|
مأرب برس – خاص
لم تزدهر الفتوحات الإسلامية كما ازدهرت في عهد الصحابي الجليل معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه ، فقد كان عصره هو العصر الذهبي للفتوحات الإسلامية التي شرّقت وغرّبت في أصقاع المعمورة ، بيد أنه رضي الله عنه إن كان في سجلّه العظيم والحافل بالخيرات والبركات من اجتهاد أخطأ فيه فهو تأسيسه لما سمي ب: "ولاية العهد" فقد عهد بالولاية بعده لابنه يزيد ، على خلاف ما كان عليه الأمر في عهد الراشدين المهديين قبله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولعل له عذره في اجتهاده وله عليه أجر المجتهدين رضي الله تعالى عنه ، إلا أن الأمة ظلت تتلقى هذا الخطأ السياسي على أنه - أي توريث الحكم - جزء من الدين سواء في عهد الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين أو من بعدهم إلى يومنا ، بيد أنّ مراحل الدولة الإسلامية لم تخل من دعوات متتالية ومتجددة لمقاومة الاستبداد السياسي كانت بالدرجة الأولى على أيدي علماء الإسلام وفقهاء الشريعة الغراء ممن يعجز القلم عن عدّهم أو حدّهم أو حصرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا ، من أمثال أئمة المذاهب الأربعة ، وابن تيمية والعز بن عبد السلام والأمير الصنعاني والشوكاني والإمام البنا والزبيري...الخ الكوكبة المباركة من نجوم الإصلاح السياسي في أمتنا .
إن من أعظم القربات والصالحات عند الله تحرير العباد من ربقة الذل والهوان والاستعباد ، والتسلط والاستبداد السياسي ، وهذا هو ما فهمه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم رضوان الله تعالى ، وهذه هي العقيدة الصافية التي حملوها إلى العالمين كما قال ربعي بن عامر : "جئنا لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " فإن من أعظم الشرك استعباد الناس وإذلالهم تحت سياط الجوع والفاقة والحاجة ، ولذا قرن النبي صلى الله عليه وسلم الفقر والعوز والحاجة بالكفر فكان يستعيذ بالله منهما جميعا كما في سنن النسائي وأبي داوود وأحمد وغيرهم .
ولست أدري لم يحلو للبعض أن يعتبر مقارعة الفساد والطغيان والاستبداد ، أمراً ليس من أصول الديانة ولا من فرائض الملة ، ولا من أعظم الجهاد والقربات عند الله ، وأن الأولى من هذا أن نتجه نحو تصحيح العقيدة ونبذ الشركيات والوثنيات عن الدين!! ، وأن هذا هو الأولى من مجابهة الطغيان السياسي الذي يستخف بملايين الناس ويستعبد شعوب المعمورة ، ويصادر حرياتهم وكراماتهم وأمنهم ، ولقمة عيشهم ، ويعيث فساداً بأخلاقهم وأفكارهم وأجيالهم ومقدراتهم وثرواتهم!! ، مع أن ما يسمى بشرك القبور والأولياء "الأموات" مع محدوديته وقصره على طائفة من المخرّفين والسذج والبسطاء يكاد يندثر ، خصوصاً وقد توسعّت مدارك الناس وعقولهم بعد الثورة المعلوماتية والانفتاح الثقافي والفكري الهائل الذي تعيشه أمم الأرض .
ولذا لا غرو ولا غرابة أن تجد الأنظمة المستبدة تطمئن كثيراً وتأنس جداً لمثل هذا النوع من الفقه الإسلامي الجميل الذي يعنى بعالم القبور والأضرحة ويفتح الرشاشات والمعارك الضارية مع العجائز والمخرّفين ، ويغض الطرف عن جبابرة الأرض وفراعنة العصر ، وأئمة الاستكبار والطغيان ، ويصمت عن شرك الحاكمية والأمر والنهي والظلم والاستبداد السياسي ، الذي يحكم عالمنا اليوم ، والذي أحال شعوباً بأسرها إلى أذلة يستضعفها ويقتل رجالها ويستحيي نساءها ، ويحوّلها إلى مهجّرين ومشرّدين ، ويزرع صباح مساء بذور الفتنة والاقتتال في صفوف أبنائها!! .
على أن هذا لا يعني أيضاً غض الطرف عن الشرك وعبادة القبور والأضرحة بل الواجب هو الإنكار بضوابطه الشرعية ، وإنما الذي نُدينه هنا هو التشنيع على الدعوات الإسلامية والوطنية الإصلاحية الأصيلة التي تجابه الشرك الأعظم تأثيراً وأنصاراً ألا وهو شرك الطاغوت وتقديس السلاطين الذين يستعبدون الأمم والشعوب لغير ربها وخالقها .
إن ما نراه اليوم من غليان في منطقتنا العربية والإسلامية في فلسطين ومصر والعراق واليمن وأفغانستان وباكستان ... أليس سببه الاستبداد وحب التسلط والفرعنة ؟! ، وغياب الحرية بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وتركيع الشعوب وإذلالها بلقمة العيش ، واستخدام سلاح الخبز سوطاً لسوق الشعوب نحو المخططات الاستعمارية .
إنّ ما تضطلع به الحركات الإسلامية والأحزاب الوطنية اليوم في شتى بقاع عالمنا الإسلامي من محاولات للإصلاح السياسي ودعوات لتصحيح مسار الحريات والكرامات في أمتنا هو المنهج الأرشد والأصوب الذي يتوافق مع روح الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان عقلا وروحا وأرضاً وفكراً ، على أن هناك أموراً يجب ملاحظتها ، والتذكير بها في هذا السياق ليس إلا:
الأول: ضرورة ربط دعوات الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي بالإسلام ، فمع طول العراك والصراع السياسي يغيب ربما هذا النداء أو يخفت صوت الإسلام أو يصبح الإسلام ضميراً مستتراً ، في الخطاب الإعلامي ، ويصبح النداء بتخفيض الأسعار ، وإلغاء ضريبة المبيعات ، ورفع رواتب العمال والكادحين ، وتحسين ظروف المعيشة ، وتحسين وإصلاح البنى التحية للمجتمع ، وفتح أبواب الحريات السياسية والاقتصادية ...نداءات مجردة عن الإسلام ، ويصبح الإسلام فيها ضميراً مستتراً لدى بعض هذه الهيئات والحركات الإسلامية والأحزاب الوطنية ، ربما صار فيما بعد ضميراً غائبا لدى جمهرة الناس والسواد الأعظم منهم الذين يفكرون ببطونهم أكثر مما يفكرون بعقولهم ، ولذا يتعين لزاماً ربط هذه القضايا بالإسلام ، فيقال مثلاً: إن الشريعة الإسلامية تضمن للأمة ظروفاً معيشية طيبة وتكفل لهم حد الكفاية لا حد الكفاف ، وتضمن حرية التعبير والرأي ..الخ والغرض من هذا هو ربط الأمة بدينها وشريعتها أولاً ، وثانياً إشعار الأنظمة بأن هذا ليس مطلباً معيشياً شعبيا فحسب تفرضه ظروف الحياة الصعبة ، بل هو مطلب ديني وشرعي إسلامي يجب الالتزام به ، وفرق بين الأمرين كما بين السماء والأرض والمشرق والمغرب ، وإلا تحولت الحركات الإسلامية إلى نقابات عمالية .
ثانياً: سبق القول بأنّ دعوات الإصلاح السياسي والفكري والاقتصادي..عبادة يتعبد بها المؤمنون ربهم سبحانه وتعالى ، وعليه فيجب أن نمارسها في شتى مؤسساتنا وجامعاتنا وجمعياتنا وصحفنا ووسائل إعلامنا وأعمالنا الخاصة والعامة ، وأن نضرب المثل الأروع في تحقيق العدالة والمساواة وترسيخ الحريات في كل دوائر أعمالنا وهيئاتنا الداخلية أولاً ، ولعلّ هذا هو نفسه ما أعيا الأنظمة الاستبدادية وزرع في نفوس أهلها الذعر والخوف من الإسلاميين ، فبمجرد ما أن يدير إسلامي ولو مدرسة من المدارس أو قل حتى مزرعة للدواجن في أرحب ، حتى تقوم الدنيا ولا تقعد ، لا لشيء إلا أنه يفضح الفساد ، ويقدم النموذج الإسلامي المشرق ، ويصنع رقما صحيحاً من البناء ، يعجز عن ذلك المفسدون والمبطلون ، فينكشف عوار الباطل والفساد ، ولذا لا نعجب مما جري ويجري على أرض فلسطين من محاولات بائسة ويائسة وفاشلة لمقاومة المشروع الإسلامي على أرض فلسطين .
بيد أنه لا بد أن نكون صرحاء مع أنفسنا وذواتنا فنقر أنه ليس كل مؤسساتنا عُمَرية – نسبة إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه - على قدر من العدالة والمساواة العمرية بل هناك ثمة قصوراً وخللاً واضحاً في بعضها يجب معالجته وإصلاحه ، ونخشى أن يتأخر توفيق الله تعالى لنا بدعوة مظلوم لم ينل حقه منذ سنين وهو يعمل دون أن يسأل عنه أحد ، والطريق لتحقيق العدالة والمساواة تفعيل المؤسسات الرقابية والتشريعية والقضائية ، بشكل صحيح وسليم وحر بعيد عن الوصاية ، والاستبداد ، مرة أخرى .
والله تعالى من وراء القصد .
في الإثنين 12 فبراير-شباط 2007 05:15:07 م