العائدون من أفغانستان
بقلم/ عبد الرزاق الجمل
نشر منذ: 15 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
السبت 15 أغسطس-آب 2009 06:03 م

العلاقة بالسلطة – التأهيل – الاندماج

قبل حوالي ثلاثة عقود, برزت ظاهرة جديدة ضمن ما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية " .. وتعتبر "الدعوة السلفية" و"الإخوان المسلمون " أهم التيارات الدينية النشطة التي استطاعت الانتشار في مختلف مناطق اليمن, خاصة في الشطر الشمالي.

تزامن ذلك مع الحملة الأمريكية الداعية لتجيش متطوعين من الدول العربية لمحاربة الجيش السوفيتي بتمويل أمريكي وإشراف أنظمةٍ عربية في مقدمتها النظام السعودي.

وتم تجنيد آلاف اليمنيين من داخل اليمن ومن المغتربين في المملكة العربية السعودية إلى جانب من جُندوا من مواطني الدول العربية الأخرى, وكانت الحركات الدينية هي أداة التنسيق بين جهات التحريض والتمويل وبين الراغبين في "الجهاد" ضد الجيش الشيوعي الروسي وقد لعب اليمن الشمالي برئاسة علي عبد الله صالح دورا شديد المرونة في التسهيل لعملية تصدير المتطوعين.

بالمقابل كان الجنوب اليمني بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني متضامنا مع نظام الحكم الشيوعي الأفغاني المدعوم من المعسكر الاشتراكي ووجه كل طاقته لمنع المتطوعين من التوجه إلى أفغانستان .

تقدر مجلة انتلجينس رفيو الدورية ( Jane's Intelligence Review ) الصادرة في بريطانيا أن عدد المتطوعين اليمنيين المشاركين في الحرب الأفغانية يصل إلى 3000 متطوع بعضهم شارك في ساحات القتال وساهم البعض الآخر منهم في تقديم الدعم من بلادهم . 

إلا أن هذا الرقم يبدو ضئيلا أمام المعطيات التي تشير إلى أن أعدادهم قد تصل إلى أكثر من عشرة ألف شخص وقد لوحظ أن بعض اليمنيين كانوا يسافرون إلى أفغانستان إما بتذاكر سفر مخفضة أو على حساب جمعيات دعوية ولا تزيد فترة جهادهم عن ثلاثة أو أربعة أشهر ليأتي بعدهم فوج آخر.

وهؤلاء تقتصر المهام الموكلة إليهم (التدريب ..الحراسة في الخطوط الثانوية) ويعودون لممارسة حياتهم في المجتمع بشكل اعتيادي معتبرين أن سفرهم وجهادهم هو لأداء فريضة كفريضة الحج بينما تطول فترة الإقامة لدى من يمتلكون الحماس والمهارة القتالية والرغبة في الشهادة ,ويتولى هؤلاء مسئوليات أخطر ويشاركون في جبهات القتال الأمامية. 

لقد كان خوف النظام السعودي والأمريكي من المد الاشتراكي المتسلل إلى الوطن العربي والمتواجد بقوة في جنوب اليمن أحد أسباب الحرص على تهييج العاطفة الدينية لدى الشعوب العربية الإسلامية قاطبة وفي الجزيرة العربية واليمن على وجه الخصوص وتحويلها إلى عامل قوة يساند القطب الرأس مالي في مواجهة القطب الاشتراكي .

لم يكن المجتمع اليمني بحاجة إلى من يقنعه بأخطار المعسكر الاشتراكي, فقد عانى أكثر من غيره من ظلم وبطش الرفاق الذين استطاعوا بجدارة أن يحولوا مدن الجنوب إلى مقابر مفجعة بعد أن كانت تتمتع بمستوى راقٍ من الحرية الفكرية والعلمية والنظافة والنظام.

والجدير بالذكر أنَّ علامة الجزيرة العربية محمد سالم البيحاني رحمه الله كان قد لجأ إلى الشمال بعد قيام الشيوعيين بإحراق مكتبته وأرشيفه وتحويل معهده العظيم إلى مقر لوزارة الداخلية.

كما شهدت العديد من المساجد والأربطة والمعاهد الدينية مجازر بشعة بحق الأئمة والدعاة والخطباء فمنهم من هشموا رأسه بالفؤوس وداسوه بالنعال.. ومنهم من كانوا يربطون أجسادهم ويجرونهم بالسيَّارات حتَّى تتقطع لحماً ودماً على شوارع المُدن أمام العامة. 

يُستفاد من هذا أن الأنظمة قد تلعب بالورقة الدينية لتحقق أهدافًا سياسية, وأن اللعب بها قد يتكرر في مناسبات أخرى وبصور مختلفة, كما أنها ـ بنوع سياستها ـ قد تساهم في صناعة الإرهاب والتعاطف الشعبي معه.

العائدون من أفغانستان

العائدون في الثمانينات

لم يمثل العائدون من أفغانستان في الثمانينات مشكلةً أمنية أو اجتماعية تُذكر, إلاَّ فيما يتعلق بالمنتمين إلى المحافظات التي كانت محكومة من قبل الحزب الاشتراكي .

فهؤلاء لم يسافروا بعلم ورضا حكومتهم.. وعودتهم محفوفة بالمخاطر ، وأكثرهم إما من أبناء حضرموت المقيمين في السعودية أو من أبناء منطقة "مودية " المتمردة على الحزب الاشتراكي فكرياً وقد شهدت هذه المنطقة والقبائل والجماعات المنظمة التابعة للعميد المرحوم " حسين عُثمان عشَّال " مواجهات دامية منذُ ميلاد الحزب الاشتراكي وكان عشال ينتمي إلى جماعة الإخوان المُسلمين وقائداً للجيش الاتحادي قبل الاستقلال في عدن وساهم أتباعه في تأسيس جماعات جهادية شارك عددٌ من أفرادها في أفغانستان .

واستطاع العائدون منهم التأقلم مع حياتهم الجديدة في شمال الوطن أو في السعودية بينما استمرت علاقة بعض العائدين بالجماعات والقيادات التي حفزتهم على الجهاد وتبوءوا فيها مسؤولية ومواقع مختلفة بحسب قدراتهم الدعوية والخطابية والعلمية ومنهم من وجد نفسه مؤهلاً للانضمام إلى الجيش كمواطن ومقاتل .

السلطة الشمالية كانت شديدة الثقة بقدرة رموز الحركات الإسلامية على تولي مهمة الإبقاء على السيطرة على أفكار وتحركات الجهاديين العائدين واستيعابهم في الأُطر التنظيمية لهذه الحركات وكثيراً ما وجدت سلطة الشمال أن تحالفها مع الحركة الإسلامية قد أفادها بشكلٍ مؤثر في مواجهـة النشاطات الفكرية الاشتراكية والتحركات المُسلحة الخطرة التي كادت أن تسقط المحافظات الجنوبية والوسطى التابعة لنظام صنعاء بيد القوى الموالية للنظام الاشتراكي .

يقول د. نشأت حامد عبد الماجد - أستاذ العلوم السياسية المشارك بجامعتي لندن والقاهرة :

كان للمتطوعين من أبناء اليمن الجنوبي السابق في أفغانستان وبيشاور معسكرات خاصة بهم، وظهرت فيما بينهم قيادات منها طارق الفضلي، وتردد الحديث فيما بينهم عن نقل الجهاد إلى اليمن المحكوم من قبل الشيوعيين بعد انتهاء الحرب الأفغانية، غير أن الشيخ عبد المجيد الزنداني - الذي أصبح في وقت لاحق من زعماء التجمع اليمني للإصلاح المعارض -كان يتردد كثيراً على بيشاور، وله تأثير كبير على المجاهدين العرب، طلب من "الأفغان اليمنيين" إلغاء أو على الأقل تأجيل مشروع الجهاد في اليمن بعد الانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد..

  وقد اشترك بعض الأفغان اليمنيين في مقاتلة القوات الجنوبية أثناء الحرب الأهلية بين اليمن الشمالي والجنوبي في يونيو 1994، وأيضا مارست عناصر "الأفغان اليمنيين" بعض عمليات العنف السياسي، قامت بها منظمة الجهاد الإسلامي تحت زعامة الشيخ طارق الفضلي، وقد استهدفت بعض المنشآت السياحية، ومنها فندق أقام فيه عسكريون أمريكيون عاملون في الصومال في إطار عملية إعادة الأمل، واغتيال بعض قيادات الحزب الاشتراكي الذي كان "متحالفاً" مع موسكو، وأيد تدخلها في أفغانستان، وقد عقدت السلطات اليمنية صفقة مع الشيخ طارق الفضلي، وانضم في إثرها إلى حزب المؤتمر الحاكم، واستطاعت الحكومة اليمنية استيعاب مجموعته ..

وعلى الرغم من ذلك فإن بعض الأفغان اليمنيين عادوا إلى العمل ضد الحكومة اليمنية في عام 1998 في إطار تنظيم "جيش عدن الإسلامي"، وقد أعلن تأييده لأسامة بن لادن عقب الغارات الأمريكية على أفغانستان والسودان، وأشاد بتفجير السفارتين، وأبرز عملياته خطف رهائن لا نرى داع لتفصيلها حيث حوكم وأتباعه، كما كانت آخر العمليات التي قام بها الأفغان اليمنيين بالتعاون مع الأفغان المصريين ضرب المدمرة الأمريكية كول قرب سواحل عدن كما أسلفنا؛ وتعتبر اليمن أيضا محطة أساسية للأفغان العرب وبخاصة المصريون منهم، حيث استقر فيه لفترة بعض القيادات أثناء انتقالهم ما بين باكستان والسودان، وأفغانستان ومصر ويذكر أنه بداية من عام 1993 تمركزت في اليمن مجموعات من قيادات الأفغان المصريين كانوا على علاقة بتنفيذ عملية اغتيال رئيس الوزراء المصري حينئذ .

لقد كانت السلطة تعتقد أنَّ السفر إلى أفغانستان لا يختلف كثيراً عن إيفاد قوات رسمية للقتال مع الجيش العراقي إبان حربه ضد إيران, ولم تراعِ آثار ونتائج التعبئة الأيدلوجية التي يتلقاها المُجاهدون قبل وأثناء وبعد مشاركتهم في فريضة " الجهاد " ، فالجهاد لم يعد أمراً يخص العدو الاشتراكي السوفيتي وحده وانتصار المجاهدين على جحافل الجيش الروسي الرهيب حفَّزهم على الاستعداد والاجتراء ضد " أعداء الله " الأقل حجماً من الجيش الروسي ثم إن شد الرحال إلى أفغانستان تم تحت تأثير شعارات وتوجهات سياسيَّة ودينية عالمية وبالتالي فمن الطبيعي بقاء الذهنية عندهم مرتبطة بالأحداث والمتغيَّرات الخارجية ( مثلاً مأساة البوسنة والهرسك ، التصعيد الصهيوني ضد الانتفاضة الأولى ، اعتقال وتعذيب إسلاميين في دول عربية ، الخطر الشيوعي وحرب الخليج ) إلى جانب التأثيرات المحلية التي نجد منها على سبيل المثال

1: أزمة التصويت على الدستور

2 : إصرار الحزب الاشتراكي اليمني على محاربة الخط الديني وتحريضه المستمر ضد أي مظاهر إسلامية وتحديداً ضد من شاركوا في حرب أفغانستان فمنذ الأيام الأولى للجمهورية اليمنية بعد الوحدة بدأت صحف الاشتراكي تشن حرباً إعلامية ضد العائدين من أفغانستان والإسلاميين عموماً ونقرأ في بعضها ما يلي :.

*( على اليمنيين أن يستعيدوا أطفالهم الذين زُجَّ بهم إلى أفغانستان لمعركة خاسرة ، المتطرفون يحولون المساجد إلى محاكم ويقيمون الحدود على المُصلين ) 

*( المعاهد العلمية تعد الطلاب عسكرياً وتثقفهم بتكفير الآباء وتكفير الحزب الاشتراكي اليمني وكل ما هو ثوري تقدمي ) .

ولم يكتفِ الحزب الاشتراكي باستعداء العائدين من أفغانستان والتحريض ضدهم على مستوى الداخل بل وذهب إلى ترويج معلومات وتقارير أمنية مغلوطة على المستوى الخارجي وخاصة التقارير التي كانت ترفعها السفارة اليمنية في مصر ( كان السفير اشتراكياً ) حيثُ قام السفير بتقديم مذكرات أمنية رسمية بأن صنعاء تعتبر محطة لإيواء المئات من العناصر الأصولية المتطرفة المطلوبة أمنياً.

وطغت على هذه الأخبار والمقالات لغة التحامل والتشويه المبالغ فيه بدافع الخوف من تأثير الورقة الدينية على مستقبل الحزب الاشتراكي في بيئة تتنفس الخطاب الديني , خاصة وأن ماضيه ظل معاديا بشراسة لكل مظاهر التدين في فترة ما قبل الوحدة هذا إلى جانب مخاوف من استغلال شريكه في الحكم المؤتمر الشعبي العام وحليفه التجمع اليمني للإصلاح للعائدين في مواجهة نفوذه الأيدلوجي والحزبي في اليمن عموما وفي الجنوب بشكل خاص كذلك أراد الحزب الاشتراكي الظهور كرائد للعصرنة والتحضر مقابل من يصفهم عادةً بـ"الظلامين والمتخلفين " .

والغريب في الأمر أنَّ الحزب الاشتراكي وهو ينتقد تواجد المجاهدين الأفغان قام بإجراء صفقة سلاح معهم ..!

  ويبدو هنا أن الحزب الاشتراكي قد حاول استمالة بعض الجهاديين لخدمة سياساته أو كسب حياديتهم .. الأمر الذي أكده رئيس الجمهورية في خطاب له أثناء حرب 94م حين أشار إلى أن أحد الجهاديين المطلوبين للعدالة "ويدعى بن عُشيم " ممن كان الاشتراكي يطالب بالقبض عليهم يتحرك بتصاريح صادرة عن قيادات اشتراكية ومدعوم بتسليح من أحد معسكرات الحزب !.

من هنا نستطيع القول بأنَّ أكثر العائدين من أفغانستان إلى اليمن في الثمانينات وما تلاها إلى بداية التسعينات ظلت كما هي دون تغيير ولم تكن أوضاعهم وعلاقتهم بالمجتمع والسلطة تستدعي التأهيل وإعادة محاولة دمجهم في الحياة العامة ونلاحظ أن الأمور بعد ذلك اتجهت نحو الأسوأ تحت تأثير عدَّة عوامل داخلية وخارجية منها :-

1: وجود رغبة خارجية لنقل المواجهات مع الإسلاميين والمتطرفين في السعودية إلى اليمن كما حصل في بداية الوحدة حين عملت بعض القوى الخارجية على تشجيع انتقال الأفغان العرب إلى اليمن لاستخدامهم كأداة بيدها لمواجهة التيار الاشتراكي وللتأثير في صنع القرار السياسي والتوجهات العامة في اليمن . 

2: إحساسهم أن السلطة تتجاهل دورهم في محاربة الانفصاليين والاشتراكيين وفي محاربة أعداء الدولة في المناطق الوسطى وغيرها قبل الوحدة وبعدها وأنَّهم لم يكونوا أكثر من كرت تصفي به الدولة حسابها مع خصومها السياسيين .

3: تقصير رجال الدين والمؤسسات التربوية والإرشادية والإعلامية والقوى الوطنية في استئصال الأفكار المتطرفة مع نجاح القوى الأصولية الخارجية في استقطاب أنصار ومؤيدين وأعضاء كتنظيم القاعدة وحزب التحرير – الجماعات السلفية المتنوعة – جماعات الجهاد والتكفير- الجماعات الإمامية الاثنا عشرية التي كان لها دور في إشعال التطرف المضاد .

العائدون بعد 11/9/2001.

العلاقة بالسلطة

يبدو أن الدنيا ضاقت فعلاً بالأفغان اليمنيين وكل الأفغان العرب ولم يجدوا سبيلاً أمامهم سوى مواجهة مصيرهم المجهول في أفغانستان أو الاستسلام للقوات الأمريكية, إلاَّ أن بعضهم تمكن من الفرار والعودة إلى الوطن بجوازات سفر مزيفة وبمساعدة بعض التنظيمات الإسلامية في باكستان, وبسبب حرص الإدارة الأمريكية على معرفة كل ما يتعلق بتنظيم القاعدة ارتكبت تجاوزات خطرة وقاسية ضد الأفغان العرب الذين اعتقلتهم كما أوصت الحكومات العربية بتشديد الإجراءات الأمنية والتحقيقات الصارمة التي تتعدى أبسط القوانين الحامية للحقوق الإنسانية والحريات وأصبح مجاهد الأمس مشبوهاً وإرهابياً حتى يثبت العكس ، وفي واقع الأمر فإنَّ " العائدين بعد الغزو العراقي للكويت ودخول الأساطيل والقوات الأمريكية إلى جزيرة العرب والخليج العربي كانوا أشد انفعالاً وتمسكاً بالمفاهيم الجهادية ".

لقد أصبحت حكومات العالم بأسره تتعامل مع الأفغان العرب بل ومع كل ما هو إسلامي بحساسية وعدوانية في بعض الأحيان إما لاعتقادها أن هؤلاء مصدر خطر حتمي وإما للظهور أمام الإدارة الأمريكية بمظهر الولاء والاعتدال والحرص على مساندة السياسية الأمريكية في حربها ضد الأصولية الإسلامية والإرهاب , السائد السياسي العالمي عامل مهم في طبيعة العلاقة الراهنة لأنه من يوجه ولأن الحكومة اليمنية كغيرها تربطها علاقات ومصالح بالحكومة الأمريكية ويجب أن تتعامل في هذا الجانب حسب ما يناسب الرغبة الأمريكية لهذا لم تبد اعتراضا على قيام طائرة أمريكية باختراق أجوائها وقتل أبي علي الحارثي أحد أبرز الشخصيات الجهادية في اليمن.

السلطات اليمنية بتعاملها الصارم مع من تعتقلهم بتهمة الاشتباه بانتمائهم لتنظيمات إرهابية وتعاونها الأمني والاستخبارتي مع السلطات الأمريكية زاد من تفاقم الخلاف بين العائدين وبين أجهزة السلطة ووجدوا أنفسهم منبوذين مطاردين من أجهزة السلطة ووسائل الإعلام بعد أن كانوا أصحاب مكانة ومسئولية ذات اعتبار ودور هام في المعترك الداخلي ,لقد أحسوا بأنهم مجرد كرت يتلاعب به الساسة متى ما أرادوا ويزجون به في أقبية الأمن السياسي في أية لحظة , لقد أحسوا أيضا أن العدو الذي هاجروا لمحاربته ليس هو القابع في موسكو أو تل أبيب أو البيت الأبيض فحسب بل إن جميع الأنظمة والحكومات وأجهزتها الأمنية ومؤسساتها المختلفة هي امتداد متصل بالعدو الخارجي ولا يجوز موالاة الأنظمة أو طاعتها خاصة وأنها وهي تعلن محاربتها للجهاديين لا تبذل أي جهد حقيقي للنظر في ظروف مواطنيها التائهين في أفغانستان والمعتقلين في جونتنامو ولا تعطي لضحايا وأرامل وأيتام مواطنيها الجهاديين قيمة كبشر وضحايا للعدوان والبطش الخارجي بل ويتعجبون من تغاضي السلطة عن قيام طائرة أمريكية باغتيال أحدهم (أبو علي الحارثي) داخل الأراضي اليمنية وبدون إتاحة الفرصة المشروعة له بالحصول على محاكمة عادلة.

التأهيل

التأهيل فكرياً ( الحوار )

اكتشفت الدولة أن التطرف الفكري المتجذر لدى الكثير من العائدين أخذ يهدد مصالحها وإستراتيجيتها فبعد أن كان الجهاديون ينظرون إلى الحاكم كولي أمر واجب الطاعة صاروا يرونه عميلاً لأعداء الله كما هي نظرتهم لباقي حكام العرب خاصة حين تمثلت أمامهم وعلى يديهم دولة الإسلام " الإمارة الإسلامية في أفغانستان " والتي تحالفت جميع الأنظمـة للقضاء عليها برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية .

اكتشفت الدولة أنَّ مؤسساتها التنفيذية والأمنية لا تحقق نجاحات عملية في مواجهة هذا الفكر أو في عملية تدجينه والتحكم به.

بل وكان للأساليب القمعية البدائية التي مورست ضدهم كثير من النتائج السلبية التي وسعت الهوَّة بين مفاهيمهم والمجتمع بأسره ، وفي ظل الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب التي انطلقت بعد الحادي عشر من سبتمبر وضعت الدولة سياسة لمكافحة الإرهاب تقوم على المرتكزات التالية :-

1: الحوار الفكري لاقتلاع الجذور الفكرية للتطرف والإرهاب

2: اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع الجريمة قبل وقوعها وضبطها بعد وقوعها وتعقب مرتكبيها وتقديمهم للعدالة

3: حل مشكلة الضائقة المالية للعائدين والتي قد تكون سبباً في استغلال بعضهم للقيام بأعمال إرهابية .

لقد أسفر الاجتماع المنعقد في أغسطس 2002 م والذي شارك فيه علماء وكبار مسئولي الدولة برئاسة رئيس الجمهورية عن تشكيل لجنة من العلماء للحوار مع الشباب العائدين من أفغانستان ( وغيرهم ممن لديهم قناعات فكرية مخالفة لما عليه جمهور علماء المسلمين ) وحددت مهمة اللجنة في إجراء الحوار وإقامة الحجة والبيان وصولاً إلى الفهم الصحيح لأحكام الإسلام .

لم يكن من ستحاورهم اللجنة مجرد شباب غُرر بهم حتى تدير مهمتها بشكل تقليدي لا جديد فيه, بل كان معظمهم طلبة علم قد أشبعوا هذه القضايا بحثًا ونقاشًا..

ولم يكن القاضي حمود ليقدمَ جديدًا حتى يتم على يديه هذا الفتح العظيم في غضون أيام معدودة, إضافة إلى الأجواء التي تم فيها الحوار والساحة الغير محايدة مع ما تعرضوا لها قبلا من ممارسات سيئة على أيدي أجهزة الأمن ..

لم تقم اللجنة بدور التأهيل عن طريق الحوار كما ينبغي لأنه لم يكن هدفا رئيسيا, لوجود قناعة مسبقة أنه من الصعب جدا تغيير الأفكار التي يعتنقونها, لهذا كان الحوار غطاءً لأهداف أخرى تمثلت في التوظيف في أجهزة الأمن والجيش والإغراء المادي من الخلال التعامل بنظام المكافآت كمرشدين . اللجنة لم تكن واثقة من نتائج ما تقوم به لهذا كان عليها أن تأخذ ضمانات ممن اقتنعوا بما تطرحه في حال الإفراج عنهم خوفا من قيامهم بأعمال إرهابية – كما حدث تماما- وسنذكر تلك الضمانات كما نشرتها جريدة (26 سبتمبر).

ضمانات

لقد انفردت الجمهورية اليمنية بالأخذ بمبدأ الحوار في مكافحة الإرهاب وهي تجربة يمنية لاقت استحساناً من قبل الغرب.

وكانت هناك مخاوف داخلية وخارجية من عملية الإفراج عمن شملهم الحوار وليسوا متهمين في قضايا جنائية خشية أن يتخذوا من الحوار وسيلة للإفلات من قبضة الدولة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه من قبل، وكان التفكير جاداً للبحث عن أهم الضمانات التي تحول دون عودة من كان منتمياً إلى تنظيم القاعدة إلى ما كان عليه من قبل وقد تمثلت أهم الضمانات بالآتي:

- توثيق جلسات الحوار ومجرياته كتابة وصوتاً وصورة

- جدية الحوار وصراحة المحاور فكلما كان الشخص جاداً في حواره جريئاً في طرحه كلما أيقنا بصدقه .

- كل جولة من جولات الحوار تنتهي ببيان يوقع عليه جميع من شملهم الحوار يعلنون من خلاله التزامهم بنتائج الحوار.

- كل من تقرر الإفراج عنه يؤدي القسم (عهد) على الالتزام بنتائج الحوار.

- كل من تقرر الإفراج عنه يلزم بتقديم ضمانة حضورية من ضامن مقتدر بإحضاره عند الطلب.

- خضوع المفرج عنه للرقابتين العلمية والأمنية لمدة محددة للتأكد من حسن التزامه بنتائج الحوار حيث تتولى اللجنة مهمة الرقابة العلمية بواسطة أي من أعضائها أو من تراه من العلماء المعروفين بالوسطية والاعتدال من خلال لقاءات فكرية دورية تراجع فيها بعض الأفكار كما تتولى الأجهزة الأمنية مهمة الرقابة الأمنية طبقا للقانون.

- استيعاب ودمج المفرج عنهم في المجتمع من خلال إعادة من كان موظفاً إلى عمله وتدبر فرصة عمل لمن لم تكن لديه من قبل ومساعدتهم في حل بعض المشاكل التي قد تعترضهم. 

ومسألة (تدبير فرص عمل) لغير المتعلمين منهم تتطلب إجراءات عملية وجاهزية مسبقة لتحقيق هذا المطلب واقعا كإيجاد مؤسسات تدريبية تكسبهم المهارات الحرفية والتقنية الكفيلة باحتضان سوق العمل لهم أما أصحاب الشهادات فيُعطون أولوية في شغل الوظائف بحسب التخصص العلمي.

كما أنه من المناسب جدا تسهيل حصولهم على قروض ميسرة عبر الصندوق الاجتماعي للتنمية والذي أُنشأ لغرض تمويل المشاريع الصغيرة للمواطنين المعسرين .

قد يتحدث البعض عن نجاحات يمنية في احتواء العائدين والتنظيم بشكل عام وقد يدلل على ذلك بالهدوء النسبي الذي تشهده اليمن في هذا الجانب لكننا سأنجد أنه هدوء عام.. ربما في المحيط العربي كاملا ولا يمكن أن يعود سبب ذلك لنجاح تحقق محليا, وإنما لأسباب أخرى أهمها حرب العراق التي اندلعت بعد فترة وجيزة من الحرب في أفغانستان حيث وجد هؤلاء متنفسا كبيرا لهم وساحة حرب مباشرة مع عدوهم الأول

الصحفي نبيل الصوفي كتب تقريراً لموقع: مركز دراسات الظاهرة الإسلامية جاء فيه:

(ألفا يمني، هي التقديرات شبه الرسمية لعدد المشاركين في «الجهاد» ضد الحكومة العراقية وقوات التحالف المحتلة للعراق. ومع أن نسبة كبيرة منهم تذهب إلى العراق من مهاجرها خارج اليمن، وعلى رغم التشديدات الأمنية التي تمنع سفر من هم دون الخامسة والثلاثين إلى سورية والأردن إلا بـ «إجراءات خاصة»، واعتقال من يشتبه بعلاقته بأحداث العراق بمجرد عودته للمنافذ الرسمية اليمنية، فإن مئات اليمنيين يلتحقون بالجهاد العراقي من داخل أراضي الجمهورية اليمنية).

صحيفة الثوري اليمنية اليسارية في أحد أعدادها أشارت إلى أن عدد التفجيرات الانتحارية التي قام بها متطوعون يمنيون في العراق تصل إلى (عشرين عملية انتحارية). 

المعارضة اليمنية في الخارج تتحدث عن تسهيلات للعائدين وللمجاهدين بشكل عام في عملية تصديرهم إلى العراق عن طريق سوريا لغرض التخلص منهم ولغرض آخر يتمثل في التعاون الخفي بين الحكومات العربية لمواجهة التوغل الشيعي الإيراني في العراق.. وهذا الكلام يؤكده السياسي المعارض في الخارج منير الماوري بقوله:

(بالتأكيد هناك تسهيلات والسبب هو نتائج الحوار مع المعتقلين كان هناك اتفاق على عدم قيامهم بأي أنشطة في الداخل وهذا يعني ضمنيا السماح لهم بالسفر للخارج والأمر الآخر هو إلقاء القبض على الكثير منهم في العراق ومحاكمتهم ومن بينهم أحد أقرباء الزنداني).

ويقول الصحفي نبيل الصوفي: (على أثر إعلان أحد أعضاء ثالث مجموعة يمنية تحاكم لعلاقتها بالعنف المسلح في العراق، أن الرئيس علي عبدالله صالح «استقبل أول طائرة عائدة بمجاهدين من العراق في قاعدة الديلمي» وهي قاعدة القوات الجوية اليمنية، وقال مصدر في مكتب الرئيس صالح لـ «الحياة»: «هذه أكاذيب لا أساس لها من الصحة»، متسائلاً: «كيف يمكن الحديث عن طائرة خاصة بالمجاهدين»، فضلاً عن «استقبال لهم في قاعدة عسكرية واليمن بالأصل يعتقل كل من يثبت مشاركته بأعمال العنف» في العراق.

وبحسب مصدر قيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح، يتحدث عن الأمر للمرة الأولى عن «تعاون إصلاحي مع الحكومة في شأن ترحيل الأفغان العرب بعد رصد أنشطة مسلحة لهم في اليمن».

وباستعادة خريطة الجهاد اليمني، بين أفغانستان والعراق، يمكن اكتشاف أنها لم تتغير كثيراً، إلا من حيث دخول مصادر مد بشري جديدة وانكفاء أخرى

وبحسب الإحصاءات شبه الرسمية من خلال المعتقلين، حافظت محافظتا أبين الجنوبية، وحي مسيك في قلب مدينة صنعاء – وهي تجمع لمواطنين غالبيتهم من شمال العاصمة- على كونهما المصدر الأول للجهاد والجهاديين. وينتمي للأولى «جيش عدن أبين»، وطارق الفضلي، وللثانية قاتل الأطباء الأميركيين وسط اليمن مطلع عام 2003، وقاتل الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني أواخر 2002 في العاصمة صنعاء، بالإضافة إلى خروج قيادات سابقة لجماعات «الهجرة والتكفير اليمنية» من هذا الحي أيضاً.

وفيما تراجعت إسهامات «شبوة» الشرقية، وهي المحافظة التي ينتمي إليها القائد الميداني السابق لتنظيم القاعدة «أبو علي الحارثي» الذي اغتالته طائرة أميركية من دون طيار في عام 2002، دخلت على خط حركة «الجهاديين» إلى العراق محافظات كانت تكتفي بالجهاد المحلي في مواجهة الحكومة لأسباب لا علاقة لها بالأيدلوجيات، كمحافظة مأرب والجوف. إلى محافظات القبائل في شمال الشمال (بأعداد قليلة)، والتي ظلت تنأى بأبنائها عن أي معارك مسلحة خارج اليمن، منذ عرف العالم الإسلامي موجات «الجهاد غير الوطني».

ومع أن محافظة إب كانت الأولى في تصدير المقاتلين إلى أفغانستان، فإن الإحصاءات تؤكد «تراجعاً» في عدد أبنائها الذين يقاتلون في العراق، غير أنها تبقى مع محافظة تعز أحد مصادر إرسال «المجاهدين» إلى العراق)..

ومن المهم التنويه إلى أن من بين العوامل المتسببة في خلق دوافع نفسية تزيد من احتمالات عودة الجهاديين إلى حمل السلاح والزج بهم إلى التطرف والتمرد هو ما تقوم به الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية من أعمال طائشة بحق من تشتبه في وجود أدنى علاقة لمن شارك في حرب أفغانستان أو من له صلة قرابة بأحدهم!!. 

العدد الأكبر من المعتقلين أوقفوا إما في أفغانستان وإما في باكستان، وثمة آخرون اعتقلوا في دول أخرى لكنهم سبق أن كانوا في إحدى الدولتين، فعدة «الجهاد» اقتضت حيازة أقنعة كثيرة، وتغذت من روافد معقدة، وفي الحال اليمنية أضيفت إليها عناصر الشمال والجنوب، وحاشد وبكيل، والحرب الباردة ولهذا ستجد في سجلات «هود» أسماء يمنيين اعتقلوا في دول ليست مسرحاً تقليدياً للحرب على الإرهاب، منهم مثلاً محمد أمين البكري وهو يمني من منطقة يافع وأهله يقيمون في السعودية، في حين يعمل هو تاجراً في مدغشقر واعتقل في تايلاند.

كان ذهب إلى أفغانستان طبعاً.

وفي سجلات «هود» اسم محمد الأسدي وهو يمني من محافظة المهرة في المنطقة الشرقية، لكنه عمل في التجارة في تنزانيا واعتقل في دار السلام وكانت أفغانستان محطة من محطات تنقلاته. وقد يندرج في هذا السياق إسماعيل الريمي الذي غادر اليمن قبل أحداث أيلول (سبتمبر) بأشهر قليلة متوجهاً إلى الإمارات العربية المتحدة واختفى هناك ليظهر اسمه لاحقاً في لوائح المعتقلين في غوانتانامو.

أما الذين اعتقلوا في أفغانستان أو باكستان من اليمنيين فيبدو أن معظمهم من صغار السن الذين لم يتجاوزوا الثلاثين من عمرهم على رغم سنوات السجن الأربع.

وتشكل سيرهم مرآة تعكس نوع العلاقة التي تربط «الجهاديين» ببعضهم وتربطهم أيضا في بلاد «الهجرة» أي أفغانستان. إذ يبدو أن ثمة مجتمعاً كان قيد التبلور يمكن تسميته مجتمع المجاهدين).

ويشير العقيد محمد الهمداني في كتابه: (الإرهاب الديني) إلى أن الرئيس اليمني قرر إرسال طائرة خاصة لإعادة بعض الأسر اليمنية التي استقر بهم الأمر في شوارع باكستان بعد مقتل أو اعتقال ذويهم في أفغانستان.

فشل لجنة الحوار أعاق الإفراج عن معتقلينا في كوبا

يبدو أن اليمن شريك للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب لا في محاورته, ولهذا لم يحظ (نجاح) القاضي حمود باهتمام رسمي أمريكي, سواء على مستوى الإشادة بالدور اليمني في معالجة الظاهرة بكافة الوسائل والسبل أو على مستوى الاستفادة من الفكرة وتعميمها على مناطق أخرى تشهد وجودًا للتنظيم وممارسات من شأنها تهديد مصالحها.

هكذا بدا الأمر في مراحله الأولى من خلال التغطية اليمنية لعمل اللجنة والإشادة به في وسائل الإعلام كعمل جديد لم يكن في حسبان آليات الولايات المتحدة الأمريكية ولا أولوياتها ..

عدم تفاعل الولايات المتحدة ـ كمعني أول ورئيسي ـ وضع أكثر من علامة استفهام على حقيقة النجاح الذي يتحدث عنه الإعلام الرسمي اليمني, وبدأت أحاديث كثيرة تدور حول الموضوع ..

لم تكن أمريكا ـ حينها ـ بحاجة إلى أكثر من الوقت ليثبت لها هذه الحقيقة من خلال انعكاس نجاح عمل اللجنة على الواقع اليمني إيجابًا, غير أن الواقع أثبت عكس ذلك حين طالته عمليات كثيرة تبنى التنظيم معظمها..

المسئولون الأمريكيون لا يثقون بسياسة الحكومة اليمنية تجاه تنظيم القاعدة ويشككون بوجود نوايا حقيقية لمحاربة الإرهاب بل يذهبون إلى أن هناك تحالفات بين الجهات الرسمية اليمنية وبين التنظيم .. لتنحصر مهمة لجنة الحوار في تسويق حقيقة احتواء الإرهابيين ..

ولأن التأهيل اليمني (على مستوى الحوار) لم يكن أكثر من (وهم) فقد بقي المعتقلون اليمنيون حجر عثرة أما إغلاق معتقل غوانتانموا حسب التصريحات الأمريكية الرسمية الأخيرة ..

وفي تقرير أخير لصحيفة ويكلي ستاندر الأمريكية أكد مسئولون أمريكيون على إمكانية إرسال معتقلي اليمن إلى أي مكان آخر في العالم عدا اليمن, معللين ذلك بعدم وجود تأهيل حقيقي لهم ومتخوفين من إعادة إنتاجهم مرة أخرى لتحقيق بعض المكاسب السياسية..

الاطمئنان الأمريكي لسياسة المملكة العربية السعودية تجاه أفراد هذا التنظيم جعلهم يرشحون بعض المعتقلين اليمنيين لبرنامج (إعادة التأهيل ) فيها, كونه قد حقق نجاحًا ملحوظًا حسب هذه التصريحات .. ويبقى السؤال عن تأهيل القاضي حمود (حواريا) وعن نجاحه..؟!!

من منظور آخر, يمكن القول بأن محاولة تمرير قضية نجاح عمل اللجنة جاء بنتائج عكسية لم تكن متوقعة, منها تأخر الإفراج عن المعتقلين اليمنيين في كوبا على اعتبار أنهم لن يؤهلوا كما يجب في اليمن..

كما يمكن القول بأن علاقة اليمن بالولايات المتحدة الأمريكية قد طغى عليها الشك والحذر بعد ظهور بوادر استخدام الإرهاب كورقة سياسية أو كأجندة لتصفية حسابات الحكومة..

معوقات الحوار

قبل الحديث عن معوقات نجاح الحوار يجب أن نشير إلى أن نجاحه لا يعني الشيء الكثير بل لا يعني شيئا على الإطلاق, لأنه استهدف أشخاصًا ولم يستهدف الظاهرة التي أوجدتْ هؤلاء الأشخاص والتي ستوجد آخرين.

أي أنه تعامل مع النتيجة لا مع الدوافع, ولهذا بقي الواقع كما هو ولم يضع الحوار حدًا للأخطار التي تهدده, وما شهده أثناء الحوار أو بعده يدل على أنه بحاجة إلى معالجة الظاهرة المنتجة للأزمات والمشاكل لا ما تنتجه ..

فلا فرق (من حيث المخاطر) بين أن تقتل هؤلاء أو تقنعهم بخطأ ما هم عليه أو تحتفظ بهم في سجن الأمن السياسي .. والغريب في الأمر هو محاولة تصدير الفكرة إلى الخارج قبل أن تنعكس نجاحا عمليًا على الداخل ..

أما المعوقات فيمكننا تلخيصها في التالي :

1 ـ طبيعة الحوار الفكري الديني .. فلم يسجل التاريخ أن سلم فكر لفكر آخر بأحقية ما هو عليه سوى مرة واحدة وكانت في مبنى الأمن السياسي على يد لجنة الحوار برئاسة (عراب الحوار) الأسطورة حمود الهتار (كما زعموا)..

وكما هو معلوم لدى الكل, بأن المسائل الخلافية في الوسط الديني على مستوى الطوائف تتعلق بما يعتبرونه أصول دين وبما يعتبرون الرجوع عنه ردة دينية تستوجب القتل ..

يُضاف إلى هذا أن المسائل التي تحدث عنها القاضي حمود ـ كما جاء في حوار 26 سبتمبر ـ كانت عادية وليستْ بغريبة عليهم أبدًا, أقصد مسألة التعريف بحقوق ولي الأمر ووجوب طاعته.

2ـ الإكراه .. فليس هناك فرق بين أن يعترف أحدهم تحت وطأة التعذيب وبين أن يدعي الاقتناع تحت وطأة معاملة سيئة داخل مبنى الأمن السياسي خصوصًا حينما يعتبر محاوره منفذًا لأجندة كَفَرَة وحين يعتبره كافرًا بهذا العمل ..لن يخشوا فعلا تبعات هذا الإدعاء مادام بمثابة الانتزاع لا الإقناع ..

3ـ الخوف من البقاء .. فعدم الاقتناع بالحوار أو إظهاره سيقضي تمامًا على أمل الخروج من السجن وسيعني الإصرار على ما تعتبره الدولة جريمة, وعليه فلا مانع من ارتكاب أخف الضررين ..من هنا نقول بأن وجود طرف ذو سلطة من شأنه أن يعيق الحوار ..

 4-عدم حيادية المحاور .. إذا كان السلفيون (علماء سلطة) من وجهة نظر القاعدة رغم اجتماعهم بهم في الإطار العقدي العام, بسبب موقفهم من (ولي الأمر) فإن القاضي حمود ولجنته ستُصنَّف تصنيفًا أسوأ بكثير, كونه عاملا رسميا في دولته وكونه أحد أجندته في محاربتهم ..

5-غياب الثقة .. يعتقد هؤلاء بأن هذا العمل لم يأتِ حبًا في هدايتهم بل في إطار مشروع الحرب على الإرهاب الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية وأن هؤلاء ينفذون الأوامر فقط ..

الاندماج

لا يرى العائدون من أفغانستان أنهم ارتكبوا عملا إجراميا حين قرروا بذل أرواحهم لمناصرة مسلمي أفغانستان, ويؤمنون بأن تمردهم ومحاربتهم للمصالح والسياسات الأمريكية جهاد في سبيل الله ..

وفي واقع الأمر نجد أن المجتمع اليمني يشاطرهم هذه الرؤية فيما يتعلق بأفغانستان والبوسنة والهرسك والعراق ويرحب بالعمليات التي تستهدف المصالح العسكرية والاقتصادية الغربية على النحو الذي أبدى فيه ترحيبه بأحداث الحادي عشر من سبتمبر ,والاستياء فقط من الأعمال التي تطال المواطنين الأبرياء والمباني والمؤسسات الخدمية أو الإضرار بالسياحة والسكينة العامة في المجتمع.

غير أن تصاعد الممارسات القمعية من السلطة ضدهم وضد من له صلة بهم جعل الكثير من المواطنين حذرين من التعامل معهم خوفا من السلطة لا من الجهاديين العائدين وبالتالي فإن محاولة السلطة لتصحيح حالة التأزم والتنافر بينها وبينهم ينبغي أن لا يتجاهل الأخطاء الفكرية والأمنية التي تعاني منها السياسة المتبعة لدى السلطة اليمنية .

يمكننا القول هنا بأن مشكلة الاندماج في المجتمع ناتجة عن السلطة وعن نوع سياستها المتبعة لا عن البيئة العامة للمجتمع فليس من المنطقي ترك هؤلاء فريسة للتهديدات وملاحقة الأجهزة الخارجية والتغاضي عن إدراج أسماءهم في القوائم السوداء في مطارات العالم حتى وأن تعاملت معهم الحكومة المحلية باللين أو توقفت عن ملاحقتهم كمشبوهين .

الأمر الآخر وهو الأهم إشراك هؤلاء ضمن مؤسسات وأجهزة الدولة المختلفة بحسب مهاراتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم على اعتبار أنهم من الكوادر التي استخدمتها السلطة في تنفيذ سياساتها محليا وخارجيا وعلى الدولة وكافة مؤسسات المجتمع المدني أن يتعاملوا مع الحالة من منظور وطني يقوم على أساس التضامن والتكافل وأن يتخلص الإعلام من ترديد التصورات والمفاهيم الأمريكية في هذا الشأن .

*مركز نشوان للدراسات والبحوث