ياسين سعيد نعمان
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 9 سنوات و 6 أشهر و 30 يوماً
الخميس 09 إبريل-نيسان 2015 08:29 ص

ليس من حق ياسين سعيد نُعمان أن يصير أحمق!

سأختار هذا المدخل، مقتبساً إياه من مقولة لنيتشه في "عدو المسيح" تعليقاً على إيمانويل كانت حول الأخلاق.

تحترق اليمن من كل الجهات وينظر سعيد نعمان إليها من الأعلى فلا يرى سوى محمد اليدومي. ومحمد اليدومي هو زعيم حزب الإصلاح وكان صديقاً لنعمان عندما كان هذا الأخير ليس لديه في صنعاء من أصدقاء أقوياء.

رأى الحزب الاشتراكي قبل أشهُر أن سقوط العاصمة في يد رجل الدين الحوثي مكسباً وطنيّاً ضخماً يرفدُ تاريخ الحركة الوطنية بصورة مؤكدة. قالت مبادرة الحزب المقدمة إلى بن عمر إن على اليمنيين أن يعملوا كل ما من شأنه لرعاية تلك المكتسبات. كما لو كان الحزب يقول: علينا أن نحتفي بسقوط صنعاء في يد الميليشيا الحوثية. بالموازاة دوّن نعمان موقفه الشخصي معتبراً سقوط صنعاء حدثاً هاماً خلق فضيلة عظيمة، وتلك الفضيلة في رؤية ياسين هي: تساوي القوى "بقع البارود، وعبور المضيق. ي. س. نعمان".

غير أن رجلَ الدين ذاك، فاتح صنعاء وعدن، قرّر اقتحام القرية التي جاء منها نعمان مذكّراً الأخير بملاحظة نيتشويّة "حتى عقل باسكال أفسدته المسيحية". ولم يكن باسكال، بالنسبة لنيتشه، سوى عقل عظيم خرّبته الخرافات الدينية. وتلك لم تخرّب عقل عبد الملك الحوثي، فهو ليس باسكال، بل دفعته لتخريب قرية نعمان.

وهل مهّد سقوط صنعاء في يد الحوثي لعصر القوى السياسية المتكافئة؟

عندما أعدّت صحيفة الشرق الأوسط تقريراً عن الجيش اليمني توصّلت، بعد تحرّ طويل كنت جزءاً منه، إلى كشف مذهل: يدين حوالي 40 لواءًا من قوّات النخبة في الجيش اليمني لعلي عبد الله صالح. وأن 30% من ترسانة الجيش الذي يدين، كلّياً، بالولاء لصالح تكفي للهيمنة على كل اليمن. وقد استخدم العميد أحمد عسيري، ناطق التحالف، جملة ذات دوي في وصف قوة الحوثي وصالح: لقد حوّلوا كل اليمن إلى مخزن للذخيرة.

ولم يكن ذلك وضعاً يشي بتساوي القوى يا نعمان!

ثمّة تقارير ميدانية متلاحقة تتحدث عن 70 إلى 80% من ترسانة الجيش اليمني الآخر، غير النخبة، ذهبت إلى عبد الملك الحوثي. ولم يكن ذلك المشهد يوحي بتساوي القوى من أي وجه، بل بأمر آخر: الفضيلة هي القوة، ومن حق القوي أن يحكم كما يرى مكيافيللي.

عجز ياسين سعيد نعمان، وهو رجل منوط به تفكيك المسائل المعقدة وشرحها لأولئك الذين لا يجدون الوقت الكافي ولا القدرة لفعل كهذا، عن فهم خارطة القوى الجديدة. وبدلاً عن ذلك خاض نعمان حرباً عميقة ضد اليدومي. والأخير ذهب إلى هادي، قبل سقوطه، طالباً منه أن يلغي قرار تعيين نعمان سفيراً في لندن ف"الرجل انفصالي، ولبريطانيا مطامع في الجنوب" جادلت جماعة اليدومي.

هذا الموقف !الروائي! سيتحكم في مزاج ياسين سعيد نعمان وسيسلبه خياله وقواه! وسيرى اليمن، كل اليمن، من خلاله. سنعود إلى هذه الفكرة فيما بعد.

بالعودة إلى "المضيق" و"بقع البارود" لنعمان يمكن للقارئ أن يعثر على مفردة "القوى" كالتالي:

20 مرّة في بقع البارود، و40 مرة في عبور المضيق.

يكتب نعمان بتلك الطريقة التي لا تقول شيئاً، ويستهدف خصومه بجملة "بعض القوى" منتجاً نصوصاً لا تصلح للتاريخ. عاش الرجل في صنعاء وأصابه غبارها، وهي مدينة لا تنتج سوى الضغائن والأحقاد وتعطّل القدرات الكلّية للكائن. إنها مدينة الاختزال العظيم، حيث تتحوّل القضايا الرقمية إلى ظنون، والكلّيات إلى مكعبات. حيث لا يحيل المثقف إلى دراسة، ولا السياسي إلى رقم، ولا الاقتصادي إلى رسم بياني. وفي مساحة بالية قطرها عشرون كيلو متراً، من المطار حتى حزيز، تعيش كل الطفيليات والأساطير الدينية والقتلة والأفندية الذين يكتبون أكثر مما يقرؤون. ولا يجري في هذا الخليط من ماء، فيبقى معكّراً ودبقاً ومعدياً. وقد سقط نُعمان في كل ذلك الدبق وتعطّل، تعطّل كلّياً.

ليس من حق ياسين سعيد نعمان أن يصبح رجلاً أحمق.

ولم تكن الحرائق التي تجري الآن في عدن نتاجاً لتساوي القوى، كما ذهب نعمان. ولا هي محرقة جديدة لحلف 94م، كما كتب أخيراً. ففي العام 94 ـ وفقاً لعيدروس النقيب ـ ذهب كل الشمال وثلاثة أرباع الجنوب لإسقاط عدن، ولم تكن المدينةَ التي تنهزم بسهولة لولا ذلك الحشد العظيم. وهي الآن تتلقى وابلاً ضخماً من النيران من قبل أولئك الذين قال عنهم نُعمان إنهم أصدقاء، وأن لديهم مهمات خاصة في صنعاء وحسب، وسيعود كل شيء بعد ذلك إلى طبيعته. من قبل الحركة الفتيّة وجناح "اليسار الجديد" في الحركة تحرق نوافذ عدن المطلّة على البحر.

عدن التي يعدها ياسين الآن بالانتصار تواجه حلفاء ياسين سعيد نعمان وأصدقاءه. ففي المؤتمر الوطني الأخير للحزب، حيث جرى تسليم الحزب لشخص آخر، دُعي الحوثيون لإلقاء خطاب نيابة عن كل قوى المجال السياسي. الرجل الذي ألقى خطاب الحوثي في مؤتمر الحزب الاشتراكي كان قد ترك بندقيته لدى الأمانات، ورؤيَ ذلك الفعل عظيماً، وقد صدّقه الرجل نفسه حتى إن خطابه مجّد الدولة المدنيّة، وامتدح مساهمات المُضيف في إنتاج تلك الدّالّة المرموقة. والدولة المدنية التي وافق نعمان على تعريفها في تلك الاحتفالية هي تلك التي تضع البندقية لدى الأمانات، وتستلمها عند خروجها!

أما نعمان فأعلن في المؤتمر نفسه نعي اللقاء المُشترك، قائلاً "لم تعد تربطنا قضايا مُشتركة" وفيما يبدو كانت صورة اليدومي تتخايل أمامه وهو يهمس في هادي "لبريطانيا أطماع في الجنوب، والرجل يجري الدم الانفصالي في عروقه". وقال نعمان، غامزاً رفيقه في المشترك، إن على من يريد أن يلحق بركبه أن يتخلى عن السلاح وخوض الحروب ويتفهّم الطبيعة المدنية لبنية الحزب. ثم نظر إلى ممثلي الحوثي وابتسم، فقد كانوا في ذلك النهار متفهّمين للطبيعة المادية للحزب الاشتراكي اليمني، ومتناغمين معه. وفهموا هم أيضاً أن الرجل يمجّد عملهم المدني واكتراثهم الحمِيد بالمدنية الصافية، حتى وهم يبحثون في الخريطة عن موقع عدن!

إنه لمن المؤسف، بحق، أن يعجز القارئ عن فهم الموقف الأجد لسياسي كبير مثل ياسين سعيد نعمان بمعزل عن ضغائنه وحروبه الشخصية. هل بالمقدور دمج مقولات نعمان عن حتمية اللقاء المشترك لمواجهة فساد السياسة! مع تلك التي تقول إنه لم تعُد ثمة من قضايا مشتركة بعد أن سيطرت الميليشيات على الدولة واحتلت المجال العام ثم اخترقت الحقل الخاص وباشرت عملية تخريب الماضي، وأسدلت ستارة سوداء على المستقبل.

يقدم نعمان، السياسي الكبير، فكرة تقول إن سقوط الدولة أمر أقل أهميّة من قانون الانتخابات فقد استدعى الأخير تحالفاً، بخلاف الأول.

لقد سيطرت معارك نعمان الخاصة على عقله. وكان رجلاً يملك الكثير من العقل والمعرفة، وتلك كانت وسائله، لكنه ألقى بكل ذلك في طريق السيل بعد أن تأكد أن السيل يجري.

 

عندما طُرح في الحوار الوطني مقترح تقسيم الجنوب إلى إقليمين غضب نعمان، واحتجب. وعندما نصب الحوثي شعاره الديني على بنادق الحرس الجمهوري واتجه جنوباً أعلن الاشتراكي مبادرة جديدة: قرّرنا أن نكون قوّة موضوعية ثالثة.

وتلك القوة الموضوعية الثالثة كانت هي باب كوريغان السرّي للإفلات من الناس المحتشدين أمام اللجنة المركزيّة. وكانوا يطالبون الاشتراكي بموقف حقيقي يتناسب مع الطبيعة المادية للمأزق التاريخي. اختارت جماعة نعمان الحياد الموضوعي!

أمام فكرة تقسيم الجنوب إدارياً غضب نعمان واحتجب، وكتب مقالة فارهة "عبور المضيق" استخدم فيها إشارته الخفية "القوى" أربعين مرّة، واتّهم صراحة وبوضوح كل الذين اختلفوا مع مبادرته "الفنّية" بالخيانة الوطنية "راجع عبور المضيق". استخدم نعمان كل شوارع الكلام ومنحنياته ليخلص إلى استنتاج ضامر يقسم طاولة ال "16" الأخيرة في موفمبيك إلى وطني نبيل ووحيد،هو، وخونة يستندون "إلى إرادة سلطوية". حتى وهو يتصارع مع مواطنه علي عشال في آخر لقاءاته بموفمبيك وتصدّر مشروع عشال عملية التصويت كان نعمان يغمغم كأنه شخصية روائية من زمن بلزاك "كلهم سقطوا، كلهم خونة".

وقرّر أن يعمل سفيراً في لندن، وأحال حزبه إلى رفيق جديدٍ لم يلبث أن التقط أكثر الصور التذكارية تشويقاً مع قيادات الحوثي في صنعاء. وأولئك نشروها، بالطبع، متحدّثين عن "اليسار الجديد".

هل يحق لسياسي كبير أن ينتحر على ذلك الشكل؟

أن يختار "الحياد الموضوعي" أمام حرائق تعز والجنوب، والقطيعة السياسية والغضب العارم أمام تقسيم الجنوب إداريّا؟

لقد ذهب نعمان بعيداً في تحالفاته مع الحوثيين حد احتفائه الملتوي بسقوط عمران "راجع افتتاحية الثوري بعنوان عويل المهزوم". وبدلاً عن إدانة الميليشيا الدينية المسلّحة بالآلة الثقيلة اتّجهت الكتابة الاشتراكية ناحية إدانة الضباط الذين قتلهم الحوثي. لقد كانوا متمرّدين، ليكُن، غير أن تلك الكتابة تجنّبت كلّياً الحديث عن الطبيعة المادية والأخلاقية لتلك الآلة التي قتلت المتمرّدين في الجبل، وبعد عام أحرقت عدن التي على البحر. والضابط الذي قتل متمرّداً، كما تقول الكتابة النعمانية، لم تقتله جمهورية أفلاطون! وتلك الآلة القاتلة ظلّت تتحرك في فراغ السياسة ومكائد النخب في صنعاء، ثم وضعت البندقية في ظهور الجميع. ومؤخراً رفعتها عن عنق القوة الموضوعية الثالثة عندما تأكّدت أن الموضوعية ليست سوى مرادف لغوي للاحتجاب والاعتراض عبر اللافعل.

 

السياسي الذي اكتشف فجأة أن حركة الحوثي وحشيّة عندما رأى دباباتها في المُعلّا هو رجل بلا خيال في الأساس ولا يصلح للحديث عن المستقبل. إذ هو رجل لا يستطيع تخيّل ما سيجري بعد ثلاثة أشهر!

والحوثية حركة قادمة، بصورة شاملة، من الماضي بكل تناقضاته المستعصية. وكان نعمان أحد رجلين: يجهل حقيقة ماضيها، أي يجهل الماضي. أو متواطئاً مع نقائضها ومخاطرها نكاية برجل وشى به!

يا لتشابه العقل السياسي في صنعاء. تلك المدينة توحّد كل الخصوم ضمن النوع ذاته ثم تفرّقهم في الدرجة. وكان صالح قد قال لعشيقته، كما روَت لي عندما التقيتها في مدينة أوروبية، إنه سيعمل كل ما يقدر عليه حتى "أنزّل حميد من فوق الصّعْبي". وتلك الحرائق التي تجري في الوطن ليست سوى زفة شعبية ترافق نزول حميد من فوق الصعبي!

وبدا المجال السياسي اليمني مليئاً بتلك الثنائيات: كل واقف على الأرض لديه خصم "فوق الصعبي" يريد الإطاحة به. ومع سقوط كل أولئك الخصوم من فوق الصعبي امتلأ الفضاء بحمير شاردة.

وهل يملك السياسي الحق في أن يبني جسوراً، بصرف النظر عن طبيعتها، مع ميليشيا دينية تتحرك في عربات مدرّعة وتتحسس العالم من خلال ماسورة بارود؟

لا بدّ وأن ذلك السياسي قد تعطّل كلّياً.

الرصيد النضالي الذي أضافه الحوثي إلى الحركة الوطنية، كما تقول مبادرة الحزب، ها قد فاض أخيراً وأغرق عدن.

لنعُد إلى نُعمان..

رأى عدن تحترق، و"اليسار الجديد" يقصفها بالصواريخ والدبابات ويعلنها أرضاً للجهاد السماوي الفاقع. وكعادته في أيامه الأخيرة ذهب نعمان يهاجم رفيقه محمد اليدومي! وفي مقاله الأخير شنّ نعمان هجوماً بشعاً على الذين يبكون على عدن، من القوى السياسية بالطبع، وعتاباً على المهاجمين. وصف المهاجمين بأنصار الله، مخاطباً إياهم بأحب الأسماء إليهم، ثم تفرّغ لمن أسماهم "النائحة المستأجرة التي لا تربطها بأهل العزاء صلة". وكان يقصد محمد اليدومي، الرجل الذي ذهب إلى هادي وقال له "لا ترسل نعمان سفيراً إلى لندن، فالرجل انفصالي، ولبريطانيا مطامع في الجنوب".

شخصياً، ككاتب ومتابع، لا أجد تفسيراً آخر لظاهرة نُعمان. أعني للتجليات الأخيرة لنعمان. عدت إلى كل كتاباته فوجدته غارقاً في صراع رمزي عميق مع محمد اليدومي ولم أفهم طبيعة الصراع. أما نُعمان فقد فرّ من الحقائق كعادته، واكتفى بالحديث عن بعض القوى. وبقيت المادة الجاهزة للتحليل هي تلك التي تقول إن اليدومي وشى به إلى هادي.

يا لبؤس هذا التحليل!

حتى عندما تواصلت مع سياسي كبير يرافق هادي وسألته لماذا أصر الاشتراكي على عودة هادي رئيساً بعد وضعه في الإقامة الجبرية فقال لي الرجل ـ بحكم قربه من هادي ـ إن ذلك كان بضغط من نُعمان بعد أن وصلت الموافقة الأمنية من لندن وبقي توقيع الرئيس!

آمل أن يعذرني نُعمان، ولكني لا أفضل الكتابة على طريقته والاختباء وراء "بعض القوى". فكل ما يجري على الطاولة لا بد أو يوضع فوقها، للتاريخ. أعني: بصرف النظر عن دقّة التخمين الذي قدمه السياسي المقرّب من هادي.

وليس هذا ما دفعني للكتابة عن ياسين سعيد نعمان، بل أمر آخر..

في المقالة الأخيرة مجّد نعمان المقاومة المسلّحة في عدن، وفي الضالع. وصف المقاومة المسلّحة في الضالع بالأبية، وفي عدن بالباسلة. كان فخوراً بتلك المقاومة حتى وهي تستلم أسلحة من قوّات التحالف، حتى وهي تستند إلى ضربات الأباتشي السعودية والبارجات الحربية السعودية. أنا أيضاً فخور بتلك المقاومة، ولا أرى بديلاً عنها. لكن نعمان وصل للتو ومجّد فقط مقاومة قريته، لا كل القرى. وكنّا نمجّد المقاومة منذ خرج أبناء حجة في 2011 ضد الأرتال العسكرية المتشّحة بنفايات الأديان.

لا يترك نعمان السؤال شريداً، وسرعان ما يمد القارئ المنتبه بإجابة دقيقة. فعدن تملك الحق في حمل السلاح والدفاع عن نفسها لأنها "قلب الدولة المدنية وعقلها". وهذه نظرية لم أجد، فيما أعلم، ما يشبهها من قبل. وفي تقدير نعمان ففي المناطق الهمجية، أي غير المتحضّرة، فإن حمل السلاح يصبح صراعاً طائفياً ودينياً. ولست أدري، حقيقة، لماذا يرى نعمان المقاومة في الضالع عملية أبيّة ومجيدة والضالع ليست قلب الدولة المدنيّة!

هذا التناقض المفزع، والمستعصي يغمر المرء بالذهول والشرود الأسطوري.

يرى نعمان أن قريته متحضّرة ويحق لها الدفاع عن نفسها. أما القرى الهمجية فهي طريق للسيل، يدخلها وقتما يشاء.

ولكن هل كانت حجة همجية، بالفعل، كما يلمح نعمان؟ هل ينبغي للسياسي أن يتحدث على هذا النحو؟ هل كان نعمان على الدوام يمنياً أم صبيحيّاً؟

لم يكن الموقف الجديد موقفاً دائماً لنعمان فيما يخص المقاومة المسلحة في مأرب وعمران وتعز. بخلاف كاتب المقال، على سبيل المثال، وهو شخص يرى أن مأرب تملك الحق الكافي في الدفاع عن نفسها ضد أي قوة مسلّحة "تحت دولية" تحاول الاقتراب من أراضيها وفرض هيمنتها وقانونها. وأن ذلك الحق ينسحب على عدن والمكلا، وعلى كل بقعة. وأن الهمجية والحضارة مسألتين لا تحضران في غياب الدولة.

لا بد للضالع أن تحمل السلاح ضد الهمجية الدينية، فلا فرق بين مقاومة العراقيين لداعش واليمنيين للحوثي، وداعش في الأساس جماعة عراقية، كما الحوثيون يمنيّون. أما العنصر الخارجي في داعش والحوثي فيكاد يكون متطابقاً من حيث الدرجة والنوع. والجماعتان تنطلقان من مرجعية دينية متطابقة تمنحهما الحق الكامل في إدارة شؤون البشر، وهما جماعتان ترفعان إصبعيهما إلى السماء.

والسياسي رجل يشير بأصبعه إلى الأرض. أليس كذلك يا نعمان؟

وعندما سقطت عمران ذهب نعمان في عشرات المناسبات يقول إنه حذر بعض القوى من استخدام السلاح في عمران وحجّة، أي مواجهة الحوثيين. أي كان واقفاً منذ البداية ضد كل أنواع المقاومات "الباسلة والأبية" التي سيتذكرها فيما بعد عندما اقتربت الجحافل الهمجية من قريته!

أشعر بدوار، وأكاد أفقد القدرة على القراءة. ماذا يريد نعمان القول؟

وليس هذا ما دفعني للكتابة عن نعمان. في الواقع كان أمراً آخر.

فقد كتب ياسين سعيد نعمان في مقاله الأخير معاتباً الحوثيين، وقال لهم إن هناك من ورّطكم فيما يجري في الجنوب. وفي تقديره فقد كانوا ضحايا لنواياهم الحسنة ولبراءتهم الحميدة. وعبر كلمات مليئة بالتضليل خلُص نعمان إلى ثلاثة استنتاجات:

الأول: الحوثيون ضحايا، جرى توريطهم في عدن، وهم في الأساس ليس لديهم مطامع حقيقية في الجنوب، ولا داعموهم الدوليون.

الثاني: صالح قام بتوريط الحوثيين، الذين لم يكونوا يفكّرون بدخول الجنوب، ووقعوا ضحايا نواياهم الحسنة.

الثالث: فهلوة الإصلاح هي التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.

لاحظ أن نعمان يقول إن الفهلوة وليس الدبابات هي التي أفسدت الأرض!

في الواقع، هو لم يقُل الإصلاح. فنعمان يستخدم الإشارات وحسب. وهذه المرة قال "كثيرون" ولم يقل الإصلاح. وفي كل مقالاته لا يشير إلى قوة سياسية أو كاتب بالاسم ـ ما عدى مرّة واحدة أشار إلى اسمي قبل عامين. لكنه دائماً يشير إلى الحوثيين بالاسم، على غير عادته. وغالباً ما يخاطبهم بأحب أسمائهم "يا أنصار الله". ويكاد المرء يسمع إجابتهم "لبيك وسعديك". إلى آخره.

قدم نعمان إلى صنعاء، وابتلعته آلهة الشماليين الرثّة فعامَ في فلكها ودخل في مداراتهم حتى صار واحداً منهم.

ومع مر الأيام فقد نعمان ملامحه، ثم ضل الطريق إلى الشماليين ومكثوا يتراءون له من بعيد. أما هو فقد أفسدته تلك اللعنة بعد زمن طويل من العقل المحض. وها قد أصابته، أخيراً، لعنة فريدريش نيشته وهو يقول:

"فلنحدق في وجوهنا إننا شماليون،

ونعرف معرفة وافية الجزء الذي نحيا فيه.

لا في الأرض ولا في المياه ستجد الطريقَ إلى الشماليين.

حتى بندار قد عرف هذا عنّا".

وكان يقصد شمال الكوكب، أو طرف الأرض.

ولأكن واضحاً، بصرف النظر عن كل ما سبق:

 

لو خيرت بين طريقين لا ثالث لهما: خلف نعمان أو اليدومي سأمشي خلف نعمان. ولو أتيحت لي فرصة ثالثة فسأمضي بعيداً عنهما. وهذا ما أفعله.