القاضي العرشي كما عرفته 2
بقلم/ د . عبد الوهاب الروحاني
نشر منذ: شهر و 15 يوماً
الثلاثاء 05 نوفمبر-تشرين الثاني 2024 06:35 م
 

 شفافية وحرية رأي:

 في إحدى الدورات التشريعية لمجلس الشورى الجديد (المنتخب) الممتلئ حراكا وحماسا، وبالتحديد في اكتوبر 1988م وجدت نفسي في "شرفة المراقبة" المطلة على قاعة المجلس مع عدد من الزملاء أسجل أحاديث النواب، أضع الخطوط على المداخلات الأكثر حيوية واثارة لقضايا المجتمع وهموم الناس، ثم دور الحكومة، وفساد الأجهزة.. كلمات تجمع بين الحدة والموضوعية كانت تدوي في القاعة، تلخص مبدأ الشفافية وروح الانتماء والوطن.. المتحدثون من اطياف واتجاهات حزبية مختلفة (مستترة) يتسابقون في استعراض مثير للأفكار والرؤى حول الاصلاح والدفاع عن قضايا وحقوق المجتمع.. القاضي عبدالكريم يعطي الكلام لطالبيه ويتابع جديده مع تعليقات طريفة ومقتضبة عند اللزوم. 

 

   حرصت على متابعة النقاشات حتى رفعت الجلسة، ومضيت مع أحد الزملاء للغداء في مطعم مجاور.. كانت الوجبة بدون لحمة لكنها كانت دسمة جدا.. "سلتة" صنعانية مع كبيبات في حرضة فخارية ملتهبة تناولناها مع "كدمتين" وقطعتي "ملوج" بنكهة الخبز الصنعاني المميز بـ"باب السباح"، حيث الناس والحياة على طبيعتها وبساطتها؛ وعدت الى مقر الثورة (الصحيفة) بالجراف.. 

 

   هناك في "الثورة"، اعددت مادة صحيفة بدت لي شيقة وملفتة، اكتملت فيها عناصر القوة والمهنية، واخترت لها عناوين تبرز الحراك الجديد تحت قبة البرلمان (المنتخب)، وكانت تبدو مثيرة وجديدة على صحيفة رسمية اتسمت بالرتابة بكونها معبرة عن رأي الحكومة، فهي الصحيفة الرسمية الأولى في البلاد.

 

بالبنط العريض:

  بعد أن فرغت من اعداد المادة قرأتها مرتين وثلاث، وبدا لي انها قد تتعرض للمراجعة المخلة التي قد تمنع نشرها لو عُرِضتْ على رئيس التحرير محمد الزبيدي (رحمه الله)، فقد كان شديد الحذر والتمسك بمعايير النشر الرسمي، الامر الذي تعمدت معه تأخير تسليم المادة الى ما بعد مغادرته، لأسلمها لمدير التحرير أحمد اسماعيل الاكوع (رحمه الله)، وعرضتها عليه بمجرد ان هم بالخروج.. وما أن بدأ باستعراضها حتى قال عبارته التي كان يكررها معي كلما سلمته مادة مما أكتب " يا عبدالوهاب انت ناوي تحبسنا، لكن والله ما نحتبس الا سوا"، وأشار بالموافقة على النشر مذيلة بعبارة "وعلى الله"، وتابعت اخراجها حتى وقت متأخر من الليل.

 

   في اليوم التالي ظهرت المادة في صفحتين كاملتين من الصحيفة بعناوين مثيرة وبالبنط العريض، كان أهمها "نواب الشعب يطالبون بإقالة الحكومة"، ولم يكن حينها سهلا ظهور عنوان كهذا في صحيفة رسمية.. نقلتُ صورة حية لحركة وتفاعلات قاعة وجو المجلس، والتعليقات الجانبية، وردود فعل القاضي العرشي المرنة والمتندرة، ثم تفاعل نائبه يوسف الشحاري مع الاصوات القوية المعارضة، التي كانت اساريره تبرق انتشاء حينما يسمعها، الى جانب مقتطفات وصور لأبرز مداخلات النواب، التي اخضعتها لإعادة تحرير بما يتناسب واهمية الحدث، وذيلت المادة بعبارة "يتبع غدا" لتدل على ان للحديث بقية.

 

    صادف صدور ذلك العدد في يوم الاربعاء، أي موعد الانعقاد الاسبوعي للحكومة، التي كان يرأسها عبد العزيز عبدالغني، وقامت الدنيا ولم تقعد عليّ وعلى الصحيفة، وأوقفتُ حينها عن العمل بتوجيه من وزير الاعلام حسن اللوزي (رحمه الله)، ومُنعتْ الحلقة التالية من النشر في اليوم التالي، غير أن ذلك المنع أثار غضبا شديدا في اوساط النواب، الذين خصصوا الجلسة التالية لمناقشة "مَنْ يوجه مَنْ ؟!" - سلطة الحكومة أم سلطة النواب؟!، وصبت النقاشات جميعها في مصلحة حرية الرأي والتعبير والنشر والحد من الضغوط على ممارسة المهنة، ومنع التوقيف غير المبرر للصحفيين.. 

 

    كانت تلك الجلسة مثيرة أيضا، حضرت لمتابعتها، وأثناء مداخلة النائب علوي الزريقي (ان لم تخني الذاكرة) ذكرني بالاسم وأشار اليْ حيث كنت في ذات الشرفة (شرفة الصحفيين) ما لفت انتباه رئيس المجلس، فجاءني بعدها أحد سكرتاريته يقول إن "القاضي عبدالكريم يريد ان يراك بعد انتهاء الجلسة في مكتبه"، وذهبت، فدخلت عليه في مكتبه، وكانت أول معرفتي الشخصية بالرجل؛ قابلني بمودة ولطف، وقال مبتسما:

 

- " أهلا يا ولد عبدالوهاب، عملت لنا "دوقه" (ضجة) بداخل المجلس وخارجة".

- فقلت رب ضارة نافعة يا قاضي عبدالكريم، وحيويتكم في المجلس جديرة بالاهتمام. 

 

   كان الرجل ودودا جدا، ولم يخف خلال حديث استمر لنصف ساعة تقريبا ارتياحه مما كُتب عن المجلس حتى وإن أثر على علاقته بالحكومة، لكنه - كما قال- "التأثير الايجابي" الذي يخدم دور المجلس الرقابي والتشريعي، وخرجت سعيدا جدا بأول لقاء جمعني برجل دولة من الطراز الأول، شدني هدوؤه ومنطقه، وشدتني روح الدعابة في أحاديثه.. 

 

              (4) 

نظيفا لم يتلوث:

   في اليوم التالي لجلسة الأمس الصاخبة في المجلس جاء الفرج، وأُبلغتُ أن الرئيس صالح (رحمه الله) أنكر على وزير الاعلام توجيهاته، فنُشِرتْ الحلقة التالية من المادة بعد ان توقفت يوما واحدا، وعدت لمواصلة عملي.. كانت تلك الفترة تشهد تحركات وحدوية نشطة وجادة بين صنعاء وعدن، تلتها خطوات عملية قادت تفاهمات كبيرة في طريق اعادة تحقيق الوحدة، التي تحققت في العام 90 بشرطي الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.

 

    احتفظت بعلاقة جيدة مع القاضي عبدالكريم العرشي منذ تعرفت عليه، وجمعتني به لاحقا لقاءات خاصة ضمنها أكثر من مقيل في منزله المجاور لشارع الزراعة، كان يحضرها افراد من بيت العرشي بينهم الاصدقاء أحمد (رحمه الله) وأخوه عبدالملك، والزميل الاعلامي النبيل عبدالوهاب العرشي، وظللت على تواصل مع القاضي وهو عضو مجلس رئاسة بعد الوحدة؛ فعرفته واسع الاطلاع والمعرفة، نبيل ومثقف ملم ومتابع لكل جديد، ذو حضور لافت في مختلف المجالات.

 

   عمل القاضي العرشي بهمة وكفاءة عالية في مجالات مختلفة (إدارية، مالية، سياسية، واقتصادية)، خدم الوطن بنظافة ونزاهة وإخلاص ودون مَنٍّ أو أذى، تدرج في الوظيفة العامة خطوة بخطوة، اكتسب منها معارفه ونمّى قدراته فعلّم جيلا من القادة الوطنيين، وتقلد المناصب العليا في الدولة حتى تولى رئاسة الجمهورية، وظل محافظا على نظافة يده ولسانه، وفيا لمبادئ وقيم الثورة والولاء الوطني، لم يتلوث تاريخه لا بانتهاب أموال واراضي وحقوق الآخرين، ولا بنسج علاقات "خارجية" مشبوهة، رجل دولة من الطراز الأول، ناجح ومميز بكل المقاييس، حافظ على تاريخ نظيف ومشرف حتى بلغه الأجل (رحمة الله تغشاه).

  د. عبدالوهاب الروحاني