني العودة الى المربع الاول مجدداً..!

نظرية المسارين ليست مجدية ايضا

لنفترض –كسيناريو ثاني- ان عملية التسوية تمت بالاستناد الى نظرية المسارين بحيث تمضي التسوية في طريق الحل السياسي بموازاة ابقاء الثوار في الساحات كورقة ضغط وضمان لتنفيذ مشروع إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن على اسس وطنية تكفل تحجيم سيطرة الأسرة الحاكمة عليها.

تموضع كهذا يعني بالضرورة ان الثورة ستبقى في الساحات لأشهر عديدة بعد انجاز التسوية بل انها ربما قد تطول لأكثر من عام كامل.

خلال فاصل زمني كهذا لا يمكن للاعتصامات ان تبقى على حال الجمود، اذ ستتضاعف التصدعات بين الثوار والمشترك ولن يكون بوسع هذا الاخير إبقاء الأمور تحت السيطرة.

ساعتئذ ستكون الثورة في الساحات أمام مفترق طرق حقيقي فإما ان يقبل الثوار بتلاشي ثورتهم وأفولها وتحويلها إلى ورقة ضغط جامدة، وإما ان يضاف المشترك إلى قائمة الأهداف المراد إسقاطها ثورياً..!

وماذا بعد؟

عقب كل التضحيات التي قدمها الثوار، ليس من السهل عليهم القبول بتسوية لا تحقق الحد الادنى من أهدافهم التي ناضلوا في سبيل تحقيقها.

وفق راهن الحسابات، لايمكن انجاز اي تسوية سياسية دون ترتيب وضع الاسرة الحاكمة (تعميد وجودها في معادلة الشراكة القادمة).

ليس بوسع الثورة ان تقبل بتسوية تبقي هذه الاسرة بتموضعها السلطوي القائم، تلك هي الحقيقة الغائبة عن كثير من المنساقين عفوياً لترديد الخطاب الداعم للتسوية السياسية.

بالقطع لسنا نناوئ خيار التسوية الذي يظل اكثر الخيارات عقلانية، ولسنا نرى في الحسم الثوري العسكري بديلاً أمثل، لكونه في التموضع الحالي قد يؤدي الى حرب اهلية شاملة وإغراق في العبث وسفك المزيد من الدماء.

نحن مع تسوية تحقق للثورة ادنى تطلعاتها، وبما ان تسوية كهذه تبدو متعذرة في ظل تعنت الاسرة وتشبثها بالسلطة، فإن البديل المثالي يكمن في صمود الثورة والمضي قدماً في تكتيكات انهاك النظام عبر الورقة القبلية واقحام اذرعة العسكرية اللاوطنية في دوامة من المعارك الجانبية وذلك لإجباره على القبول بالتسوية التي تضع حداً لاحتكار السلطة والثروة وتحقق للثورة والشعب اليمني ادنى تطلعات الحرية والعدل والمساواة.

عندها فقط يمكن للثوار القبول بنهاية المرحلة النضالية من عمر الثورة المجيدة، ليستهل الثوار وشركائهم بعدها مرحلة بناء الدولة المدنية الحديثة وكفى.

*ينشر بالاتفاق مع جريدة «حديث المدينة» اليمنية.

al_leswas@hotmail.com