المشهد في 2009 هو نفسه في 1994... معكوساً
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 15 سنة و 6 أشهر و 6 أيام
الجمعة 22 مايو 2009 07:35 م

إن لم أكن مخطئاً، فإن ملامح اللحظة السياسية الراهنة أخذت تتضح شيئاً فشيئاً. ولو قدر لرسام ما، أن يجسد بريشته مشهد الصراع السياسي في اليمن الآن، لتبلورت الصورة، في شكلها شبه النهائي، على هذا النحو: كتلتان متفاوتتا الحجم والوجهة والتصور، وليستا متقاربتين في قوة الجذب إلى حد ما، تتجهان، بخطى وئيدة، نحو الاحتكاك ربما، إن لم يكن التصادم، وهذا مستبعد في المدى المنظور، هما السلطة الحاكمة وحلفائها، وفي قمتها الرئيس صالح، وملتقى التشاور الوطني، الذي ترعاه أحزاب اللقاء المشترك، ويقف على رأسه الشيخ حميد الأحمر. (أعرف أن كون الرجلان من الشمال، وينتميان للقبيلة ذاتها، أمر يثير الارتياب لدى الكثيرين، وتلك قصة أخرى، لا أهمية لها الآن، لذا سنغض الطرف عنها إجرائيا لخدمة الفكرة).

نهاية هذا الأسبوع، احتضنت العاصمة صنعاء فعاليتين متناقضتين أشد التناقض: الأول، ملتقى التشاور الوطني الذي خرج بإعلان عن تشكيل لجنة تحضيرية للحوار الوطني، ستفضي، على الأرجح، إلى وثيقة شبيه بوثيقة العهد والاتفاق، من حيث تضمنها صيغة حل شاملة للأزمة الوطنية بأبعادها المختلفة. (بالرغم من أن "وثيقة العهد والاتفاق" هي تعاقد جديد لتسوية الأزمة التي أعقبت انتخابات 1993، وانتهت بالحرب، تضم مقاربة ناضجة، حينها، لما يجب أن تكون عليه الدولة، شارك في صوغها على مدى 9 أشهر نخبة واسعة من السياسيين يمثلون كل أطراف الصراع، إلا أن إعلام الطرف المنتصر في الحرب، قام بتكريس انطباع سلبي عن الوثيقة، حتى أصبحت مرادفه للانفصال واللاوطنية والخيانة العظمى).

والثاني، عرض عسكري "مهيب"، بحسب وصف الإعلام الحكومي، في ميدان السبعين، أُغلقت بسببه بضعة شوارع في الأمانة، فيما الطيران الحربي لم يكف عن التحليق الاستعراضي منذ أسبوع. والمؤكد أن هاتين الفعاليتين تومئان إلى شيئين أكثر عمقا: طريقة تفكير الطرفين البارزين في الأزمة، والكيفية التي سيعالجان بها الاضطرابات الحاصلة في المحافظات الجنوبية والشرقية. فقيادة ملتقى التشاور تفترض أن مخرجات الفعالية من وثائق وقرارات، هي ترجمة أكيدة لرغبة الشعب، الممثل بكل فئاته العمرية والجنسانية والمهنية، عبر نحو 1200 شخصية من أرجاء الجمهورية، وعليه فإن العمل بمقتضى إعلان الملتقى، أيا كانت مضامينه، سيكتسب شرعيته من اعتباره استجابة طبيعية لمتطلبات اليمن الملحة. بينما تفترض السلطة الحاكمة بأن ما يحصل ليس أكثر من نتوءات أنانية مارقة عن القانون، تعمل ضد الوطن وتهدد السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، يلزمها فقط بعض التأديب وانتهى الأمر، وسيأخذ الجيش والأمن على عاتقه تصفية القضايا التافهة على وقع زمجرة الطائرات المقاتلة.

ذلك جانب واحد من المشهد. إذ بوسعنا أن نلاحظ في اللوحة نفسها، ظلال داكنة، تظهر بجلاء، مبعثرة هنا وهناك، هي عبارة عن كتل سياسية واجتماعية، أقل حجما، غير منتظمة الشكل غالبا، بعضها حسم أمره سلفا وقرر الدوران في فلك واحدة من الكتلتين الكبيرتين، والبعض الآخر اختار أن يخترع لنفسه مداره الخاص، وبينهما جملة لا تحصى من الأجرام، منهم من يقترب من هذه الكتلة في تقاطعات معينة، ويبتعد عنها في بقية الإحداثيات، لكنها إجمالا لا تزال تمثل بؤرة جذب هائلة، وأكثرها ستجد نفسها حتما تسير في فلك واحدة من الكتلتين الرئيسيتين الأكثر تأثيرا. (وثمة أجسام سياسية واجتماعية قررت الدوران، عن قصد، في فضاء آخر، بعد أن تبين لها أن الأفلاك الداخلية باهظة الكلفة ونتائجها غير مضمونة). على سبيل المثال، القبائل تتوزع غالبيتها بين مركزي الجذب الرئيسيين، وما تبقى، وهو كثير بالطبع، للحراك الجنوبي منه نصيب لا يستهان به، وللحوثيين نصيب، وللتيه واللاانتماء والضياع، كمية لا بأس بها أيضاً.

ولساءل أن يسأل: ألم يشكل، بعد، الحراك الجنوبي، في نظرك، جسما سياسيا هو من الضخامة لدرجة أنه يوازي في ثقله، وقوة جذبه وصخبه، وقدرته على الفعل، واحدة من تلك الكتلتين اللتان زعمت أنهما وحدهما تنتظمان في مجالهما بقية الكتل؟ والرد ببساطة هو أن مكونات الحراك تبدو في صورة شديدة الانقسام والتشرذم، إذ لا كيان ولا زعامة موحدتين، ولا مقاربات ورؤى متطابقة، وبالتالي فإن جزء منه هو إلى التشاور الوطني أقرب، والجزء الآخر له مداره الخاص، وجزء ثالث يفتش تائها عن فضاءات خارج حدود المجرة الوطنية برمتها.

أشهد إنه ملكوت سياسي محتدم جداً، وفوضوي جداً، ولا متناهِ. ألا يبدو أنه كذلك؟

إذاً، لنضع هذه اللوحة جانبا، في مقابل لوحة ثانية، هي الأخرى من صنع الرسام الافتراضي الأول، لكنها تلتقط لحظة زمنية مختلفة، إنما قريبة بعض الشيء، وذات صلة وثيقة بما يجري حاليا: هي تلك اللوحة التي يمكن أن تجسد المشهد السياسي الداخلي في صيف 1994. ولا بد أن استعادة روح تلك اللحظة، ومحاولة تشكيلها بالألوان، ليست بالأمر السهل، سهولة اللوحة المتعلقة بالمشهد الآن مثلا. لهذا، خلافا للأولى، فإن المسألة بحاجة إلى قوة مخيلة، وبراعة، وشيء من النزاهة والموضوعية والدقة. لكننا سنكتفي هنا بصورة تقريبية، ولست مضطرا، كما أظن، لتفسير تملصي من إيراد التفاصيل.

كتبت الأسبوع الماضي، في صحيفة المصدر، كيف أن الدول، التي ناهضت نظام الرئيس صالح جهارا، في حرب صيف 94، هي الآن على رأس قائمة الحلفاء، بحسب المواقف المعلنة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسافة شاسعة دوما بين ما هو معلن وما هو مضمر في السياسة الخارجية على وجه الخصوص. تقريبا هذا الاستنتاج ينسحب على الموقف الداخلي. فأغلب القوى السياسية والاجتماعية التي أيدت الرئيس في ذلك الصيف، تقف اليوم على الضفة الأخرى، بعد رحلة عبور استغرق أقصاها 15 عاما. كان طارق الفضلي آخر الواصلين.

وبكلمات بسيطة: فاللوحة في 2009، هي صيرورة اللوحة في 1994، أو مقلوبها، لو شئنا الدقة.

*المصدر

alalaiy@yahoo.com