التاريخ السري لليمن
بقلم/ منير الماوري
نشر منذ: 16 سنة و أسبوع و 3 أيام
الخميس 13 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 02:48 م

كيف استفادت السفارة الأميركية من الدكتور عبدالكريم الإرياني لمعرفة بعض ما يدور في قصر عمه القاضي عبدالرحمن رئيس المجلس الجمه وري؟ ولماذا طلب القاضي الإرياني الاجتماع بإبراهيم الحمدي وحسين المسوري ومحمد الإرياني؟ وماذا أسر الحمدي للدكتور الإرياني عن سبب معارضته لعودة رئيسه المباشر السابق حسن العمري؟ ولماذا حل الأصنج محل النعمان في منصب وزير الخارجية؟

كل هذه الأسئلة وغيرها تجيب عليها الوثيقة الأولى من سلسلة وثائق أميركية تاريخية تعود إلى عقدي السبعينات والستينات من القرن الماضي، حصلت عليها «المصدر» ويبدأ الزميل منير الماوري المقيم في واشنطن، الذي تولى ترجمتها وتحليلها، باستعراض محتوياتها على حلقات ابتداء من هذا العدد:

طبيعة الوثيقة:

تقرير سري مؤلف من ثمان صفحات صادر عن السفارة الأميركية في صنعاء يتعلق بمعلومات مهمة نقلها الدكتور عبدالكريم الكريم الإرياني ابن شقيق رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الإرياني، ومرسل للمقر الرئيسي في واشنطن، مع نسخة إلى السفارة الأميركية في جدة.

تاريخ الوثيقة: 7 نوفمبر 1973

خلفية تاريخية: بقلم المترجم

 (التقرير المرسل من السفارة الأميركية بصنعاء كان تحت توقيع "كراوفورد"، من المرجح أنه وليام كرافورد أول سفير أميركي في اليمن، حيث أن الولايات المتحدة كان لديها في صنعاء سفارة بدون سفير قبل مجيئه، وافق على فتحها الرئيس الأسبق جون كنيدي، ثم قطع اليمن علاقاته بأميركا إثر هزيمة العرب في حرب 1967، وأعيدت العلاقات بشكل كامل في أكتوبر 1972. ويمكن الفهم من سياق التقرير (الوثيقة) أن الدكتور الإرياني كان مسموحا له من قبل عمه الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني بالعمل كقناة اتصال مع السفارة الأميركية لإيصال وتلقي رسائل معينة، ولكن الدكتور على ما يبدو تجاوز دور الرسول، متبرعا بمعلومات غزيرة وكثيرة، لأن المعلومات، لا تكشف فقط أدق أسرار بيت الحكم، بل تكشف أيضا ما كان يفكر فيه رئيس البلاد في تلك الأثناء، وماذا كان يعتزم أن يتخذه من قرارات. كما تكشف أسباب لقاءاته مع كبار القادة العسكريين في ذلك الوقت إبراهيم الحمدي وحسين المسوري ومحمد الإرياني، ولماذا كان القاضي حريصا على إطلاعهم على قرارات مهمة. وربما أن الدكتور الإرياني لم يدر بخلده حينها أن كلامه يدون، وأن الأرشيف الأميركي سيفرج عما تفوه به بعد 35 عاما، لأن القانون الأميركي يسمح للباحثين عن الحقيقة بالتنقيب في السجلات التي أفرجت عنها الخارجية الأميركية بعد مضي المدة القانونية. وحرصا منا على الامانة والدقة في الترجمة فإن الأسماء والمعلومات سنوردها كما جاءت في الوثائق الأصلية دون تدخل، وأي شرح أو إيضاحات جانبية يتحتم على المترجم إيرادها سيتم وضعها بين قوسين بغرض التفريق بين الإيضاح ومحتوى الوثيقة أو الوثائق).

عنوان الوثيقة:

حديث مع عبدالكريم الإرياني مدير منظمة التخطيط المركزي (يبدو أن القصد هنا هو الجهاز المركزي للتخطيط، حيث أن الجهاز لم يكن قد تحول إلى وزارة في ذلك الوقت، وبالتالي فإن الإرياني لم يكن وزيرا في الحكومة ولكنه كان يتردد على عمه كثيرا خصوصا في الأعياد والمناسبات، ويعرف معلومات لم يكن بعض الوزراء يعرفونها، وهو الأمر الذي أهله ليكون قناة الاتصال الرئيسية).

نقاط الوثيقة:

1 - ملخص: الرئيس الإرياني يعرب لنا عن طريق قناة الاتصال الرئيسية (ابن أخيه عبدالكريم) أن حكومة الجمهورية العربية اليمنية مازالت تشعر بالأسى بسبب الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، لكنها تتفهم وجهة النظر الأميركية بشأن ضرورات هذا الدعم. (زمن الوثيقة يعود إلى ما بعد نشوب حرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل وإقامة جسر جوي أميركي لدعم إسرائيل خلال الحرب). كما أن الحكومة اليمنية مازالت مصممة على منع وقوع ضرر طويل المدى على علاقاتها الجيدة مع الحكومة الأميركية لكنها تخشى من أن يؤدي نشوب العمليات العسكرية مجددا إلى جعل الأمر أكثر صعوبة مما كان عليه في المرحلة الأولى. وعلى الصعيد الداخلي، علمنا (من قناة الاتصال الرئيسية) أن الرئيس الإرياني يناور ويسعى من أجل عودة رئيس الوزراء السابق (محسن) العيني، لكنه يواجه صعوبات تجعل عودة العيني غير محتملة في هذه الآونة. كما علمنا أن قادة القوات المسلحة اليمنية تغلبوا على خلافاتهم من أجل مواجهة متطرفي اليسار واليمين على حد سواء. وعلمنا أن وزير الخارجية النعمان سوف يتم استبداله بوزير الاقتصاد (عبدالله) الأصنج.

2 - لقد استدعيت مدير الجهاز المركزي للتخطيط الدكتور عبدالكريم الإرياني، أمس السادس من نوفمبر 1973، وجاء بناء على طلبي. الدكتور الإرياني هو ابن أخ الرئيس الإرياني، وقد اختاره الرئيس ليكون قناة اتصال سرية معنا. وبما أن الدكتور الإرياني من أكثر المسؤولين اليمنيين انشغالا، فإننا لا نرغب أن نفرط في استخدام هذه القناة، كما أنه هو نفسه لا يرغب أن نفرط في استخدامه. ولكن بالنظر إلى أن الوضع القائم في الشرق الأوسط يتأرجح بين الحرب والسلام، أو بين الحرب واستئناف الحرب، ومعظم قنوات الاتصال المعتادة الأخرى غائبة عن صنعاء بسبب رمضان وما تلاه من إجازة دينية هي إجازة عيد الفطر(أكتوبر 26-28) فقد شعرت أن الفرصة مواتية لرؤيته. وكان الهدف هو نقل رسالة للرئيس الإرياني فحواها إفهامه ما تحاول الولايات المتحدة إنجازه فيما يتعلق بالسلام في الشرق الأوسط، وأن نحصل على معلومات موثوق بها عما يعتزم الرئيس اليمني القيام به، بعد الإشاعات عن تغييرات مرتقبة في الحكومة. ومن خلال تعاملنا سابقا مع الدكتور الإرياني فقد وجدنا أنه ليس ذكيا فقط، بل أيضا قناة اتصال يمكن الوثوق به بشكل مطلق، كما أنه حيادي وعديم المشاعر( dispassionate من المرجح أن كاتب التقرير يقصد هنا أن الدكتور أمين وحرفي في نقل المعلومات ولا يدخل مشاعره أو أحاسيسه الخاصة فيها). 

3 - الحرب الإسرائيلية- العربية: (تضمنت الوثيقة فقرات طويلة عن تداعيات حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل ملخصها كالتالي):

أوضحت للإرياني أن الإمدادات العسكرية الأميركية لإسرائيل لم تغير شيئا من واقع المعركة لأنها جاءت بعد أن كانت إسرائيل على وشك إلحاق هزيمة بخصومها قبل وقف إطلاق النار حتى بدون الإمدادات الأميركية. وأوضحت له أن التهديدات الروسية بالتدخل هي التي دفعتنا لذلك، كما أشرت له إلى أن الهدف من زيارة كيسنجر للمنطقة كانت التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى كمرحلة أولى، ثم التحرك نحو هدف أكثر شمولا وهو تجهيز المسرح لمفاوضات حل نهائي. وأشرت إلى أن تصريحات الرئيس السادات وتصريحات وزير خارجيته تؤكد الأهداف البناءة للولايات المتحدة. 

من جانبه قال الدكتور الإرياني إن التصريحات المصرية الأخيرة أنقذت حكومة الجمهورية العربية اليمنية وبعض الحكومات العربية الأخرى، من حيث أنها أعفتها من إظهار مواقف عدائية تجاه الولايات المتحدة. وبما أن اليمنيين بطبيعتهم عرب ولاؤهم قوي لعروبتهم، فإنه لم يكن بوسعهم سوى إبداء أسفهم لاستئناف الإمدادات الأميركية العسكرية لإسرائيل،[1] إضافة إلى أسفهم بسبب بعض التصريحات الأميركية الصادرة في بداية الصراع، خصوصا تصريحات الرئيس نيكسون. ولكن اليمنيين أدركوا أيضا بواقعيتهم حتمية استئناف الإمدادات الأميركية لإسرائيل بمجرد أن استأنف الروس إمداداتهم للعرب. وأوضح الدكتور الإرياني أنه بغض النظر عن العواطف الداخلية للحكومة اليمنية فإن القيادة اليمنية مصممة منذ البداية على منع حدوث أضرار طويلة المدى قد تؤثر على برامج التعاون مع الولايات المتحدة، لكنه حذر من أن نشوب المعارك مرة أخرى قد تجعل من الصعب كبح جماح مشاعر العداء ضد الولايات المتحدة. ومن جانبي طلبت من الدكتور الإرياني أن ينقل شكري للرئيس على التعاون الذي قوبلنا به من قبل الحكومة اليمنية بمختلف مستويات مسؤوليها طوال أيام الأزمة.

4 - السياسة الداخلية: سألت الدكتور الإرياني عن مدى صحة التقارير المتعلقة بتغيير وزاري وشيك، خصوصا المتعلقة برغبة الرئيس في عودة محسن العيني لرئاسة الحكومة، والمعارضة القوية التي يواجهها مثل هذا التحرك، من السعوديين ومن رئيس مجلس الشورى الشيخ عبدالله الأحمر، وربما من بعض القادة العسكريين. وردا على استفساراتي قال الدكتور الإرياني إنه لا يستطيع أن يضعني في صورة أحدث التطورات، ولكنه قادر على إعطائي بعض المعلومات عما يفكر فيه عمه الرئيس وفقا لما فهمه منه أثناء قضائه معه عدة أيام في تعز خلال عطلة عيد الفطر. كما أن لديه بعض الأفكار التقريبية حول توازن القوى المؤيدة والمعارضة للتغيير المشار إليه.

وقال الدكتور إن الرئيس كان يرغب في عودة العيني بالفعل ولكن العيني يطلب ثمنا غاليا، والرئيس يعرف أنه لا يستطيع أن يدفع هذا الثمن دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار أو تمزق الحكومة. ولذلك فإن الرئيس يحاول أن يرضي العيني عن طريق تحقيق نصف مطالبه، وفي نفس الوقت يقلص معارضة المناوئين لعودته إلى النصف. ولإيضاح ذلك على وجه التحديد فإن العيني ومؤيديه في اليسار من بعثيين وغيرهم، ومؤيديه في اليمين صهره سنان أبو لحوم وبقية العائلة، ضغطوا لتحقيق مطالب العيني كما يلي:

أـ حل المجلس الجمهوري.

بـ - إيجاد نظام رئاسي مباشر.

جـ حل مجلس الشورى وإجراء انتخابات جديدة.

ويبدو أن هدف العيني من ذلك هو إطلاق يده كرئيس للوزراء، يحظى بتأييد أعضاء حكومة من اختياره بنفسه، ومجلس شورى يحظى فيه أنصاره بتمثيل أكبر من تمثيلهم في المجلس الحالي. ويقول الدكتور الإرياني إنه بغض النظر عن رغبة الرئيس الإرياني في عودة العيني أو عدم رغبته، فإنه ليس حرا أن يلبي للعيني ما يطلبه. وقد قال الشيخ الأحمر إنه سيعارض حل مجلس الشورى ولو بالقوة، كما أن السعوديين من جانبهم ألمحوا إلى أن 25 مليون دولار من المساعدات لميزانية الحكومة اليمنية السنوية قد تتوقف إذا لم يستمر الحجري في منصبه رئيسا للوزراء. كما أن هناك أنصارا للفريق حسن العمري، رئيس الوزراء السابق الآخر، هددوا بأن أي جهد يسفر عن عودة العيني سوف يواجه بضغط قوي من قبلهم لإعادة تعيين قائدهم السابق في منصب عال. وقال الدكتور الإرياني إن الرئيس يدرك جيدا أن موقف القادة العسكريين مهم جدا لأي تغيير قادم، ولذلك فإن اجتماعا هاما جرى عقده في تعز في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر المنصرم، بين الرئيس الإرياني وثلاثة من كبار القادة العسكريين، وهم العقيد محمد الإرياني القائد العام للقوات المسلحة، والعقيد إبراهيم الحمدي نائب القائد العام للقوات المسلحة، والعقيد حسين المسوري رئيس الأركان. وكانت نتيجة الاجتماع بناءة، حيث أن القادة الثلاثة أبلغوا الرئيس الإرياني أنهم ناقشوا قضية استقرار اليمن مع أنفسهم بشكل مستفيض، وأقروا جميعا بأن كلا منهم لديه طموحه الشخصي، وأن بينهم تباين في وجهات النظر السياسية، ولكنهم متفقون على شيء واحد فقط وهو عدم السماح للمتطرفين يمينا أو المتطرفين يسارا لزعزعة استقرار البلاد، وهذا يعني أنهم فيما يتعلق بالتطرف نحو اليمين، لن يسمحوا بعودة الفريق حسن العمري، لدرجة أن العقيد الحمدي، المعروف بدعمه للفريق، وعد الرئيس بأنه والنخبة من القوات الموالية له سيمنعون ولو بالقوة أي محاولة من الفريق العمري للعودة إلى اليمن. وقال الدكتور الإرياني إن العقيد الحمدي أبلغه أنه شخصيا سيظل ممتنا للدعم الشخصي الذي تلقاه من العمري فيما يتعلق بتطوره المهني في حياته العسكرية، ولكنه أصبح موقنا أن عودة العمري إلى اليمن ستؤدي بالضرورة إلى تقليص سلطات الحمدي، وهو الأمر الذي لم يعد الحمدي مستعدا لقبوله. وكذلك فيما يتعلق باليمين، فإن القادة العسكريين يعارضون الضغوط السعودية على حكومة الجمهورية العربية اليمنية بالعودة إلى فتح مواجهة عسكرية مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، إلى أن تصبح الجمهورية العربية اليمنية قادرة على الدفاع عن نفسها على الأقل. أما ما يتعلق بالمتطرفين نحو اليسار، فإن القادة العسكريين يؤيدون الرغبة الشخصية للرئيس في عودة العيني ولكن بشرط ألا تعني عودته أن يكون قادرا على فرض عدد كبير من مؤيديه في الحكومة الجديدة والمناصب الأخرى.

و(بعد إيراد حيثيات كثيرة رجح الدكتور الإرياني أن يبقى الحجري في منصبه)، لكنه أشار إلى تغيير لا مفر منه يتعلق بنائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية محمد النعمان، لأنه لا يمكنه الاستمرار في منصبه بسبب تناقض جذري في شخصيته مع شخصية الحجري وعدم قدرة أي منهما على تقديم تنازلات قد ترضي الطرف الآخر، فالحجري كبير في السن وتقليدي في نظرته للأمور، في حين أن النعمان تحديثي، ذو شخصية متحدية وغيرهياب، يرفض أن يقدم تنازلات تتماشى مع طبيعة الحجري، وفي كل الأحوال فإن النعمان سوف يعرض عليه المنصب الذي كان يشغله قبل أعوام وهو المستشار السياسي لرئيس الجمهورية، ولكن في حال قبول العيني للعودة بشروط محدودة وهو أمر مستبعد فسوف يعود لتولي الخارجية إلى جانب رئاسة الوزراء، وبالتالي فإن النعمان يمكن أن يعرض عليه تولي المنصب الشاغر وهو سفير في لندن. وبغض النظر عن مصير النعمان فإن وزير الاقتصاد (عبدالله) الأصنج سيعين خلفا له وزيرا للخارجية.

دور حكومة العربية السعودية

أشرت في حديثي مع الدكتور الإرياني إلى أني في آخر لقاء مع الرئيس الإرياني في سبتمبر أعرب لي الرئيس فيه عن رضاه عن حديث دار مع الملك فيصل في الجزائر عندما أكد الأخير عزم حكومة العربية السعودية على فتح صفحة جديدة من عدم التدخل في علاقاتها مع اليمن الشمالي. ولكن الرئيس أبلغني حينها أن الدليل على ذلك سيكون سماح الأمير خالد السديري للقبائل التي يمولها في شمال شرق اليمن أن تبدأ مصالحة مع الحكومة المركزية، وسؤالي للدكتور الإرياني كان عن وجهة نظر الحكومة اليمنية حاليا عما إذا كانت الحكومة السعودية تطبق وعود الملك فيصل أم لا؟

أجاب الدكتور الإرياني أننا لا يجب أن نذهب بعيدا بالقول إن وعود فيصل بالدعم الكامل لجهود تقوية الجمهورية العربية اليمنية قد تم تطبيقها للنهاية، ومع ذلك فإن التدخلات السافرة السابقة التي كان يقوم بها السفير مسعد السديري، لم تعد ملحوظة. ولكن ربما أن السبب يعود إلى أن السفير غائب منذ فترة طويلة، والسفارة السعودية خاضعة لقائم بأعمال متعلم، وحساس، هو طه الدغيثر، ووفقا للقائم بالأعمال فإن السفير السديري سيعود قريبا إلى صنعاء، وسيكون ذلك من سوء الحظ فيما لو اتضح صدق العودة.